عندما أخبرني فاضل برغبته بأن نرافقه إلى منتجع في ريف طرطوس، حيث سيشرف على تنفيذ حلقة دراسية تعقد هناك عن الصحة الإنجابية، شعرت بسعادة. وجدتُها فرصةً يخرج فيها الأولاد من تعب الامتحانات، وأخرج أنا من دائرة القلق التي تطبق على مشاعري وتفكيري. منذ شهور، وفاضل يتجاهل أنوثتي. يتركني وحيدة في السرير، نهباً لتساؤلات تتقاذفُني مثل كرة. ماذا جرى؟ ما الذي غيَّره من إنسان محب سمح القلب، إلى آخر متأفف بارد العاطفة؟. كنت أسأله عمّا به، فيجيبني بآلية تغيظني: مشاكل عمل، لا تقلقي. لا أقلق؟! كيف لا أقلق وأخبارُ علاقته بإحدى طبيبات قسمه تتسرب إلى سمعي يوماً بيوم! لو يعرف الزوج حجم معاناة زوجته عندما يغيب بلا عذر عن البيت، لما غاب! فكيف إذا اقترن غيابه بشائعات تكسر القلب؟!. لا أنكر أني أثق بفاضل. ولا أظن أنه يتخلى عني إلى امرأة أخرى، رغم اختلافنا وخلافاتنا. لكنَّ الثقة أحياناً لا تكفي. فالشائعات تحاصرني، وعلى غير رغبة مني، تقاسمني حياتي. تشوِّش نظرتي لزوجي، وتجعلني غير قادرة على التمييز بين الواقع والوهم. اكثر من مرة قررت أن أبلِّغ فاضل بما أسمع، وأن أحدثه عن خوفي من فقده. وما أن اقترب من هدفي حتى يغلبني خجلي من اتهامه بما ليس مؤكداً، فأبتعد. في أحاديثي مع صديقاتي، عن مشاكل الأزواج والزوجات، كنت أتباهى بإخلاص فاضل ومحبته لي وأراهن عليها. فكانت سعاد تلومني على ثقتي المفرطة، وتحذرني من غدر الرجال. وكانت زينب تذكِّرني بتجربتها المرة مع زوجها وطلاقها منه. وحدها سهير كانت تمسك العصا من منتصفها، وتنهاهما عن تسميم أفكاري نحو زوجي. فيعلو الاحتجاج ويحتدم النقاش، ويبدأ الرهان من جديد. * * * الأولاد نيام وفاضل في المشفى، وأنا في الشرفة وحدي. أهرب من شجني إلى مواقف معلقة في الذاكرة، تتزاحم في الحضور. يتقدمها مشهدُ لقائي الأول بفاضل. كنا في قاعة المحاضرات، التعب قد أخذ حقه من الطلاب، ودرس التشريح لم يكن قد انتهى بعد. التقى وجهانا، ضحكنا. عندما ضبط كلٌ منا الآخر متلبساً بجرم الملل، وجرم التثاؤب الذي أدمع أعيننا. نظرةٌ خاطفة خطفت قلبينا، فتحت أمامنا باب التعارف . وصار تأثير فاضل عليّ، وتأثيري عليه يتزايدُ مع كل لقاء. تتوالى المشاهد على ذاكرتي: زواجنا، إنجابنا، سفرنا إلى ألمانيا للدراسة، تخصص فاضل في أمراض النساء، وتخصصي في علم الأشعة. تأخذني نشوة الماضي، أشعر وكأني في خميلة كلما قطفت وردة تزهر أخرى. استبطأت رجعة فاضل! انقبض قلبي. أتراه معها؟ كيف تبدو، شقراء أم سمراء؟ طويلة أم قصيرة؟ أفكر ماذا لو اقتلعتني هذه التي لا أعرفها من حياة فاضل؟ أسخر من وساوسي. أحاول إقصاءها عن تفكيري، تلاحقني. وجودها منغرز تحت مساماتي، فلا مهرب! هنيهاتٌ دافئة تغمرني. تنقلني إلى حديقة مترفة الخضرة بابلية. الزملاء والمتدربون يتحلقون حول الطاولات يَسْمَرون. فاضل إلى جانبي يبدو برماً متململاً، والكرسي يتأوَّد تحت اهتزاز ساقيه. لاحظ زملاؤه اغترابه، حاولوا اجتذابه بالنكات حيناً، وبالمسائل العلمية حيناً، فكان نصف مرحب ونصف شارد. على الطرف المقابل لنا تجلس طبيبتان. تلاصق رأساهما بحديث استشعرت أنه يخصني. كانت نظراتهما تضربان دواخلي