حدثٌ طريفٌ، لا يقدم عليه إنسان عادي عاقل، مؤكد أنه مجنون.بعضهم وصفه بالفاسق المارق، لم أجد تعليلاً مقنعاً إلا بعدما أجريت تحقيقاً حول الرجل، الذي أطلقت عليه صفات مثل: درويش.. ناسك...بهلول... زاهد. تلك صورة الرجل بين أهالي قريته، حتى إن أناساً منهم ينظرون إليه كـ"ولي" له مكانته وحظوته عند الله. أبو زاهر سائق سيارة الأجرة بين القرية والمدينة قال: - إنه لزم صومعته منذ أكثر من ثلاثين سنة. وإنه لا يعرف المدينة وعاداتها، بل يسمع حكايات عنها وحسب. المختار أبو فاضل روى لي قصة الرجل. قال: - خرج من صومعته، صادفه أبو زاهر إلى جوار الطريق الاسفلتي الجديد. الناسك لأول مرة يشاهد الإسفلت، الطريق عُبد منذ بضع سنوات فقط، كان ترابياً وعراً، أما الآن فهو سهل، وبدلاً من عبوره على الحمير والبغال، صارت السيارات تتولى هذه المهمة. صمت المختار ليأخذ نفساً، ورشفة قهوة.. وهو ينظر نحو أبي زاهر، الذي فهم مايريده المختار، فتابع بدلاً منه قائلاً: - الناسك بركة على أهالي قريتنا، لذلك كانوا يؤمّنون له كل ما يحتاج إليه من مأكل وملبس.. وغيره من أسباب المعيشة، كانت حياته سهلة بسيطة، واحتياجاته محدودة جداً، صدقني إذ قلت لك: إنه ربما نسي معنى كلمة: نقود، أو مال، إنه لا يحتاج إلى هذا الشيء الذي يسبب لنا أفظع المشاكل والعداوات. أعني النقود، الرجل مرتاح البال، نقي السريرة، ولم يمسّه "الشيطان الأصفر". حتى الآن. التقط المختار الحديث ثانية.... وتابع: - لا أعرف ما الذي دفعه بعد هذه العزلة إلى دخول عالمنا.. والسفر إلى المدينة. مع أنه لا حاجة له بها؟! سألته: - ألا أستطيع أن أزوره وأكلمه؟! هزّ رأسه موافقاً. مضينا إليه. استقبلنا بابتسامة طفولية بريئة. وكنت قد عرفت من المختار إنه ينظر إلى زواره بالعين نفسها سواء كانوا من معارفه، أو غرباء عنه. كان يرتدي ثياباً بسيطة... اعتاد ارتداءها اتقاءً للبرد، وبحكم العادة والمألوف. سألته: "لماذا فعلت ذلك في المدينة؟" ودهش الناسك وأجاب: "حتى الآن لا أعرف لماذا غضبوا وضحك بعضهم، لم أفعل مايستوجب كل ذلك الهرج والمرج الذي كاد يخنقني، أهل قريتي يختلفون عنهم، شعرت أن أحداً لا يعرفني من المارة، وأنهم لايعرف بعضهم بعضاً، كأني بهم وقد تخاصموا. لا أحد يلقي التحية على الآخر، وهم يمر بعضهم بالبعض الآخر، الكتف تكاد يلامس الكتف،ولا يلتفتون ولا يأبه بعضهم ببعض هذا غريب عجيب حقاً". أخذ الناسك نفساً عميقاً، وبدا كأنه يزيح ثقلاً عن صدره، زفر زفرة تنم عن الاحتجاج... وتابع: "لا أدري لماذا فكرت لأول مرة بالثياب وضرورتها، خلت أنها هي السبب في كل ذلك. وددت أن أضرب لهم مثلاً، أن أفعل شيئاً كي يقلدوني وتحلّ المشكلة". كدت أضحك لولا أنني خفت أن أجرح مشاعر الناسك، لقد قامت الدنيا ولم تقعد بسبب تصرفه العجيب في شارع من شوارع المدينة، حيث يزدحم المارّة من الناس كافة. لقد فهمت الآن القصة. الناسك اعتقد لوهلة أن الأنسب أن يتخلص الناس من ثيابهم التي يختبئون في داخلها، ولو للحظات، كان يعتقد أنها طريقة ليعرف بعضهم بعضاً. فبادر إلى خلع ثيابه قطعة قطعة، لأنه كما قال : "دهشت لأن أحداً من الناس لم يتعرّفني.َّ..كما هي الحال في قريتي الصغيرة.. وخلت أن ثيابي هي السبب..