تشرّد

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : رياض خليل | المصدر : www.awu-dam.org

 

 

حدث هذا في أواخر شهر آب من العام 1995م في مطعم يربض على شاطئ مدينة طرطوس. كان الوقت صباحاً.‏

قال نبيل: اخترقت الاستغاثات المتلاحقة رأسي كطلقات الرصاص. انتزعتني من أغلال نومي الثقيل.. بادئ الأمر.. توهمت أنني أحلم، لكن تواصل صرخات الاستنجاد.. قطعت عليّ شكوكي وأوهامي، وتيقنت من صحوتي

.‏

أخذ صراخ الصبي يتحول في أعصابي إلى صدمات كهربائية مؤلمة، فانتفضت واقفاً، وهرعت لاستطلاع مايجري، بينما تعكّر الصباح الرائق في عينيّ. فكرة واحدة استولت عليّ: إنقاذ الصبي.. مهما كانت الأسباب. وبغضّ النظر عن النتائج.‏

رأيت المشهد الفظيع. وفار الغضب والنخوة في رأسي، وسخرت من عبارة: "الإنسان حيوان عاقل"!؟!‏

- أغيثوني... دخيل الله..التوبة.. التوبة...‏

ورأيتني أردّ على كلمات الصبي الجريحة هذه، بصراخ وزعقات حيوانية شرسة. وأنا ألتقط عصا، لا أدري كيف عثرت عليها، وأندفع كالمجنون نحو الجَمْعَة اللابشرية مهدداً:‏

- ابتعدوا... ابتعدوا عنه أيها الحمقى الأوغاد، ابتعدوا وإلا فسأضرب وأقاتل حتى الموت.‏

كان عدد من شغيلة المطعم يتحلقون حول الصبي، أحدهم يدلق عليه الماء البارد، بعد أن جردوه من ثيابه، وآخر ينهال على جسده الطري ّالمبلول ضرباً مبرحاً، بأنبوب ماء مطاطي (نربيج)، والصبي يتوجع ويصرخ معولاً، ازرقّ جسمه واحمرّ من أثر الضرب الوحشي وترك النربيج آثاراً شنيعة على جسده.. لقد أكل من لحمه الطري بقسوة. وجه الصبي احتقن... كاد يختنق ويموت ألماً ورعباً. وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره. وكان بقية الشغيلة يتفرجون بلا مبالاة. وبعضهم يهوشون ويحمسون الشغيل الذي يضربه للاستمرار في تعذيبه وضربه. وتساءلت عما إذا كان هؤلاء من طينة البشر! ياللهول!! ويالوحشية الإنسان العصرية!!‏

تحولت إلى حيوان مفترس، لمقاومة الذئاب والضباع، وتخليص ذلك الأرنب الصغير البائس من بين براثنها وأنيابها. وكنت مقتنعاً إن قوانين الغابة لا تزال سارية المفعول تحت جلد حضارتنا المزعومة.‏

حينما شاهدني الجميع في تلك الحالة.. ذعروا وفوجئوا.... فتراجعوا وتجمدوا كالتماثيل، اتسعت أحداقهم وفغرت أفواههم دهشة وفضولاً وترقباً. قلت بلهجة آمرة حازمة وجازمة:‏

- آمركم بالابتعاد عنه. اليد التي ستمتد إليه سأقطعها..‏

حاول الشغيل الذي كان يضربه أن يتكلم... فزجرته...‏

- اخرس... وانتظر حتى أرى ما المشكلة... وليمض كلٌّ في حال سبيله.‏

تفرّقت اللمّة الآدمية. وبقيت والصبي وحدنا.‏

كانوا قد أوثقوا يديه الصغيرتين، ورجليه بشدّة. وكان الصبي مايزال يرتعش وينشج، على الرغم من براعم الاطمئنان التي راحت تتفتح وتلتمع في عينيه وأسارير وجهه البريء، رمقته بحنان، وأنا أطمئنه:‏

- لا تخشَ أحداً... ما دمت أنا معك. لن أدع أحداً يؤذيك...‏

وكان أول مافعلته هو حلّ وثاق الصبي... بهدوء ورفق، ثم ألبسته ثيابه، بعد أن جففت جسده بعض الشيء، وظل الصبي صامتاً لا يقوى على الكلام. أخذته إلى غرفتي الخاصة، حاول أن يتكلم، وطلبت منه أن يؤجل ذلك حتى يلتقط أنفاسه.. ويهدأ، مسدت براحة كفي على شعره، وأنا أبتسم في وجهه برقة وحنّو.‏

عندما هدأ بعض الشيء. طلبت منه أن يحكي لي عما جرى. قال:‏

- أنا يتيم. مات أبي، أمي لاتقدر أن تطعمنا...‏

كان يتكلم بشكل متقطع من أثر الإرهاق والتوتر. وكانت كلماته ممزوجة بالبكاء والألم. سألته:‏

- من أنت؟!‏

- من بلدة "الضمير"...‏

- وماجاء بك إلى هنا؟!‏

- أمي تركتنا نفتش عن شغل في أي مكان لنحصل على الطعام، رحت أشتغل هنا وهناك.. حتى وصلت إلى هنا. أخدم في هذا المطعم بأكلي وشربي...‏

- ألا يعطونك أجرة؟‏

- أجرة قليلة جداً. اضطرت لسرقة خمسمائة ليرة منه لأرسلها لأمي..‏

- ولماذا سرقت خمسمائة الليرة؟‏

-لأساعد أمي. أنا أحب أمي كثيراً. وأكره السرقة كثيراً. أمي أيضاً تكره السرقة، ولو سمعت بما فعلته لعاقبتني بشدة.‏

- هل طبت أمك المساعدة؟‏

- لا.. لم تطلب. ولكنها تقول: إن أختي الرضيعة مريضة، وأنها لاتملك ثمن العلاج... ولا ثمن الحليب لإطعامها، حليب أمي قليل لا يشبعها...‏

- السرقة جريمة. لا تحل المشكلة. بل تضيف إليها مشكلة أكبر..‏

- هذه أول مرة.. صدقني..‏

- ويجب أن تكون آخر مرة. ستخسر كل شيء لو فعلت ذلك.. ولن تجد من يشغّلك أو يساعدك..‏

- أعدك ألا أكررها...‏

نهضت. أخرجت من سترتي ورقة من فئة مائة ليرة، قدمتها للصبي:‏

- خذ، هذه أجرة سفرك إلى دمشق ومنها إلى "الضمير". حاول أن تجد عملاً في مكان قريب من أمك.‏

- وماذا... عن...؟‏

- لا عليك. أنا سأدفعها له. ولن أدعه يؤذيك...‏

دفعت المبلغ للشغيل الذي سرق منه، وطلبت منه أن يكفّ شرّه عن الصبي، وكنت قد رافقت هذا الأخير حتى صعد إلى الحافلة التي مضت به إلى دمشق.‏

نسيت أن أذكر: إن شغيلة المطعم وصفوني منذئذٍ بـ "المجنون