كانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحا، عندما عاد عبد الجبار إلى الفندق الفخم الذي يحلُّ فيه. أخذ حماماً ساخناً، ارتدى منامته الحريرية، وأراح جسده المندّى على الفراش الوثير. ثم أرخى لخياله عنان السفر على جسد ردينة وتفاصيله الأنثوية اليانعة، مع أنه ليس من الذين ينسرحون وراء الفنتازيا والأحلام. إنه عاجز تماماً عن تعليل تعلقه بردينة، وحوله ورهن إشارته أحلى الشقراوات والسمراوات. فأمواله، تضع في خنصره خاتم سليمان، وفي يده مصباح علاء الدين. وما عليه إلا أن يحرك الخاتم أو يدعك المصباح، حتى تصبح الأحلام واقعاً والرغبات مقضية. عندما رأى عبد الجبار ردينة بطولها الفارع النحيل، وأنفها الاقنى، ظنَّها أو روبية. فقالوا بل عربية. حيّته بحيادية حيّرته، أشعلت الأفكار في رأسه، وأبعدته عن التركيز في اللعب. لماذا؟ لأنها أول فتاة يصادفها في هذا المكان، لا تبدي اهتماما به، ولا تأبه لمظاهر الفخفخة التي يحيط بها نفسه. صورة ردينة تحاصر مخيلته، تحتلها. يحدث نفسه، يسألها: أتراها نزوة رغبة، لأنَّ كل ممنوع مرغوب؟ أم أنه الحب؟ حب؟ وأنا لم أتعامل قبلا مع أية امرأة من منظور الحب؟. صحيح، إنما هذه المرة مختلفة. ألم يكد قلبك يطير من بين ضلوعك وأنت تراها تخطر في رواق الكازينو، بقدها الرمحي وجمالها العنبري؟ يتوقف عند لفظة كازينو. يتمنى أن يعرف ما الذي أتى بفتاة مثلها إلى هذا المكان؟ أهي مقامرة، أم أنها بنت..؟ لم يكمل الكلمة، التي شعر أنها لا تناسبها. ثقل قلبه في صدره. زفراته المحمومة ترفع وتيرة عمل المكيف. يلوب في الغرفة متهيجاً ملتهباً، وكأنه مراهق صغير لا يملك سبيلاً لضبط مشاعره. للمرة الثالثة يغسل وجهه، يفرغ كأسين من الماء المثلج في جوفه المحترق. يمشي صوب باب الشرفة ليملأ صدره بنسمة منعشة، لكنّ فجر القاهرة كان يشق درب النهار بهواء ساخن رطب. يغلق إلى السرير. يطول أرقه. يضغط زر التلفاز على محطة تبث برامجها على مدار الساعة. تقتحم عينيه مشاهد تصور بعض الشباب الفلسطيني وهم يسقطون برصاص الإسرائيليين وهراواتهم. وكيف يسقط أطفال افريقيا وشيوخها تحت معول الجوع والفقر والمرض. يلوي شفتيه تبرما، يشتم محطة البث وأخبارها، ويغلق التلفاز. يحس شيئا ما، يتململ تحت جلده السميك، يهيب به أن يفيق من أنانيته وسلبيته، ويفكر بما شاهده منذ لحظات. يقتلع جسده عن الأريكة وهو يقول: والله عال، كمل النقل بالزعرور.! ما علاقتي أنا بما يجري في العالم، وبمن يموت أو يعيش؟. يسحب الستارة عن النافذة. شمس يوم جديد يفسح الضيق عن صدر الغرفة، وعن صدره. يغتسل، يرتدي ثيابه ويخرج من الفندق إلى مقصف مطلٍّ على النيل حيث الهدوء والجمال، وحيث القوارب الصغيرة المستحمة بالنور والماء. يصفّ النادل طعام الفطور أمام عبد الجبار، ويملأ له فنجانا من الشاي الساخن. يرشف رشفات من مائه المنعش، تريح أعصابه وتسري الدفء في شرايينه، فتنبسط ملامحه لأحلام راودت قلبه المعنَّى. ومن غير استئذان تعصف بأنفه رائحة عطر يعرفها. يتلفت حوله، فيرى ردينة وهي تدلف صالة المقصف، متأبطة محفظة وكتبا وأوراقا. من يصدق أنَّ هذا يحدث له؟ من يصدق أنّ الفتاة التي أرّقت ليله هي الآن أمامه هكذا بكل بساطة.؟! تقع عينها في عينه وهي تتقدم بخطاها نحو مجلسه. يشدّ جسده إلى الوراء ليسيطر على دهشته، وقد صار للفرح أقدام تركض في أعماقه، تتسلق شرايينه، تضخ الدم إلى وجهه والعرق إلى يديه. تحييه ردينة، وتعتذر لتطفلها على خلوته. وبإشارة من يده، يدعوها للجلوس، بعد أن ضاعت من حلقه كلمات التحية والترحيب. كانت ردينة تتصفح قسمات وجه عبد الجبار بملامحه المدهوشة، وتردد كلمات الاعتذار كالببغاء. وبحركة من عينيه، يتساءل عبد الجبار عن السبب الذي أتى بها. فتقول ردينة: أنا صحفية، وقبل أن تكمل جملتها، يسألها بشك: قلت صحفية، ما علاقتي أنا بالصحافة؟. وطالبة، أحضّر بحثا عن نفسية المقامر وسلوكه. اهتز عبد الجبار، صدمته كلماتها وشعر بالامتعاض لجرأتها ومباشرتها في طرح أفكارها. عندما رآها ظنّ أنها قدمت لمؤانسته ومجالسته فخاب أمله. لكنه في ذات الوقت شعر بالارتياح، لأنّ ردينة ليست واحدة من إيّاهنَّ. - جئت طامعة في مساعدتك. همست بحياء. - ما هذا البحث الشائك، الخطر الذي اخترتيه؟ - الخطر محسوب في أي بحث نقوم به. سنتان وأنا أستجدي البيانات والمعلومات من الذين لهم صلة بهذا الموضوع. والنتيجة ما زالت دون مستوى الطموح. - ما السبب في رأيك ؟ سأل عبد الجبار. -لأنّ الناس في مجتمعنا يفتقرون إلى جرأة البوح عن أسرارهم، والتصريح عن مشكلاتهم. أحس عبد الجبار، أنه قد وضع في ورطة. إن هو صدّ ردينة سيخسر مودتها، وإن استجاب لطلبها، سيتحول إلى موضوع في استمارة في بحث. وبذكائها استشفت ردينة ما يدور في داخله، فسارعت لقطع الطريق أمام رفضه وسألته: في رأيك، ما الذي يدفع الإنسان إلى المقامرة؟ وبدون تفكير أجاب: الفراغ، وحب اللهو. _ هذا في بداية الأمر. لكن، ألا تتغير مع الزمن دوافع المقامر؟. _ دوافعي أنا لم تتغير، أما عن غيري فلا أعرف. أنصحك أن تراقبي اللاعبين وتتابعيهم، مثلما فعلت ليلة أمس. -ليتني أقدر. أعصابي لا تسعفني لأمكث طويلا في صالات القمار. أتألم لرؤية التعب على وجوه اللاعبين، والقلق في عيونهم، والاضطراب على أيديهم المعروقة وهي تمتد نحو أوراق اللعب لتضمها في مروحة تحمل بين شفراتها، الفوز أو السقوط. أتألم لرؤية الأموال وهي تحرق بينما العديد من الناس، وضمنهم بعض أسر المقامرين يتشهُّون القرش والرغيف. ترعشه نقاوتها، وتذكِّره كلماتها بالمشاهد التي رآها على شاشة التلفاز. أين أنت يا عبد الجبار من إنسانيتها.! يزداد تعلقا بها، وانشداداً نحوها. فهي لم تكتف بأن جعلت منه عاشقا من النظرة الأولى، بل فتحت عينيه على جوانب إنسانية كان قد نسيها في غمرة لهوه وترفه. - يُخيَّل إلي أنّ المقامر يحاصر نفسه بنفسه، وكأنه يقف خصما ضدها. يضحك عبد الجبار ويقول: تتحدثين وكأنك عالمة من علماء النفس. - ليت لي هذا الشرف! ألست معي في ذلك ؟ ألست معي أيضا في أنّ القمار يعلّم حب الأنا، والحقد على الآخرين؟ - وأنت ألستِ معي في أنّ سريرة الإنسان تنطوي على الفضائل والرذائل؟. قال عبد الجبار هذه الكلمات، وعيناه مفرودتان على صفحة النيل، فيما كانت عيناها تتأمل وجهه المشرع أمامها بوسامة غير خافية. يتداعى إلى نفسها سؤال صامت: ترى، كيف يمكن للجمال والبشاعة أن يجتمعا؟ وبصمت ترد على تساؤلها: لم لا؟ أليس بين الشوكة والوردة عناق حميم؟. ارتفعت الشمس حتى تكبّدت السماء. عملها في الصحيفة ينتظرها، وصفقاته المالية تنتظره. في حين كان النيل يمضي بانتظار لقاءات قريبة أخرى
كانت الساعة تشير إلى الرابعة صباحا، عندما عاد عبد الجبار إلى الفندق الفخم الذي يحلُّ فيه. أخذ حماماً ساخناً، ارتدى منامته الحريرية، وأراح جسده المندّى على الفراش الوثير. ثم أرخى لخياله عنان السفر على جسد ردينة وتفاصيله الأنثوية اليانعة، مع أنه ليس من الذين ينسرحون وراء الفنتازيا والأحلام.
