كل شيء بدا لي مختلفا في هذا الصباح الخريفي. الشمس أشرقت فيه غير مكترثة بحزني، وكنتي المكسيكية على غير عادتها، دعتني لمرافقتها إلى حديقة عامة للتنزه وتخليص أجسادنا من سآمة البرودة. شروق الشمس ودعوة كنتي، كانتا أول خطوة في سفر خروجي إلى عالم لم أر منه غير البوابة التي أوصلتني إليه. فأنا منذ ستين يوماً حبيسة المنزل، أحيا وحيدة مع تلفاز أعجمي لا أفقه من مسامراته شيئاً. بفرح طفولي تهيأت للنزهة، لبست وتزينت. ومثلي فعلت لورين، لنفسها ولابنها. ثم انطلقت بنا بسيارتها، في شوارع أدهشني اتساعها وضخامة العمارات التي تنهض فيها. في الحديقة، استقبلنا عالم بهر عيوني بنقائه، بنافورات مياهه، بمساحاته العشبية والمزهرة، حتى قلت في نفسي: إنها الجنة. عند أحد الأركان، افترشنا العشب، وأخذنا نستمتع بالدفء والألوان، وبرؤية الناس العابرين بنا، وغير المبالين بما نفعل. بمحاذاتنا، تسير عربة طفل تدفعها سيدة متقدمة في العمر، رامقتنا وهي تتجاوزنا بنظرات تحمل نوعاً من التفحص. ساورتني نفسي بأنّ الطفل الذي في العربة حفيدها. لحظات وتعود السيدة بالعربة بضع خطوات إلى الوراء، تتوقف قبالتي، تحييني بلغة عربية وتسألني: من أين أنت؟. سؤالها المفاجئ أوقف كل حركة حولي. أوقف غربتي على شفتيها وعلى الحروف التي نطقت بها. كان يمكن أن أهتف فرحاً، أن أزغرد، لو لم يسبقني قلبي إلى يديَّ، فعانقتها. من أين أنا؟ ستون يوماً مضت، لم أصادف فيها أحداً يبادلني الكلام، أو يسألني ما اسمي؟ ستون يوماً، وسواكن البيت تضيق بي حتى مللت وجهي ووجوه ابني وحفيدي وكنتي. ستون يوماً، وأنا أعيش تقلبات نفسية متناقضة أوصلتني إلى حدود الاكتئاب وأحياناً إلى الهلوسة. قالت السيدة: شعور خفي أوحى لي بأنك سورية، وقلمونية أيضاً. فهل أنت كذلك؟ كم أنت ذكية. نعم أنا من يبرود. - الدم يحن، فأنا من النبك. * * * لحظات لقائي مع مريم النبكية كانت قصيرة. لكنها كافية لنفيض فيها بما يتعبنا. قالت مريم: أمريكا يا أم عاطف تغري أبناءنا بالمال وبالرفاهية، تعطيهم الاستقرار، وتسلخهم من بيئتهم وأهاليهم. واكثر ما يؤرقني ويحزنني أن أحفادي يكبرون بعيداً عن عيني، بعيداً عن تراب الأرض وتراثها. سيصبحون اميركان يا أم عاطف، فابنتي وزوجها لا يفكران بالرجوع إلى الوطن. لا غرابة أن تأرقي يا مريم، وأن تحزني. فالحياة بلا جذور لا معنى لها، ولو كانت في جنات الخلد. انظري إليّ. أليس مضحكاً ومبكياً معاً، أن يعيش جسدي في عزّ لم أحلم به. وأن تعيش روحي في جفاف لا أحتمله؟!. الأشياء في بيت ابني متشابهة، والأيام فيه متماثلة. في المساء أنام وفي الصباح أفيق. وضمن ما يمتد بينهما من زمن أقوم بواجباتي الشخصية بصمت وآلية. ابني يخشى عليّ من التجول وحدي في مدينة أجهل لغتها واتجاهات شوارعها. قد يكون محقاً في هذا. لكن، هل من العدل أن تتموت أيامي بين جهلي وغربتي؟!. عاطف مشغول عني بعمل يستغرق ساعات يومه، وزوجته أيضاً مشغولة بابنها وعملها. الغربة