في القرية يعرفونني كما أنها، عيونهم تخترق ثيابي، وتغوص في جسدي بسهولة". وحين أخذ الناسك يتصرف هكذا.. بدأ يلفت الأنظار إليه بحكم الفضول والغرابة في تصرفه، فاعتقد أنه ينجح في تحقيق رغبته وفكرته في التكاشف مع الآخرين... فتابع التعري، والابتسامة تتسع على ثغره، وبدا كطفل فرح بما يفعله بسبب جذب الأنظار إليه، وبسبب الضحك والقهقهات التي راحت تتعالى وتطوقه. لم يبق غير السروال الداخلي... حينئذ احتج البعض، وهربت وولولت النسوة من المارة، واختلطت أصوات الساخرين والمحتجين وعبارات الاستنكار وتزايد الحشد من حوله، بعضهم طلب استدعاء شرطة الآداب لاعتقاله..سمعهم..تحول فرحه إلى خوف متنامٍ، دفعه بالغريزة إلى الهروب. جرى باتجاه "كراج" القرية. أحس بمئات الأقدام تطارده. عرقله السروال، ووحّد من سرعة جريه. توقف للحظات؛ وهو يتخلص بحركات مرتبكة من سرواله الداخلي، أصبح عارياً تماماً، تصاعد الصراخ وأنواع الشتائم والقهقهات، وسمع صفير وزعيق سيارات الشرطة، وهو لا يفقه مدلوله ومغزاه، تزايد الرعب في جوفه ركض بسرعة أكبر، امتلأت الشرفات بالمشاهدين المتفرجين، مئات من المطاردين وراء الرجل العاري، تدفعهم أسباب شتى.. وصل الرجل "الكراج". لاذ بالسائق "أبو زاهر"، ابن قريته، الذي خلع آلياً سترته، وألبس الرجل العاري بسرعة، دفعه إلى داخل سيارته، شغّل المحرك وانطلق به مسرعاً إلى القرية، دون أن يفهم سبباً لكل مايرى ويحدث... وفي الطريق حدثه الناسك وشرح له الموقف. راح أبو زاهر يضحك حتى كاد يغمى عليه من شدة الضحك. أما الناسك فقد استسلم للصمت والدهشة كطفل بريء. ومن القرية... مضى الناسك عائداً إلى فردوسه الصغير، دخل صومعته المزدحمة بالنور والفرح والاطمئنان، ولم يخرج منها ولا ابتعد عنها بعد ذلك.
حدثٌ طريفٌ، لا يقدم عليه إنسان عادي عاقل، مؤكد أنه مجنون.بعضهم وصفه بالفاسق المارق، لم أجد تعليلاً مقنعاً إلا بعدما أجريت تحقيقاً حول الرجل، الذي أطلقت عليه صفات مثل: درويش.. ناسك...بهلول... زاهد. تلك صورة الرجل بين أهالي قريته، حتى إن أناساً منهم ينظرون إليه كـ"ولي" له مكانته وحظوته عند الله.
أبو زاهر سائق سيارة الأجرة بين القرية والمدينة قال:
- إنه لزم صومعته منذ أكثر من ثلاثين سنة. وإنه لا يعرف المدينة وعاداتها، بل يسمع حكايات عنها وحسب.
المختار أبو فاضل روى لي قصة الرجل. قال:
- خرج من صومعته، صادفه أبو زاهر إلى جوار الطريق الاسفلتي الجديد. الناسك لأول مرة يشاهد الإسفلت، الطريق عُبد منذ بضع سنوات فقط، كان ترابياً وعراً، أما الآن فهو سهل، وبدلاً من عبوره على الحمير والبغال، صارت السيارات تتولى هذه المهمة.
صمت المختار ليأخذ نفساً، ورشفة قهوة.. وهو ينظر نحو أبي زاهر، الذي فهم مايريده المختار، فتابع بدلاً منه قائلاً:
- الناسك بركة على أهالي قريتنا، لذلك كانوا يؤمّنون له كل ما يحتاج إليه من مأكل وملبس.. وغيره من أسباب المعيشة، كانت حياته سهلة بسيطة، واحتياجاته محدودة جداً، صدقني إذ قلت لك: إنه ربما نسي معنى كلمة: نقود، أو مال، إنه لا يحتاج إلى هذا الشيء الذي يسبب لنا أفظع المشاكل والعداوات. أعني النقود، الرجل مرتاح البال، نقي السريرة، ولم يمسّه "الشيطان الأصفر". حتى الآن.
التقط المختار الحديث ثانية.... وتابع:
- لا أعرف ما الذي دفعه بعد هذه العزلة إلى دخول عالمنا.. والسفر إلى المدينة. مع أنه لا حاجة له بها؟!
سألته:
- ألا أستطيع أن أزوره وأكلمه؟!