إنه عاجز تماماً عن تعليل تعلقه بردينة، وحوله ورهن إشارته أحلى الشقراوات والسمراوات. فأمواله، تضع في خنصره خاتم سليمان، وفي يده مصباح علاء الدين. وما عليه إلا أن يحرك الخاتم أو يدعك المصباح، حتى تصبح الأحلام واقعاً والرغبات مقضية. عندما رأى عبد الجبار ردينة بطولها الفارع النحيل، وأنفها الاقنى، ظنَّها أو روبية. فقالوا بل عربية. حيّته بحيادية حيّرته، أشعلت الأفكار في رأسه، وأبعدته عن التركيز في اللعب. لماذا؟ لأنها أول فتاة يصادفها في هذا المكان، لا تبدي اهتماما به، ولا تأبه لمظاهر الفخفخة التي يحيط بها نفسه. صورة ردينة تحاصر مخيلته، تحتلها. يحدث نفسه، يسألها: أتراها نزوة رغبة، لأنَّ كل ممنوع مرغوب؟ أم أنه الحب؟ حب؟ وأنا لم أتعامل قبلا مع أية امرأة من منظور الحب؟. صحيح، إنما هذه المرة مختلفة. ألم يكد قلبك يطير من بين ضلوعك وأنت تراها تخطر في رواق الكازينو، بقدها الرمحي وجمالها العنبري؟ يتوقف عند لفظة كازينو. يتمنى أن يعرف ما الذي أتى بفتاة مثلها إلى هذا المكان؟ أهي مقامرة، أم أنها بنت..؟ لم يكمل الكلمة، التي شعر أنها لا تناسبها.
ثقل قلبه في صدره. زفراته المحمومة ترفع وتيرة عمل المكيف. يلوب في الغرفة متهيجاً ملتهباً، وكأنه مراهق صغير لا يملك سبيلاً لضبط مشاعره. للمرة الثالثة يغسل وجهه، يفرغ كأسين من الماء المثلج في جوفه المحترق. يمشي صوب باب الشرفة ليملأ صدره بنسمة منعشة، لكنّ فجر القاهرة كان يشق درب النهار بهواء ساخن رطب. يغلق إلى السرير. يطول أرقه. يضغط زر التلفاز على محطة تبث برامجها على مدار الساعة. تقتحم عينيه مشاهد تصور بعض الشباب الفلسطيني وهم يسقطون برصاص الإسرائيليين وهراواتهم. وكيف يسقط أطفال افريقيا وشيوخها تحت معول الجوع والفقر والمرض. يلوي شفتيه تبرما، يشتم محطة البث وأخبارها، ويغلق التلفاز. يحس شيئا ما، يتململ تحت جلده السميك، يهيب به أن يفيق من أنانيته وسلبيته، ويفكر بما شاهده منذ لحظات. يقتلع جسده عن الأريكة وهو يقول: والله عال، كمل النقل بالزعرور.! ما علاقتي أنا بما يجري في العالم، وبمن يموت أو يعيش؟. يسحب الستارة عن النافذة. شمس يوم جديد يفسح الضيق عن صدر الغرفة، وعن صدره.