صامتة يا مريم، وصمتها يشي بصاحبها، يفضح سره ويزيد في وحشته وانعزاله. عاطف ابني الوحيد يا أختي مريم، وكان من المفروض أن يعود إلى سوريا بعد أن ينهي تخصصه، لكنه آثر الزواج والحصول على بطاقة إقامة، على العودة. لقد ماطلت كثيراً قبل أن احضر إلى شيكاغو، حتى لا أكون عبئاً على زواجه. وعندما تغلب قلبي على عقلي، طرت إليه السموات السبع، وها أنا أمامك كما ترين. حديثي مع مريم فَجَّر حنيني إلى بلدتي. فكرت بالعودة معها على نفس الطائرة التي ستحملها إلى الوطن بعد أيام. جُن جنون عاطف. اتهمني بالقسوة وبأني لا أفكر بما يعانيه من قلق في غيابي. وقال إنه لن يتركني أعود إلى الوحدة والصمت. - الصمت والوحدة هما هنا يا بني!. - الوحدة في بيت دافئ مريح، غيرها في بيت مهترىء حيطانه دَبْش. - الوحدة باردة أينما كانت يا بني، ولو خرجت لتوها من بيت النار. والبيت المهترىء هو سترنا وكرامتنا، أم نسيت أنه سوّاك رجلاً؟!. - لا أقصد المعنى الذي فهمته من كلامي يا أمي، وإنما أحاول أن أقنعك بالبقاء. ما أعجب مشاعر الإنسان كم هي متغيرة! عندما كنت في يبرود، كاد الشوق إلى عاطف يقتلني. واليوم، وأنا معه يكاد الشوق إلى يبرود يخنقني. حتى أن البعد عن يبرود قد ضاعف جمالها في عيني مئات المرات. تأتيني الذكريات، تقلب خفايا الذاكرة وتوقظ في داخلي صوت ناقوس الكنيسة، واللكنة اليبرودية المحببة. توقظ حنيني إلى الوجوه الجبلية الطيبة، إلى الثلج يغطي السفوح والجبال والأشجار، إلى الضباب يخفي وراءه برج الكنيسة والمنازل القديمة المتلاصقة. إلى الربيع الأخضر يكسو الحقول، إلى مصطبة البيت وحديقته الصغيرة. إلى مساكب البقدونس والنعناع والنرجس فيها. ما كان أسعدني عندما كنت أنكش تربتها، أسقيها وأنزع منها الحشائش الضارة. يلحظ عاطف تفاعلاتي المتدفقة. يحيطني بذراعيه، يقبل رأسي ويقول: صبراً أم عاطف. مع الأيام ستعتادين على الحياة هنا. فبعد مدة سيمنحك صندوق الضمان الاجتماعي راتباً شهرياً بكذا مائة دولار، فلا تضيعي الفرصة. راتب شهري لي، وبالدولار؟ ضحكت حتى دمعت عيناي. كل شيء جاءني متأخراً عشرات السنين. في زمن مضى كنت أبحث عن ليرة في جيبي أو في جيوب أمي أو أحد أخوتي ولا أجدها. وفجأة وبدون عناء تأتيني مئات الدولارات؟!. ملاطفة الحياة لي الآن لا تليق بي، فأنا لم أتعود منها على غير الجفاء. أنا لست ساخطة على ما نلته من نصيب في الماضي، إنما ساخطة على الظروف التي وافتني في غير أوانها. ساخطة على الفقر الذي خرجت بسببه من المدرسة وكنت فيها متفوقة، لأتزوج من رجل سافر، غاب وكأنه فص ملح وذاب، تاركاً إياي للهجر والعذاب. تفتح التداعيات ثقوباً في ذاكرتي، تطل منها صور وأحداث بعيدة، كنت أحسبها اندثرت. أتذكر يوم عدت من المدرسة، ولم أكن قد أكملت الثالثة عشرة من عمري، لأجد أمي قد خطَّبتني. هكذا دون أن تسألني رأيي. في تلك اللحظة، شيء ما انكسر في داخلي. كنت بلا أب، فقيرة معدمة. وكانت أمي ترغب بتزويجي وأنا بكرها، لتتخفف