أشياء غريبة تحدث لي، ومن حولي! الناس لا يطيقون معاشرتي. الأصدقاء.. الأقرباء ينفضّون عني. تجتاحني العزلة، ينمو القلق كالأشواك في نفسي، تتزاحم الشكوك والأسئلة في رأسي، تملأ تشعبات وتعاريجه دماغي بضوضاء لا طائل منها، بعضهم نبهني إلى شحوب وجهي ونحول جسدي. نصحوني بالتفاؤل والصبر. لكن اليأس يكاد يسلبني إرادتي، لولا ذكراها القوية، التي تنقذني في اللحظة الأخيرة. تعلقت بها، تواعدنا، ولم يثمر الوعد حتى الآن، أحسّ بها تعرّش في تفاصيل جسدي، تزهر، تخضّر. تثمر. صورتها تشتد سطوعاً كشمس الظهيرة، تلك ابتساماتها تشعشع كالنجوم، تضيء دياجير فؤادي الهرمة. نظراتها المتراقصة تغرّد... تعزف ألحان الحب والبشرى. أنفاسها العليلة الريّا تسكرني، فأهيم، أحلق، أكتشف كوكباً، وآفاقاً، أنسى كل ماحولي، وأغرق في فضاء لا يكفّ عن الاتساع والصفاء. جرس الباب يرنّ، يفرّ الحلم. أفتحُ، يستحوذ علي الإحباط والخيبة. إنه مجرد واحد من الأصدقاء الذين يزعمون الحرص والمحبة لي. - تفضّل... - مابك؟ هل شربت شيئاً؟! جلسنا. سألني عن أشياء كثيرة، لكن ذهني ظلّ شارداً، لم أجبه. نهض. خرج بعد أن وعدني بالعودة لاحقاً... صفقت الباب وراءه، دفعتني بعض ألفاظه التي علقت في دماغي نحو الخزانة، كنت أضع فوقها ميزاناً، أنزلته، قست وزني، ذهلتُ، لم أتوقع ذلك الانخفاض الكبير لثقلي. وبحركة عفوية انتقلت لأقف إزاء مرآة الخزانة... أنعمت النظر في شكلي، كبرت دهشتي، لأنني لاحظت فرقاً بين صورتي كما تبدو لي، وبين الثقل غير الملائم لها. صحيح أنني نحيل نوعاً ما، ولكن نحولي لا يشير إلى أنني فقدت كل هذا القدر من وزني.. ظاهرة عجيبة!! تذكرت الرجل الذي زارني منذ لحظة، تمنيت لو أنه لم يغادرني... لو أنه يعود، فأسأله عن السرّ... والسبب؟! إذ ربما كنت مخطئاً في تقديري؟ ربما خانتني أحاسيسي؟! أو أنني أعاني من خداع بصري لا أفهمه؟! سرقني الخوف. وغرقت في جوّ من الكآبة والارتباك.. ولم أعد قادراً على التركيز، ما الذي حلّ بي؟ أتراني يبستُ كشجرة هرمة؟! أم اعتراني الذبول كوردة قصيرة العمر؟! ورحت أستعرض شريطاً من الأساطير، التي سمعت بها، وقرأتُ عنها، الأساطير التي تحفل بالظواهر العجيبة الخارقة، لعلني أعيش حالة من هذا القبيل؟! عاد الزائر، ابتهجتُ لقدومه، استغرب ابتهاجي، لأنني لم أقابله بمثل هذا من قبل، تبادلنا بعض عبارات ودية. ولم أصبر أكثر، هرعت.وجدتُ الميزان على الأرض، كنتُ قد نسيت إعادته إلى مكانه، أحضرته حيث يجلس الرجل- الصديق.وقفت عليه متلهفاً، نظرت إلى المؤشر.الذي استقر على الرقم إياه، طلبت من الزائر أن يشهد.. ويرى مقدار وزني.. وما إنْ وقف ونظر حتى عاد المؤشر للارتفاع إلى رقم أعلى بكثير من الرقم الذي كان يستقر عنده، استغربت تلك الظاهرة العجيبة، أنا أرى الرقم مختلفاً إذا نظرت إليه وحدي، أما عندما ينظر سواي إليه، فإنه سريعاً مايغير مكانه إلى رقم طبيعي؟!! ابتسم الرجل الزائر: "لابأس.. صحتك معقولة"... ثم عاد وجلس في مكانه. وجلستُ، وأنا أتساءل حائراً عن السرّ. الرجل: مابك؟!.. أراك عدت كماكنت في زيارتي السابقة لك؟! طلبت منه أن يقف معي إزاء مرآة الخزانة، ففعل..