تشتتاني، تنصبَّان بالتناوب على فاضل وعليّ. جهدت في استقراء الشفاه، قاطعتُ الكلمات بالنظرات، فتبينت أن الإشاعة ليست إشاعة، وأن علاقة فاضل بالطبيبة علاقةٌ مؤكدة. شعرت بسذاجتي وقصر رؤيتي، وأيقنت أني قد خسرت الرهان لصالح سعاد وزينب. يا للزمن الوحشي الذي يسوقنا إلى نهاية لا نتوقعها، ويقسرنا أن نرى أحبابنا على عكس ما نعتقد ونتمنى!!. * * * غادرت الحديقة من غير أن يلحظ أحد ذلك. خرجت إلى الطريق الممتدة بين المنتجع والقرية. مشيت في حزن الليل. درت، جريت، زعقت حتى اختلط صوتي بالشجر وبالبيوت الصغيرة. من قبل، لم أكن أعرف كيف تشعر المرأة لدى تيقنها من خيانة زوجها لها، والآن أجزم، أني أعرف. كنت غاضبة حانقة. لو أقدر أن أحطم الصخر برأسي وبرأسه لما امتنعت. خمسة عشر عاماً ضاعت، تلاشت في طوفان الغش والكذب. غدا يسير ابننا نحو عامه الرابع عشر، وزواجنا يسير نحو نهايته، أية مفارقة مؤلمة؟!. ضباب كثيف يحجب النجوم، والخريف يرش رذاذه على ثيابي ووجهي. أقرر العودة لأواجه فاضل بفعلته. شيء ما يمسكني، يمنعني. ألهث، ألهث، يتقطع نفسي، وصدري يضيق. أفيق مذعورة. كان فاضل يوقظني برقة، ويقول: نائلة ما بك تختلجين؟ أتشعرين بالبرد أم كنت تحلمين؟. تعالي ندخل الغرفة، ونوقظ الأولاد، لنغادر معاً إلى المنتجع قبل أن تشرق الشمس. وقفتُ ساكنة تماماً، مشدوهة. أنظر إلى زوجي، بين مصدقة ومكذبة. وليس على فمي كلمات أستطيع أن أعبر بها عن فرحتي، بأن ما مررت به كان مجرد حلم ...!
عندما أخبرني فاضل برغبته بأن نرافقه إلى منتجع في ريف طرطوس، حيث سيشرف على تنفيذ حلقة دراسية تعقد هناك عن الصحة الإنجابية، شعرت بسعادة. وجدتُها فرصةً يخرج فيها الأولاد من تعب الامتحانات، وأخرج أنا من دائرة القلق التي تطبق على مشاعري وتفكيري.
منذ شهور، وفاضل يتجاهل أنوثتي. يتركني وحيدة في السرير، نهباً لتساؤلات تتقاذفُني مثل كرة. ماذا جرى؟ ما الذي غيَّره من إنسان محب سمح القلب، إلى آخر متأفف بارد العاطفة؟.
كنت أسأله عمّا به، فيجيبني بآلية تغيظني: مشاكل عمل، لا تقلقي.
لا أقلق؟! كيف لا أقلق وأخبارُ علاقته بإحدى طبيبات قسمه تتسرب إلى سمعي يوماً بيوم!
لو يعرف الزوج حجم معاناة زوجته عندما يغيب بلا عذر عن البيت، لما غاب! فكيف إذا اقترن غيابه بشائعات تكسر القلب؟!.
لا أنكر أني أثق بفاضل. ولا أظن أنه يتخلى عني إلى امرأة أخرى، رغم اختلافنا وخلافاتنا. لكنَّ الثقة أحياناً لا تكفي. فالشائعات تحاصرني، وعلى غير رغبة مني، تقاسمني حياتي. تشوِّش نظرتي لزوجي، وتجعلني غير قادرة على التمييز بين الواقع والوهم. اكثر من مرة قررت أن أبلِّغ فاضل بما أسمع، وأن أحدثه عن خوفي من فقده. وما أن اقترب من هدفي حتى يغلبني خجلي من اتهامه بما ليس مؤكداً، فأبتعد.
في أحاديثي مع صديقاتي، عن مشاكل الأزواج والزوجات، كنت أتباهى بإخلاص فاضل ومحبته لي وأراهن عليها. فكانت سعاد تلومني على ثقتي المفرطة، وتحذرني من غدر الرجال. وكانت زينب تذكِّرني بتجربتها المرة مع زوجها وطلاقها منه. وحدها سهير كانت تمسك العصا من منتصفها، وتنهاهما عن تسميم أفكاري نحو زوجي. فيعلو الاحتجاج ويحتدم النقاش، ويبدأ الرهان من جديد.