من عبء مسؤوليتي، لا سيما وأنَّ عندها خمسة أبناء غيري. كان زوجي شاباً لاهياً لعوباً، أحببته وتعلقت به، على طيشه وعدم اكتفائه بي. لكنّ جائحة الجراد التي قضت على الأرض في القلمون، ساقت زوجي للعمل في بيروت، ومنها إلى البرازيل. غير سامع لتوسلات والديه، وغير عابئ بمصير الجنين الذي كان ينمو في داخلي. وبعد فترة ليست طويلة، انقطعت أخباره وغاب أثره. ولا أدري بأي زقاق ضاع، وبين يدي أية فاتنة أتلف جذوره. ساعدني جدّ عاطف في تنشئته ورعايته، وفي سدّ الثغرة التي خلفها غياب والده. لكنَّ مستقبل عاطف ظلَّ هماً أحمله في عقلي وبين جوانحي. ولسوء حظي توفي الجدّ، وبقيت مع ابني بلا سند أو معيل. ليبتدأ صراعي مع المجتمع الريفي الضيق والمتّهِم، الذي تذكر فجأة أني بلا زوج. ومع أخوة زوجي الذين حرموا عاطف من إرث أبيه. تقولات المجتمع، وموقف أعمام عاطف أوجعتني. وفي ذات الوقت كشفت عن بصيرتي، علمتني أن أتعامل مع الأشياء بعقلانية وواقعية. اشتغلت منظِّفة في عيادة طبيب القرية، ومنه تعلمت ضرب الإبر للمرضى. إلى أن ساعدني الحظ، وعملت مساعدة ممرضة بالمشفى الدانمركي في النبك. وهذا العمل، أحدث نقلة نوعية في حياتي وتفكيري، صقل شخصيتي وأطلعني على جوانب من الحياة كنت أجهلها. لا أدري لماذا تحاصرني الذكريات؟ ألأنَّ التفكير بمستقبلي في شيكاغو يرعبني؟ ربما! ألأنَّ وجودي مع كنتي يؤلمني؟ ربما!. الله يعلم أني لا اشتكي من لورين لأنها كنَّة، وإنما أشتكي من غربتي ووحشتي. عندما أتيت إلى هنا، حاولت أن أجعل من وجودي نعمة على ابني وزوجته. كأنْ أرعى الصغير في غيابهما، وأعّد لهم الطعام. لكن كنتي حجَّمتني، سطت على قراري في تفاصيل يومي. أوقفت كل محاولاتي للمساعدة، ومنعتني من ممارسة دوري كأم وجدة. كنتي تحدد لي لحظات تواصلي مع حفيدي، واللغة التي يجب أن أتواصل بها معه. فهي لا تريد ابنها أن يتكلم غير الإنكليزية أو الأسبانية، وأنا طبعاً لا أعرف لا هذه ولا تلك. ما هو دور عاطف في كل ما يجري؟ لا دور ولا كلام له فوق كلامها! آه، ما أصعب أن يعيش الإنسان في بيت يشعر أنه فيه غريب، ما أصعب أن يكون له حفيد ولا يشعر بقربه، وأن يمتلك لساناً ولا يستطيع أن يستخدمه!. أنا لست امرأة متأففة أو جاحدة للنعمة. لكن كل يوم ينقضي على وجودي هنا، يزيدني ثقة بأن أيامي المقبلة لن تتميز بأي فضل عن التي سبقتها. فلماذا أستمر وأتحمل عبء الغربة والصمت والوحدة؟ اعذرني يا بني، لن أقايض على حريتي وذكرياتي بحفنة من الدولارات. ورغبتي بالعودة إلى الوطن تبدو نهائية. سأعود إلى بيتي المهترىء وحيطانه الدَبْش. سأعود إلى حديقتي الصغيرة، لعلّ جذوري تستعيد مكانها في تربتها الندية. فالوطن يا بني ليس ترفاً ورفاهية. وإنما هو حب وأمان وجذور
كل شيء بدا لي مختلفا في هذا الصباح الخريفي. الشمس أشرقت فيه غير مكترثة بحزني، وكنتي المكسيكية على غير عادتها، دعتني لمرافقتها إلى حديقة عامة للتنزه وتخليص أجسادنا من سآمة البرودة.