وسألته عن شكلي: - هل تجد تناسباً بين شكلي ووزني؟! - طبعاً... - شكراً.. تفضل لنجلس. وجلسنا.. وحدثته عن أفكاري وهمومي، ثم عن حبيبتي، التي فارقتني تاركة لي وعداً بالرجوع، وتحقيق الحلم المشترك... وبينما كنت أسرد حكاياتي، كان الرجل يتابعني باستغراب ودهشة واهتمام، ولم يستطع إخفاء ابتساماته ونظراته التي تكذبني وتهزأ من كلامي، وتتهمني بأشياء غير مستحبة، ولا متوقعة من رجل مثلي. وأحسست كذلك بمشاعر الإشفاق تفيض من وجهه حيالي، وفي النهاية قال: - أنصحك بمراجعة طبيب أمراض عصبية ونفسية؟ تجمدت أحاسيسي ومشاعري، وبدأ الغضب ينضح من وجهي، نهض الزائر خائفاً، وقبل أن يفتح فمه بكلمة صحت به: - اخرج أيها اللعين، إياك أن تكلمني بعد الآن. وخرج الرجل مسرعاً، طلباً للنجاة من شتائم أخرى، لكنه أكد لي: - بل سأعود، وسأقف إلى جانبك، لأن الصديق عند الضيق.. في هذه اللحظة جذبني صوت حبيبتي يصيح بي: - دعه.. إنه صديقك، ومن العار أن تطرده، لم يبق لك سواه، تذكر ذلك. التفت خلفي، لم أجد طيفها الجميل، الذي يعودني بين الفينة والأخرى. عدت إلى مجلسي، والتعب يثقلني.. ثم اختطفني الوسن في رحلة خرافية من نوع آخر.. داهمتْ نومي، بدتْ كالعروس في ليلة الزفاف. قالت: - حان موعد لقائنا، قريباً ستصعد إليّ. - أين؟! - إلى حيث يجب أن نعيش معاً. بسطت جناحيها وطارت مبتعدة حتى غابت عن عيني... كان وزني ينقص مع كل يوم من الأيام الشاردة من عمري . صممت على استشفاف الحقيقة من شاهد آخر، ووزني يقترب من الرقم صفر. نزلت إلى الشارع... حيث يوجد أكثر من ميزان لدى بعض المحلات التجارية، وقلت في نفسي:"ربما يوجد عطل في ميزان البيت الذي أستخدمه! إنه قديم. سأجرب ميزاناً آخر عمومياً".. وقفت عند ميزان يضعه صاحبه أمام محله التجاري. تأملته، أخرجت من جيبي قطعة نقود معدنية مناسبة، وقفت على قاعدة الميزان المخصصة لذلك. أدخلت قطعة النقود عبر الثقب المعد لإسقاطها في داخله، تحرك المؤشر، وأنا بأشد اللهفة لمعرفة الرقم الذي يعبر عن ثقلي.. استقر قريباً جداً من الصفر، صعقت! ذعرت! ماهذا؟! وقبل أن أنزل شعت فكرة في رأسي. إنها حلّ مقبول. أشرت إلى صاحب الميزان بيدي ليأتي إليَّ. جاء: - ماذا تريد؟ أية خدمة؟! - أرجوك.. نظري ضعيف.. هلاّ تفضلت عليّ بقراءة وزني... وعندما نظر الرجل إلى ساعة الميزان والمؤشر الذي في داخلها، فوجئت بالمؤشر وقد انتقل بغمضة عين إلى رقم مرتفع يتناسب وشكلي. وقبل أن يعلمني الرجل بالرقم نزلت، ورحت أركض كمن أصابه مسّ، بين المارّة، الذين أخفقوا في الإمساك بي. ولم أتوقف حتى صرت داخل منزلي. أحكمت إقفال الباب والنوافذ، ثم استلقيت على سريري، وأنا ألهث من شدّة الإعياء والرعب. اعتزلت في منزلي أياماً، جرس الباب يقرع سدى، كل يوم أقيس وزني، حتى بلغ الصفر، مع أن شكلي لا يتغير، وحجمي طبيعي، لكني كنت أحس بنفسي مثل رواد الفضاء، الذين يلهون ويتحركون كالريشة داخل مركبتهم الفضائية، جربت ذلك، وتأكدت منه، صرت أقفز في فضاء غرف البيت بخفة ورشاقة. أقف على السقف بالمقلوب، أو على الجدران بشكل أفقي مع أرض الغرف. وكنت سعيداً بهذا الوضع الخارق للطبيعة، هل هي معجزة؟ لكن أحداً لا يحس بها... كيف أقنعهم؟! سيناقشونني بقانون الجاذبية، وعلاقته بالثقل، الذي هو تعبير عنها. إنها مقولة علمية.. ولكن مامعنى أن أفقد وزني..ومن ثَم أن تفقد الأرض جاذبيتها بالنسبة إلي على الأقل؟! شيء محيّر.. مخيف... ومثير أيضاً.. لا أحد يصدق.. لأنني أفتقر إلى البرهان...البرهان؟!!... ها...ها...هنا طرف الخيط. عليّ أن أملك البرهان.. أن أصنعه... أصوغه... وأقدمه للناس من حولي... وأخيراً لم أجد سوى برهان واحد... خيار لابد منه.. وهو يتطلب مني الانتظار حتى ينتصف النهار، حيث يكون الخلق في ذروة اجتماعهم وحضورهم ونشاطهم... فيشهدون بأم أعينهم الحقيقة، دونما حاجة إلى وسيط منطقي، أعني البرهان. هذا ممكن. ثمة حقائق كثيرة تعرف مباشرة، ولا تحتمل التعليل والتأويل، غداً سيعرف الناس أن اللامعقول هو المعقول بعينه، وأن المستحيل بنظرهم ممكن الحدوث... في الصباح جربت الميزان للمرة الأخيرة.. فوجدتني عديم الوزن.. وعند النظر توجهت نحو باب الشرفة.. وكنت أقيم في الطابق السابع من عمارة شاهقة.. وقبل أن أفتح الباب.. رأيتها.. كانت حبيبتي.. تقف قبالتي. ويفصل بيننا الزجاج... حبيبتي التي لم ألتق بها في أي مكان من الأمكنة التي أعيش فيها.. هناك في العالم السفلي.. لا أثر لها، كنت أتأملها عندما أكون وحيداً، وكانت تولد من الهواء والماء والضوء، وتمّحي فجأة من أمام ناظري. هاهي تبدو كغيمة، تدعوني للحاق بها، على جناح الأثير.. فتحت باب الشرفة.. نظرت إلى الأسفل.. بدا الناس كالنمل والبراغيث.. أحسست بنفسي خفيفاً، صرت مثل هيكل مطاطي مجوف ومنتفخ يضغط عليّ غاز من الداخل.. غاز خفيف جداً، مثل غاز الهيليوم أو الهيدروجين، فوجدتني أغادر الغرفة والشرفة، وأنطلق في الهواء... نظرت إلى الناس في الأسفل... إنهم لا ينظرون نحوي، لا يشاهدون معجزتي.. برهاني هذا محزن.. مؤلم حقاً.. لأنهم لن يصدقوني.. ورحت أقترب منهم.. والهواء ينزاح ويهرب من حولي.. خفت.. وشعرت بالأرض والناس والأشياء تندفع بسرعة إلى الأعلى.. نحوي طبعاً، ولم أجد فرصة بعدها للتساؤل: هل عاد إليّ وزني؟
أشياء غريبة تحدث لي، ومن حولي! الناس لا يطيقون معاشرتي. الأصدقاء.. الأقرباء ينفضّون عني. تجتاحني العزلة، ينمو القلق كالأشواك في نفسي، تتزاحم الشكوك والأسئلة في رأسي، تملأ تشعبات وتعاريجه دماغي بضوضاء لا طائل منها، بعضهم نبهني إلى شحوب وجهي ونحول جسدي. نصحوني بالتفاؤل والصبر. لكن اليأس يكاد يسلبني إرادتي، لولا ذكراها القوية، التي تنقذني في اللحظة الأخيرة.