* * *
الأولاد نيام وفاضل في المشفى، وأنا في الشرفة وحدي. أهرب من شجني إلى مواقف معلقة في الذاكرة، تتزاحم في الحضور. يتقدمها مشهدُ لقائي الأول بفاضل. كنا في قاعة المحاضرات، التعب قد أخذ حقه من الطلاب، ودرس التشريح لم يكن قد انتهى بعد. التقى وجهانا، ضحكنا. عندما ضبط كلٌ منا الآخر متلبساً بجرم الملل، وجرم التثاؤب الذي أدمع أعيننا. نظرةٌ خاطفة خطفت قلبينا، فتحت أمامنا باب التعارف . وصار تأثير فاضل عليّ، وتأثيري عليه يتزايدُ مع كل لقاء.
تتوالى المشاهد على ذاكرتي: زواجنا، إنجابنا، سفرنا إلى ألمانيا للدراسة، تخصص فاضل في أمراض النساء، وتخصصي في علم الأشعة. تأخذني نشوة الماضي، أشعر وكأني في خميلة كلما قطفت وردة تزهر أخرى.
استبطأت رجعة فاضل! انقبض قلبي. أتراه معها؟ كيف تبدو، شقراء أم سمراء؟ طويلة أم قصيرة؟ أفكر ماذا لو اقتلعتني هذه التي لا أعرفها من حياة فاضل؟ أسخر من وساوسي. أحاول إقصاءها عن تفكيري، تلاحقني. وجودها منغرز تحت مساماتي، فلا مهرب!
هنيهاتٌ دافئة تغمرني. تنقلني إلى حديقة مترفة الخضرة بابلية. الزملاء والمتدربون يتحلقون حول الطاولات يَسْمَرون. فاضل إلى جانبي يبدو برماً متململاً، والكرسي يتأوَّد تحت اهتزاز ساقيه. لاحظ زملاؤه اغترابه، حاولوا اجتذابه بالنكات حيناً، وبالمسائل العلمية حيناً، فكان نصف مرحب ونصف شارد.
على الطرف المقابل لنا تجلس طبيبتان. تلاصق رأساهما بحديث استشعرت أنه يخصني. كانت نظراتهما تضربان دواخلي تشتتاني، تنصبَّان بالتناوب على فاضل وعليّ. جهدت في استقراء الشفاه، قاطعتُ الكلمات بالنظرات، فتبينت أن الإشاعة ليست إشاعة، وأن علاقة فاضل بالطبيبة علاقةٌ مؤكدة. شعرت بسذاجتي وقصر رؤيتي، وأيقنت أني قد خسرت الرهان لصالح سعاد وزينب. يا للزمن الوحشي الذي يسوقنا إلى نهاية لا نتوقعها، ويقسرنا أن نرى أحبابنا على عكس ما نعتقد ونتمنى!!.
غادرت الحديقة من غير أن يلحظ أحد ذلك. خرجت إلى الطريق الممتدة بين المنتجع والقرية. مشيت في حزن الليل. درت، جريت، زعقت حتى اختلط صوتي بالشجر وبالبيوت الصغيرة. من قبل، لم أكن أعرف كيف تشعر المرأة لدى تيقنها من خيانة زوجها لها، والآن أجزم، أني أعرف.
كنت غاضبة حانقة. لو أقدر أن أحطم الصخر برأسي وبرأسه لما امتنعت. خمسة عشر عاماً ضاعت، تلاشت في طوفان الغش والكذب. غدا يسير ابننا نحو عامه الرابع عشر، وزواجنا يسير نحو نهايته، أية مفارقة مؤلمة؟!.
ضباب كثيف يحجب النجوم، والخريف يرش رذاذه على ثيابي ووجهي. أقرر العودة لأواجه فاضل بفعلته. شيء ما يمسكني، يمنعني. ألهث، ألهث، يتقطع نفسي، وصدري يضيق. أفيق مذعورة. كان فاضل يوقظني برقة، ويقول: نائلة ما بك تختلجين؟ أتشعرين بالبرد أم كنت تحلمين؟. تعالي ندخل الغرفة، ونوقظ الأولاد، لنغادر معاً إلى المنتجع قبل أن تشرق الشمس.
وقفتُ ساكنة تماماً، مشدوهة. أنظر إلى زوجي، بين مصدقة ومكذبة. وليس على فمي كلمات أستطيع أن أعبر بها عن فرحتي، بأن ما مررت به كان مجرد حلم ...!