هزّ رأسه موافقاً. مضينا إليه. استقبلنا بابتسامة طفولية بريئة. وكنت قد عرفت من المختار إنه ينظر إلى زواره بالعين نفسها سواء كانوا من معارفه، أو غرباء عنه. كان يرتدي ثياباً بسيطة... اعتاد ارتداءها اتقاءً للبرد، وبحكم العادة والمألوف. سألته: "لماذا فعلت ذلك في المدينة؟"
ودهش الناسك وأجاب: "حتى الآن لا أعرف لماذا غضبوا وضحك بعضهم، لم أفعل مايستوجب كل ذلك الهرج والمرج الذي كاد يخنقني، أهل قريتي يختلفون عنهم، شعرت أن أحداً لا يعرفني من المارة، وأنهم لايعرف بعضهم بعضاً، كأني بهم وقد تخاصموا. لا أحد يلقي التحية على الآخر، وهم يمر بعضهم بالبعض الآخر، الكتف تكاد يلامس الكتف،ولا يلتفتون ولا يأبه بعضهم ببعض هذا غريب عجيب حقاً". أخذ الناسك نفساً عميقاً، وبدا كأنه يزيح ثقلاً عن صدره، زفر زفرة تنم عن الاحتجاج... وتابع: "لا أدري لماذا فكرت لأول مرة بالثياب وضرورتها، خلت أنها هي السبب في كل ذلك. وددت أن أضرب لهم مثلاً، أن أفعل شيئاً كي يقلدوني وتحلّ المشكلة".
كدت أضحك لولا أنني خفت أن أجرح مشاعر الناسك، لقد قامت الدنيا ولم تقعد بسبب تصرفه العجيب في شارع من شوارع المدينة، حيث يزدحم المارّة من الناس كافة.
لقد فهمت الآن القصة. الناسك اعتقد لوهلة أن الأنسب أن يتخلص الناس من ثيابهم التي يختبئون في داخلها، ولو للحظات، كان يعتقد أنها طريقة ليعرف بعضهم بعضاً. فبادر إلى خلع ثيابه قطعة قطعة، لأنه كما قال : "دهشت لأن أحداً من الناس لم يتعرّفني.َّ..كما هي الحال في قريتي الصغيرة.. وخلت أن ثيابي هي السبب..في القرية يعرفونني كما أنها، عيونهم تخترق ثيابي، وتغوص في جسدي بسهولة".
وحين أخذ الناسك يتصرف هكذا.. بدأ يلفت الأنظار إليه بحكم الفضول والغرابة في تصرفه، فاعتقد أنه ينجح في تحقيق رغبته وفكرته في التكاشف مع الآخرين... فتابع التعري، والابتسامة تتسع على ثغره، وبدا كطفل فرح بما يفعله بسبب جذب الأنظار إليه، وبسبب الضحك والقهقهات التي راحت تتعالى وتطوقه.
لم يبق غير السروال الداخلي... حينئذ احتج البعض، وهربت وولولت النسوة من المارة، واختلطت أصوات الساخرين والمحتجين وعبارات الاستنكار وتزايد الحشد من حوله، بعضهم طلب استدعاء شرطة الآداب لاعتقاله..سمعهم..تحول فرحه إلى خوف متنامٍ، دفعه بالغريزة إلى الهروب. جرى باتجاه "كراج" القرية. أحس بمئات الأقدام تطارده. عرقله السروال، ووحّد من سرعة جريه. توقف للحظات؛ وهو يتخلص بحركات مرتبكة من سرواله الداخلي، أصبح عارياً تماماً، تصاعد الصراخ وأنواع الشتائم والقهقهات، وسمع صفير وزعيق سيارات الشرطة، وهو لا يفقه مدلوله ومغزاه، تزايد الرعب في جوفه ركض بسرعة أكبر، امتلأت الشرفات بالمشاهدين المتفرجين، مئات من المطاردين وراء الرجل العاري، تدفعهم أسباب شتى.. وصل الرجل "الكراج". لاذ بالسائق "أبو زاهر"، ابن قريته، الذي خلع آلياً سترته، وألبس الرجل العاري بسرعة، دفعه إلى داخل سيارته، شغّل المحرك وانطلق به مسرعاً إلى القرية، دون أن يفهم سبباً لكل مايرى ويحدث... وفي الطريق حدثه الناسك وشرح له الموقف.
راح أبو زاهر يضحك حتى كاد يغمى عليه من شدة الضحك. أما الناسك فقد استسلم للصمت والدهشة كطفل بريء.
ومن القرية... مضى الناسك عائداً إلى فردوسه الصغير، دخل صومعته المزدحمة بالنور والفرح والاطمئنان، ولم يخرج منها ولا ابتعد عنها بعد ذلك.