تعلقت بها، تواعدنا، ولم يثمر الوعد حتى الآن، أحسّ بها تعرّش في تفاصيل جسدي، تزهر، تخضّر. تثمر. صورتها تشتد سطوعاً كشمس الظهيرة، تلك ابتساماتها تشعشع كالنجوم، تضيء دياجير فؤادي الهرمة. نظراتها المتراقصة تغرّد... تعزف ألحان الحب والبشرى. أنفاسها العليلة الريّا تسكرني، فأهيم، أحلق، أكتشف كوكباً، وآفاقاً، أنسى كل ماحولي، وأغرق في فضاء لا يكفّ عن الاتساع والصفاء.
جرس الباب يرنّ، يفرّ الحلم. أفتحُ، يستحوذ علي الإحباط والخيبة. إنه مجرد واحد من الأصدقاء الذين يزعمون الحرص والمحبة لي.
- تفضّل...
- مابك؟ هل شربت شيئاً؟!
جلسنا. سألني عن أشياء كثيرة، لكن ذهني ظلّ شارداً، لم أجبه. نهض. خرج بعد أن وعدني بالعودة لاحقاً...
صفقت الباب وراءه، دفعتني بعض ألفاظه التي علقت في دماغي نحو الخزانة، كنت أضع فوقها ميزاناً، أنزلته، قست وزني، ذهلتُ، لم أتوقع ذلك الانخفاض الكبير لثقلي. وبحركة عفوية انتقلت لأقف إزاء مرآة الخزانة...
أنعمت النظر في شكلي، كبرت دهشتي، لأنني لاحظت فرقاً بين صورتي كما تبدو لي، وبين الثقل غير الملائم لها. صحيح أنني نحيل نوعاً ما، ولكن نحولي لا يشير إلى أنني فقدت كل هذا القدر من وزني.. ظاهرة عجيبة!!
تذكرت الرجل الذي زارني منذ لحظة، تمنيت لو أنه لم يغادرني... لو أنه يعود، فأسأله عن السرّ... والسبب؟! إذ ربما كنت مخطئاً في تقديري؟ ربما خانتني أحاسيسي؟! أو أنني أعاني من خداع بصري لا أفهمه؟!
سرقني الخوف. وغرقت في جوّ من الكآبة والارتباك.. ولم أعد قادراً على التركيز، ما الذي حلّ بي؟ أتراني يبستُ كشجرة هرمة؟! أم اعتراني الذبول كوردة قصيرة العمر؟! ورحت أستعرض شريطاً من الأساطير، التي سمعت بها، وقرأتُ عنها، الأساطير التي تحفل بالظواهر العجيبة الخارقة، لعلني أعيش حالة من هذا القبيل؟!
عاد الزائر، ابتهجتُ لقدومه، استغرب ابتهاجي، لأنني لم أقابله بمثل هذا من قبل، تبادلنا بعض عبارات ودية. ولم أصبر أكثر، هرعت.وجدتُ الميزان على الأرض، كنتُ قد نسيت إعادته إلى مكانه، أحضرته حيث يجلس الرجل- الصديق.وقفت عليه متلهفاً، نظرت إلى المؤشر.الذي استقر على الرقم إياه، طلبت من الزائر أن يشهد.. ويرى مقدار وزني.. وما إنْ وقف ونظر حتى عاد المؤشر للارتفاع إلى رقم أعلى بكثير من الرقم الذي كان يستقر عنده، استغربت تلك الظاهرة العجيبة، أنا أرى الرقم مختلفاً إذا نظرت إليه وحدي، أما عندما ينظر سواي إليه، فإنه سريعاً مايغير مكانه إلى رقم طبيعي؟!! ابتسم الرجل الزائر: "لابأس.. صحتك معقولة"... ثم عاد وجلس في مكانه. وجلستُ، وأنا أتساءل حائراً عن السرّ.