يغتسل، يرتدي ثيابه ويخرج من الفندق إلى مقصف مطلٍّ على النيل حيث الهدوء والجمال، وحيث القوارب الصغيرة المستحمة بالنور والماء. يصفّ النادل طعام الفطور أمام عبد الجبار، ويملأ له فنجانا من الشاي الساخن. يرشف رشفات من مائه المنعش، تريح أعصابه وتسري الدفء في شرايينه، فتنبسط ملامحه لأحلام راودت قلبه المعنَّى. ومن غير استئذان تعصف بأنفه رائحة عطر يعرفها. يتلفت حوله، فيرى ردينة وهي تدلف صالة المقصف، متأبطة محفظة وكتبا وأوراقا. من يصدق أنَّ هذا يحدث له؟ من يصدق أنّ الفتاة التي أرّقت ليله هي الآن أمامه هكذا بكل بساطة.؟! تقع عينها في عينه وهي تتقدم بخطاها نحو مجلسه. يشدّ جسده إلى الوراء ليسيطر على دهشته، وقد صار للفرح أقدام تركض في أعماقه، تتسلق شرايينه، تضخ الدم إلى وجهه والعرق إلى يديه. تحييه ردينة، وتعتذر لتطفلها على خلوته. وبإشارة من يده، يدعوها للجلوس، بعد أن ضاعت من حلقه كلمات التحية والترحيب. كانت ردينة تتصفح قسمات وجه عبد الجبار بملامحه المدهوشة، وتردد كلمات الاعتذار كالببغاء. وبحركة من عينيه، يتساءل عبد الجبار عن السبب الذي أتى بها. فتقول ردينة: أنا صحفية، وقبل أن تكمل جملتها، يسألها بشك: قلت صحفية، ما علاقتي أنا بالصحافة؟. وطالبة، أحضّر بحثا عن نفسية المقامر وسلوكه. اهتز عبد الجبار، صدمته كلماتها وشعر بالامتعاض لجرأتها ومباشرتها في طرح أفكارها. عندما رآها ظنّ أنها قدمت لمؤانسته ومجالسته فخاب أمله. لكنه في ذات الوقت شعر بالارتياح، لأنّ ردينة ليست واحدة من إيّاهنَّ.
- جئت طامعة في مساعدتك. همست بحياء.
- ما هذا البحث الشائك، الخطر الذي اخترتيه؟
- الخطر محسوب في أي بحث نقوم به. سنتان وأنا أستجدي البيانات والمعلومات من الذين لهم صلة بهذا الموضوع. والنتيجة ما زالت دون مستوى الطموح.
- ما السبب في رأيك ؟ سأل عبد الجبار.
-لأنّ الناس في مجتمعنا يفتقرون إلى جرأة البوح عن أسرارهم، والتصريح عن مشكلاتهم.
أحس عبد الجبار، أنه قد وضع في ورطة. إن هو صدّ ردينة سيخسر مودتها، وإن استجاب لطلبها، سيتحول إلى موضوع في استمارة في بحث. وبذكائها استشفت ردينة ما يدور في داخله، فسارعت لقطع الطريق أمام رفضه وسألته: في رأيك، ما الذي يدفع الإنسان إلى المقامرة؟ وبدون تفكير أجاب: الفراغ، وحب اللهو.
_ هذا في بداية الأمر. لكن، ألا تتغير مع الزمن دوافع المقامر؟.
_ دوافعي أنا لم تتغير، أما عن غيري فلا أعرف. أنصحك أن تراقبي اللاعبين وتتابعيهم، مثلما فعلت ليلة أمس.
-ليتني أقدر. أعصابي لا تسعفني لأمكث طويلا في صالات القمار. أتألم لرؤية التعب على وجوه اللاعبين، والقلق في عيونهم، والاضطراب على أيديهم المعروقة وهي تمتد نحو أوراق اللعب لتضمها في مروحة تحمل بين شفراتها، الفوز أو السقوط. أتألم لرؤية الأموال وهي تحرق بينما العديد من الناس، وضمنهم بعض أسر المقامرين يتشهُّون القرش والرغيف. ترعشه نقاوتها، وتذكِّره كلماتها بالمشاهد التي رآها على شاشة التلفاز. أين أنت يا عبد الجبار من إنسانيتها.! يزداد تعلقا بها، وانشداداً نحوها. فهي لم تكتف بأن جعلت منه عاشقا من النظرة الأولى، بل فتحت عينيه على جوانب إنسانية كان قد نسيها في غمرة لهوه وترفه.
- يُخيَّل إلي أنّ المقامر يحاصر نفسه بنفسه، وكأنه يقف خصما ضدها. يضحك عبد الجبار ويقول: تتحدثين وكأنك عالمة من علماء النفس.
- ليت لي هذا الشرف! ألست معي في ذلك ؟ ألست معي أيضا في أنّ القمار يعلّم حب الأنا، والحقد على الآخرين؟
- وأنت ألستِ معي في أنّ سريرة الإنسان تنطوي على الفضائل والرذائل؟. قال عبد الجبار هذه الكلمات، وعيناه مفرودتان على صفحة النيل، فيما كانت عيناها تتأمل وجهه المشرع أمامها بوسامة غير خافية. يتداعى إلى نفسها سؤال صامت: ترى، كيف يمكن للجمال والبشاعة أن يجتمعا؟ وبصمت ترد على تساؤلها: لم لا؟ أليس بين الشوكة والوردة عناق حميم؟. ارتفعت الشمس حتى تكبّدت السماء. عملها في الصحيفة ينتظرها، وصفقاته المالية تنتظره. في حين كان النيل يمضي بانتظار لقاءات قريبة أخرى