شروق الشمس ودعوة كنتي، كانتا أول خطوة في سفر خروجي إلى عالم لم أر منه غير البوابة التي أوصلتني إليه. فأنا منذ ستين يوماً حبيسة المنزل، أحيا وحيدة مع تلفاز أعجمي لا أفقه من مسامراته شيئاً.
بفرح طفولي تهيأت للنزهة، لبست وتزينت. ومثلي فعلت لورين، لنفسها ولابنها. ثم انطلقت بنا بسيارتها، في شوارع أدهشني اتساعها وضخامة العمارات التي تنهض فيها.
في الحديقة، استقبلنا عالم بهر عيوني بنقائه، بنافورات مياهه، بمساحاته العشبية والمزهرة، حتى قلت في نفسي: إنها الجنة. عند أحد الأركان، افترشنا العشب، وأخذنا نستمتع بالدفء والألوان، وبرؤية الناس العابرين بنا، وغير المبالين بما نفعل.
بمحاذاتنا، تسير عربة طفل تدفعها سيدة متقدمة في العمر، رامقتنا وهي تتجاوزنا بنظرات تحمل نوعاً من التفحص. ساورتني نفسي بأنّ الطفل الذي في العربة حفيدها. لحظات وتعود السيدة بالعربة بضع خطوات إلى الوراء، تتوقف قبالتي، تحييني بلغة عربية وتسألني: من أين أنت؟.
سؤالها المفاجئ أوقف كل حركة حولي. أوقف غربتي على شفتيها وعلى الحروف التي نطقت بها. كان يمكن أن أهتف فرحاً، أن أزغرد، لو لم يسبقني قلبي إلى يديَّ، فعانقتها. من أين أنا؟ ستون يوماً مضت، لم أصادف فيها أحداً يبادلني الكلام، أو يسألني ما اسمي؟ ستون يوماً، وسواكن البيت تضيق بي حتى مللت وجهي ووجوه ابني وحفيدي وكنتي. ستون يوماً، وأنا أعيش تقلبات نفسية متناقضة أوصلتني إلى حدود الاكتئاب وأحياناً إلى الهلوسة.
قالت السيدة: شعور خفي أوحى لي بأنك سورية، وقلمونية أيضاً. فهل أنت كذلك؟ كم أنت ذكية. نعم أنا من يبرود.
- الدم يحن، فأنا من النبك.
* * *
لحظات لقائي مع مريم النبكية كانت قصيرة. لكنها كافية لنفيض فيها بما يتعبنا. قالت مريم: أمريكا يا أم عاطف تغري أبناءنا بالمال وبالرفاهية، تعطيهم الاستقرار، وتسلخهم من بيئتهم وأهاليهم. واكثر ما يؤرقني ويحزنني أن أحفادي يكبرون بعيداً عن عيني، بعيداً عن تراب الأرض وتراثها. سيصبحون اميركان يا أم عاطف، فابنتي وزوجها لا يفكران بالرجوع إلى الوطن.
لا غرابة أن تأرقي يا مريم، وأن تحزني. فالحياة بلا جذور لا معنى لها، ولو كانت في جنات الخلد. انظري إليّ. أليس مضحكاً ومبكياً معاً، أن يعيش جسدي في عزّ لم أحلم به. وأن تعيش روحي في جفاف لا أحتمله؟!. الأشياء في بيت ابني متشابهة، والأيام فيه متماثلة. في المساء أنام وفي الصباح أفيق. وضمن ما يمتد بينهما من زمن أقوم بواجباتي الشخصية بصمت وآلية.
ابني يخشى عليّ من التجول وحدي في مدينة أجهل لغتها واتجاهات شوارعها. قد يكون محقاً في هذا. لكن، هل من العدل أن تتموت أيامي بين جهلي وغربتي؟!. عاطف مشغول عني بعمل يستغرق ساعات يومه، وزوجته أيضاً مشغولة بابنها وعملها. الغربة صامتة يا مريم، وصمتها يشي بصاحبها، يفضح سره ويزيد في وحشته وانعزاله.