الرجل: مابك؟!.. أراك عدت كماكنت في زيارتي السابقة لك؟!
طلبت منه أن يقف معي إزاء مرآة الخزانة، ففعل..وسألته عن شكلي:
- هل تجد تناسباً بين شكلي ووزني؟!
- طبعاً...
- شكراً.. تفضل لنجلس.
وجلسنا.. وحدثته عن أفكاري وهمومي، ثم عن حبيبتي، التي فارقتني تاركة لي وعداً بالرجوع، وتحقيق الحلم المشترك... وبينما كنت أسرد حكاياتي، كان الرجل يتابعني باستغراب ودهشة واهتمام، ولم يستطع إخفاء ابتساماته ونظراته التي تكذبني وتهزأ من كلامي، وتتهمني بأشياء غير مستحبة، ولا متوقعة من رجل مثلي.
وأحسست كذلك بمشاعر الإشفاق تفيض من وجهه حيالي، وفي النهاية قال:
- أنصحك بمراجعة طبيب أمراض عصبية ونفسية؟
تجمدت أحاسيسي ومشاعري، وبدأ الغضب ينضح من وجهي، نهض الزائر خائفاً، وقبل أن يفتح فمه بكلمة صحت به:
- اخرج أيها اللعين، إياك أن تكلمني بعد الآن.
وخرج الرجل مسرعاً، طلباً للنجاة من شتائم أخرى، لكنه أكد لي:
- بل سأعود، وسأقف إلى جانبك، لأن الصديق عند الضيق..
في هذه اللحظة جذبني صوت حبيبتي يصيح بي:
- دعه.. إنه صديقك، ومن العار أن تطرده، لم يبق لك سواه، تذكر ذلك.
التفت خلفي، لم أجد طيفها الجميل، الذي يعودني بين الفينة والأخرى. عدت إلى مجلسي، والتعب يثقلني.. ثم اختطفني الوسن في رحلة خرافية من نوع آخر..
داهمتْ نومي، بدتْ كالعروس في ليلة الزفاف. قالت:
- حان موعد لقائنا، قريباً ستصعد إليّ.
- أين؟!
- إلى حيث يجب أن نعيش معاً.
بسطت جناحيها وطارت مبتعدة حتى غابت عن عيني...
كان وزني ينقص مع كل يوم من الأيام الشاردة من عمري . صممت على استشفاف الحقيقة من شاهد آخر، ووزني يقترب من الرقم صفر. نزلت إلى الشارع... حيث يوجد أكثر من ميزان لدى بعض المحلات التجارية، وقلت في نفسي:"ربما يوجد عطل في ميزان البيت الذي أستخدمه! إنه قديم. سأجرب ميزاناً آخر عمومياً".. وقفت عند ميزان يضعه صاحبه أمام محله التجاري. تأملته، أخرجت من جيبي قطعة نقود معدنية مناسبة، وقفت على قاعدة الميزان المخصصة لذلك. أدخلت قطعة النقود عبر الثقب المعد لإسقاطها في داخله، تحرك المؤشر، وأنا بأشد اللهفة لمعرفة الرقم الذي يعبر عن ثقلي.. استقر قريباً جداً من الصفر، صعقت! ذعرت! ماهذا؟! وقبل أن أنزل شعت فكرة في رأسي. إنها حلّ مقبول. أشرت إلى صاحب الميزان بيدي ليأتي إليَّ. جاء:
- ماذا تريد؟ أية خدمة؟!
- أرجوك.. نظري ضعيف.. هلاّ تفضلت عليّ بقراءة وزني...
