قالوا لها: أنت أنثى..
خجلت.. تقلصت.. ثم انزوت.. وانطوت، واخفت وجهها الجميل وراء القناع.
وحين خرجت إلى النور بعد دهور طويلة فاجأتها غمزات الرجال..
-عودي إلى هناك، إلى ركنك الصغير.. لا تستبيحي حرمة النساء.. أتودين التحليق في أرجاء الفضاء؟؟
ارجعي إلى بيتك.. اختفي وراء جدرانه.. فأنت ما زلت طفلة تحبو.. تعلمي السير الصحيح، ثم اخرجي إلى الضياء وإلا فاختاري العتمة.
انكمش جلدها اللدن، شحب لونه، غدا خريفيا، كثير التجاعيد.
بحثت عن نفسها في الماضي البعيد.. الموغل في القدم.. اكتشفت بعد تعب طويل أنها كانت حلوة، ناعمة، قوية، قادرة على زرع العشق والاحترام في قلوب الرجال، رأت.. ولعظم دهشتها أن امهات امهاتها.. كن رائعات وجدّات آبائها كن عظيمات أيضاً.
تساءلت عن سر ذلك التغير الذي حلَّ ببنات جنسها، ولما أدركته بكت بحرقة.
أيقنت.. أنه لا بد لها من قفزة.
خرجت من جديد، فأعمى عينيها النور الباهر..
رجعت إلى البيت، اختفت وراء الجدران العالية، يملؤها الإحساس بالهزيمة..
في صمت مهيب.. بدأت تكتشف الطريق.. وتتعلم.. كيف تخطو في الظلام؟؟
من أجل طرد الاشباح وشياطين الجهل.. تزودت بشمعة مضيئة ثم بشمعتين.. ثم استبدلت الشمعات بمصباح ساطع..
مارست تجاربها العديدة.. كَبَتْ ثم نهضت وقد اعتاد نظرها على النور القوي..
فتحت باب بيتها من جديد.. لاحظت قرص الشمس، يتصدر كبد السماء.. والحر لافح من حولها.
غطت عينيها براحتيها.. ثم رفعتهما.. فتحت جفنيها ببطء شديد.. ثم ابتدأت تتأمل الطبيعة من حولها.. وقد نسيت الخوف والتردد.. أحست أنها تحتاج لسنوات طويلة لتتعلم أغنية الحياة.. وعشرات السنين لتتقن الرقص على إيقاعات العصر الحديث.
عارية وجدت نفسها أمام مرآة الحياة..
تأملت جسدها الفارع الممتلئ بكنوز الرغبة، ثم أشاحت بوجهها عما يثبط همتها.
أرادت أن تقول شيئاً للآخرين.. وحين وجدتهم لا يلتفتون لكلامها، انعقد لسانها، وأحست بالعجز.. فاض الحسن من هضابها ووديانها وروابيها الخالدة.. وشكل جداول من عصارة الكروم الخيرة.
لم تقل شيئاً.. ظلت صامتة.. ولكنها باحت بأشياء كثيرة.. تعلمت أن صمت المرأة هو سرُّ جمالها.. فصمتت، وتركت مواطن الفتنة، تتحدث عن نفسها..
لم يرضها أن يكتفي الآخرون بتأمل جمالها..
أحست بالإهانة.. وغطاها الخزي، فهي ليست سلعة تعرض في واجهات المخازن.
فاض فمها بكلمات مارقة.. تحمل من التمرد الشيء الكثير.. غابت في محيطات من العنفوان، والكبرياء، والثقة.. غنت من جديد نغم الحياة.. قبل أن تمضي عليها سنوات قليلة.
وأتقنت الرقص على إيقاع المتغيرات الجديدة.. وهي ما زالت في ربيعها الندي الزاخر بالخصب والعطاء.
سمع الآخرون الغناء، فانتشوا من خمر طيب الفكر وسحر الكلام..
ورأوها.. ترقص في لجج الأحداث.. على أنغام الرفض والإصرار.. وصوت الحقيقة والواقع، فأعجبهم رقصها، وسحرهم غناؤها..
تمايلت بقدها الأهيف.. وسهام الفكر تنطلق من رأسها المشع بأسرار الوجود.
غدت أكثر جمالاً.. وأكثر إيقاعاً. وازدادت أعداد المعجبين بها..
شهقت.. وحلقت على أجنحة السعادة، وهي ترى الكون يفتح ذراعيه لها.. وقد امتد أمامها كفارس مشتاق.. يحتضن معشوقته، بعد أن فك عنها الحصار.
اتخذت مكانها في صدره.. اتسعت بوجوده.. واستسلمت لألوان المعرفة الحياتية.
غنت بصوت مرتفع.. فأصغى الكون إلى غنائها الإنساني الرائع.
صدحت على مسرح الحياة.. وأنصت الآخرون إلى أوبرا حياتية.. ممتلئة بالأحداث.. مصبوغة بالغنى.. ملونة بالمفاجآت..
رأت وجه الحظ.. الذي خلقته بيديها الاثنتين.. وارتاحت لجمال قسماته.
انتشت.. وهي تصغي لدقات قلبها المتدفق بدماء الواقع.. وحين تأملت وجهها المنعكس علىصفحة المرآة، أصابتها الدهشة.. أطلت أمامها امرأة لم تعرفها من قبل.
ابتسمت، وافتر ثغرها عن ابتسامة مشفوعة بالثقة والتواضع والكبرياء..
ارتاحت كثيراً.. لأنها لم تعد تنعي حظها، أو تخفي حبّها للوجود.
خرجت هذه المرة.. ولم تعد إلى البيت بسرعتها القديمة نفسها ، بل عادت ببطء شديد.. يملؤها الفرح والإحساس بالنصر