عاطف ابني الوحيد يا أختي مريم، وكان من المفروض أن يعود إلى سوريا بعد أن ينهي تخصصه، لكنه آثر الزواج والحصول على بطاقة إقامة، على العودة. لقد ماطلت كثيراً قبل أن احضر إلى شيكاغو، حتى لا أكون عبئاً على زواجه. وعندما تغلب قلبي على عقلي، طرت إليه السموات السبع، وها أنا أمامك كما ترين.
حديثي مع مريم فَجَّر حنيني إلى بلدتي. فكرت بالعودة معها على نفس الطائرة التي ستحملها إلى الوطن بعد أيام. جُن جنون عاطف. اتهمني بالقسوة وبأني لا أفكر بما يعانيه من قلق في غيابي. وقال إنه لن يتركني أعود إلى الوحدة والصمت.
- الصمت والوحدة هما هنا يا بني!.
- الوحدة في بيت دافئ مريح، غيرها في بيت مهترىء حيطانه دَبْش.
- الوحدة باردة أينما كانت يا بني، ولو خرجت لتوها من بيت النار. والبيت المهترىء هو سترنا وكرامتنا، أم نسيت أنه سوّاك رجلاً؟!.
- لا أقصد المعنى الذي فهمته من كلامي يا أمي، وإنما أحاول أن أقنعك بالبقاء.
ما أعجب مشاعر الإنسان كم هي متغيرة! عندما كنت في يبرود، كاد الشوق إلى عاطف يقتلني. واليوم، وأنا معه يكاد الشوق إلى يبرود يخنقني. حتى أن البعد عن يبرود قد ضاعف جمالها في عيني مئات المرات. تأتيني الذكريات، تقلب خفايا الذاكرة وتوقظ في داخلي صوت ناقوس الكنيسة، واللكنة اليبرودية المحببة. توقظ حنيني إلى الوجوه الجبلية الطيبة، إلى الثلج يغطي السفوح والجبال والأشجار، إلى الضباب يخفي وراءه برج الكنيسة والمنازل القديمة المتلاصقة. إلى الربيع الأخضر يكسو الحقول، إلى مصطبة البيت وحديقته الصغيرة. إلى مساكب البقدونس والنعناع والنرجس فيها. ما كان أسعدني عندما كنت أنكش تربتها، أسقيها وأنزع منها الحشائش الضارة.
يلحظ عاطف تفاعلاتي المتدفقة. يحيطني بذراعيه، يقبل رأسي ويقول: صبراً أم عاطف. مع الأيام ستعتادين على الحياة هنا. فبعد مدة سيمنحك صندوق الضمان الاجتماعي راتباً شهرياً بكذا مائة دولار، فلا تضيعي الفرصة.
راتب شهري لي، وبالدولار؟ ضحكت حتى دمعت عيناي. كل شيء جاءني متأخراً عشرات السنين. في زمن مضى كنت أبحث عن ليرة في جيبي أو في جيوب أمي أو أحد أخوتي ولا أجدها. وفجأة وبدون عناء تأتيني مئات الدولارات؟!. ملاطفة الحياة لي الآن لا تليق بي، فأنا لم أتعود منها على غير الجفاء. أنا لست ساخطة على ما نلته من نصيب في الماضي، إنما ساخطة على الظروف التي وافتني في غير أوانها. ساخطة على الفقر الذي خرجت بسببه من المدرسة وكنت فيها متفوقة، لأتزوج من رجل سافر، غاب وكأنه فص ملح وذاب، تاركاً إياي للهجر والعذاب.
تفتح التداعيات ثقوباً في ذاكرتي، تطل منها صور وأحداث بعيدة، كنت أحسبها اندثرت. أتذكر يوم عدت من المدرسة، ولم أكن قد أكملت الثالثة عشرة من عمري، لأجد أمي قد خطَّبتني. هكذا دون أن تسألني رأيي. في تلك اللحظة، شيء ما انكسر في داخلي. كنت بلا أب، فقيرة معدمة. وكانت أمي ترغب بتزويجي وأنا بكرها، لتتخفف من عبء مسؤوليتي، لا سيما وأنَّ عندها خمسة أبناء غيري.