وعندما نظر الرجل إلى ساعة الميزان والمؤشر الذي في داخلها، فوجئت بالمؤشر وقد انتقل بغمضة عين إلى رقم مرتفع يتناسب وشكلي. وقبل أن يعلمني الرجل بالرقم نزلت، ورحت أركض كمن أصابه مسّ، بين المارّة، الذين أخفقوا في الإمساك بي. ولم أتوقف حتى صرت داخل منزلي. أحكمت إقفال الباب والنوافذ، ثم استلقيت على سريري، وأنا ألهث من شدّة الإعياء والرعب.
اعتزلت في منزلي أياماً، جرس الباب يقرع سدى، كل يوم أقيس وزني، حتى بلغ الصفر، مع أن شكلي لا يتغير، وحجمي طبيعي، لكني كنت أحس بنفسي مثل رواد الفضاء، الذين يلهون ويتحركون كالريشة داخل مركبتهم الفضائية، جربت ذلك، وتأكدت منه، صرت أقفز في فضاء غرف البيت بخفة ورشاقة. أقف على السقف بالمقلوب، أو على الجدران بشكل أفقي مع أرض الغرف. وكنت سعيداً بهذا الوضع الخارق للطبيعة، هل هي معجزة؟ لكن أحداً لا يحس بها... كيف أقنعهم؟! سيناقشونني بقانون الجاذبية، وعلاقته بالثقل، الذي هو تعبير عنها. إنها مقولة علمية.. ولكن مامعنى أن أفقد وزني..ومن ثَم أن تفقد الأرض جاذبيتها بالنسبة إلي على الأقل؟! شيء محيّر.. مخيف... ومثير أيضاً.. لا أحد يصدق.. لأنني أفتقر إلى البرهان...البرهان؟!!... ها...ها...هنا طرف الخيط. عليّ أن أملك البرهان.. أن أصنعه... أصوغه... وأقدمه للناس من حولي...
وأخيراً لم أجد سوى برهان واحد... خيار لابد منه.. وهو يتطلب مني الانتظار حتى ينتصف النهار، حيث يكون الخلق في ذروة اجتماعهم وحضورهم ونشاطهم... فيشهدون بأم أعينهم الحقيقة، دونما حاجة إلى وسيط منطقي، أعني البرهان. هذا ممكن. ثمة حقائق كثيرة تعرف مباشرة، ولا تحتمل التعليل والتأويل، غداً سيعرف الناس أن اللامعقول هو المعقول بعينه، وأن المستحيل بنظرهم ممكن الحدوث...
في الصباح جربت الميزان للمرة الأخيرة.. فوجدتني عديم الوزن.. وعند النظر توجهت نحو باب الشرفة.. وكنت أقيم في الطابق السابع من عمارة شاهقة.. وقبل أن أفتح الباب.. رأيتها.. كانت حبيبتي.. تقف قبالتي. ويفصل بيننا الزجاج... حبيبتي التي لم ألتق بها في أي مكان من الأمكنة التي أعيش فيها.. هناك في العالم السفلي.. لا أثر لها، كنت أتأملها عندما أكون وحيداً، وكانت تولد من الهواء والماء والضوء، وتمّحي فجأة من أمام ناظري.
هاهي تبدو كغيمة، تدعوني للحاق بها، على جناح الأثير.. فتحت باب الشرفة.. نظرت إلى الأسفل.. بدا الناس كالنمل والبراغيث..
أحسست بنفسي خفيفاً، صرت مثل هيكل مطاطي مجوف ومنتفخ يضغط عليّ غاز من الداخل.. غاز خفيف جداً، مثل غاز الهيليوم أو الهيدروجين، فوجدتني أغادر الغرفة والشرفة، وأنطلق في الهواء... نظرت إلى الناس في الأسفل... إنهم لا ينظرون نحوي، لا يشاهدون معجزتي.. برهاني هذا محزن.. مؤلم حقاً.. لأنهم لن يصدقوني.. ورحت أقترب منهم.. والهواء ينزاح ويهرب من حولي.. خفت.. وشعرت بالأرض والناس والأشياء تندفع بسرعة إلى الأعلى.. نحوي طبعاً، ولم أجد فرصة بعدها للتساؤل: هل عاد إليّ وزني؟