كان زوجي شاباً لاهياً لعوباً، أحببته وتعلقت به، على طيشه وعدم اكتفائه بي. لكنّ جائحة الجراد التي قضت على الأرض في القلمون، ساقت زوجي للعمل في بيروت، ومنها إلى البرازيل. غير سامع لتوسلات والديه، وغير عابئ بمصير الجنين الذي كان ينمو في داخلي. وبعد فترة ليست طويلة، انقطعت أخباره وغاب أثره. ولا أدري بأي زقاق ضاع، وبين يدي أية فاتنة أتلف جذوره.
ساعدني جدّ عاطف في تنشئته ورعايته، وفي سدّ الثغرة التي خلفها غياب والده. لكنَّ مستقبل عاطف ظلَّ هماً أحمله في عقلي وبين جوانحي.
ولسوء حظي توفي الجدّ، وبقيت مع ابني بلا سند أو معيل. ليبتدأ صراعي مع المجتمع الريفي الضيق والمتّهِم، الذي تذكر فجأة أني بلا زوج. ومع أخوة زوجي الذين حرموا عاطف من إرث أبيه.
تقولات المجتمع، وموقف أعمام عاطف أوجعتني. وفي ذات الوقت كشفت عن بصيرتي، علمتني أن أتعامل مع الأشياء بعقلانية وواقعية. اشتغلت منظِّفة في عيادة طبيب القرية، ومنه تعلمت ضرب الإبر للمرضى. إلى أن ساعدني الحظ، وعملت مساعدة ممرضة بالمشفى الدانمركي في النبك. وهذا العمل، أحدث نقلة نوعية في حياتي وتفكيري، صقل شخصيتي وأطلعني على جوانب من الحياة كنت أجهلها.
لا أدري لماذا تحاصرني الذكريات؟ ألأنَّ التفكير بمستقبلي في شيكاغو يرعبني؟ ربما! ألأنَّ وجودي مع كنتي يؤلمني؟ ربما!. الله يعلم أني لا اشتكي من لورين لأنها كنَّة، وإنما أشتكي من غربتي ووحشتي.
عندما أتيت إلى هنا، حاولت أن أجعل من وجودي نعمة على ابني وزوجته. كأنْ أرعى الصغير في غيابهما، وأعّد لهم الطعام. لكن كنتي حجَّمتني، سطت على قراري في تفاصيل يومي. أوقفت كل محاولاتي للمساعدة، ومنعتني من ممارسة دوري كأم وجدة. كنتي تحدد لي لحظات تواصلي مع حفيدي، واللغة التي يجب أن أتواصل بها معه. فهي لا تريد ابنها أن يتكلم غير الإنكليزية أو الأسبانية، وأنا طبعاً لا أعرف لا هذه ولا تلك. ما هو دور عاطف في كل ما يجري؟ لا دور ولا كلام له فوق كلامها! آه، ما أصعب أن يعيش الإنسان في بيت يشعر أنه فيه غريب، ما أصعب أن يكون له حفيد ولا يشعر بقربه، وأن يمتلك لساناً ولا يستطيع أن يستخدمه!.
أنا لست امرأة متأففة أو جاحدة للنعمة. لكن كل يوم ينقضي على وجودي هنا، يزيدني ثقة بأن أيامي المقبلة لن تتميز بأي فضل عن التي سبقتها.
فلماذا أستمر وأتحمل عبء الغربة والصمت والوحدة؟ اعذرني يا بني، لن أقايض على حريتي وذكرياتي بحفنة من الدولارات. ورغبتي بالعودة إلى الوطن تبدو نهائية.
سأعود إلى بيتي المهترىء وحيطانه الدَبْش. سأعود إلى حديقتي الصغيرة، لعلّ جذوري تستعيد مكانها في تربتها الندية. فالوطن يا بني ليس ترفاً ورفاهية. وإنما هو حب وأمان وجذور