حين كان المطر يتساقط ناعماً والشمس تقتحم السماء بلا خجل أو تردد، كانت رنا تقطع على قدميها المسافة بين بيتها والمكان الذي تقصده. في ذهنها حزمة من الأفكار القلقة، وفي مخيلتها صور ملونة للقاء يختلف عن كل اللقاءات. في ذات الأثناء كانت السيدة ثريا ترقد في الفراش تتألم. ومع أنّ الطبيب بثّ الأمل في نفسها، وزعم أنّ مرضها مجرد وعكة بسيطة، إلاّ أنه غير مطمئن تماما لحالتها. الباب يقرع، طرقاته ترعش السيدة ثريا النائمة بفعل حبوب مهدئة. تفيق، عليها أن تنهض لا أحد في البيت سواها. زوجها في العمل والخادمة في إجازة. تفترُّ درفتا الباب عن وجه رنا، وعن جسد ناحل في الداخل، وصوت واهن يقول: أخيرا جئت! ادخلي، وأغلقي الباب خلفك يزغلل قلب رنا بشراً. عدم الحذر في دعوتها للدخول، حررها من كثير من التشنج، وأزاح عن صدرها عبء الخطوة الأولى. تصل السيدة ثريا إلى سريرها بتثاقل واضح، وهي تلهث. مددت جسدها على الفراش، وسحبت عليه الملاءة السميكة، وقد اتخذ وجهها لون الأموات. ترتبك رنا، تعتذر بحياء صادق عن حضور جاء في غير وقته، وتستأذن بالانصراف. تستبقيها السيدة ثريا قائلة: بل جئت في وقتك. موقف السيدة أوحى لرنا، بأنّ (حسان) قد مهّد لها عند أمه. فتساءلت بتخابث: في وقتي؟! - تماماً. ألست من طرف السيدة فريال؟ - من السيدة فريال؟ هناك على ما يبدو سوء تفاهم. - لا يهم. استبدلي ثيابك وابدأ العمل. تنفر رنا من مقعدها مثل مهر أرون، وهي تقول: دعيني أشرح لك الموقف. ومثل غريق يتعلق بقشة، ترفض السيدة ثريا أن تسمع أي شرح أو تفسير، وتلح على رنا بأن تستبدل ثيابها بالمريول المعلق على مشبك خلف باب المطبخ. يمتلئ الهواء في صدر رنا بالضيق والتذمر والصمت. وهي متسمرة، لا تدري ماذا تفعل أو تقول. نظراتها، تفرُّ منها تمسح أبعاد الغرفة وأثاثها المصدّف الثمين. تستقر على وجه المريضة الذابل وجفنيها المتعبين، فتحس بالتعاطف معها. -ما بك تقفين هكذا كالخشبة؟ هيا تحركي هيا. الكلمات تخرج من بين شفتي ثريا متقطعة متآكلة. في هذه اللحظة، تتبدل مشاعر التعاطف في نفس رنا إلى مشاعر كره تجاه هذه السيدة المتسرعة المتعالية، على ضعفها وقلة حيلتها. تأسف رنا على أحلام، لم تكن غير أوهام. على صور، لم تكن سوى سراب. تفكر بالهروب، تتحرك قدماها باتجاه الباب. يتمثل لها حسان بقامته المديدة ووجهه الصبيح فيجتاحها حنين. ترن في سمعها دفء كلماته عن أمه ووحدتها، وعن حاجتها لابنة تكون معها تعينها وتسليها بعد أن تغرَّب عنها كل أولادها. تلوم رنا مشاعرها العدوانية، وتقرر أن تعلن عن هويتها وسبب مجيئها، قبل أن يزداد الموقف تأزُّماً. -سيدة ثريا، أرجوك أن تسمعيني. فأنا لست عاملة التنظيف التي تنتظرينها. أنا رنا، صديقة حسان. سماع اسم ابنها حسان يريح أعصابها، يفك عقدة حاجبيها، فتبتسم. (أخيراً يجد حسان وقتاً للحب. كنت خائفة على مشاعره، من عمله الجاف المتواصل. سعيدة أنا لأجله. لكن، كيف يرتبط ولا يعلمني؟ وأنا التي عشت في ثقة طوال هذه السنين، بأن أبنائي لا يخفون عني شيئا!. لا تتعجلي بالحكم يا ثريا. ما أدراك أن هذه الفتاة صادقة فيما تقول؟ ). كانت رنا تراقب تفاعلات السيدة ثريا الصامتة. تعاودها المشاعر العدوانية. تتمنى لو يرى حسان والدته ليعرف أن أمه ليست كما وصفها رقيقة كالورد شفافة كأشعة القمر. - سيدة ثريا. قد تراودك عني أفكار غير مريحة. إذ ليس من المألوف في بلدنا أن تطرق الفتاة باب من تحب. إحساسي بصدق عواطف حسان جعلني أنفِّذ، وبدون تفكير، رغبته بأن أزورك، أتعرف بك وأطمئن عليك. كنت وحسان زملاء في الجامعة، وبعد التخرج ذهب كل منا في طريق. المصادفة جمعتنا ثانية في بيت أختي في قطر، حيث يعمل زوجها، وحسان في شركة واحدة. كانت السيدة ثريا تنصت لكلمات رنا، وهي تفرك يديها بشدة تحت الملاءة، لتخفي ردودها المستنكِرَة. ترتفع سآمة الجو وسخونته. تتصيد رنا النسمات الطائشة عند الممر المفتوح على صالونات البيت وغرفه الواسعة الأنيقة. وبدون مناسبة، تتذكر أن لحسان جدة تعيش هنا في البيت، فتسأل: أين الجدة، كيف حالها؟ (يا لها من فتاة جريئة! تسأل أيضاً عن الجدة!!). - آآ. الجدة! كبرت وخرفت ولم تعد تصلح لشيء. - قال حسان إنها تعيش معكم. وهي صاحبة فضل في تربيته، هو وأخوته. - كان هذا من زمن طويل، عندما كانت قوية. أمّا اليوم، فهي مثل قفة الهمّ. منذ شهرين أدخلتها دار السعادة. - أدخلتها أين ؟ - دار السعادة. ألم تسمعي بدار السعادة ؟. إنها دار للمسنين تشبه فندق خمس نجوم. أجرة الغرفة عشرة آلاف ليرة للشهر الواحد. كان لعاب السيدة ثريا يطقطق في حلقها، يسد مخارج حروفها، فتشرق وتشهق كديك مذبوح. ورنا تنظر إليها ساكنة لا تريم، لا تجد في نفسها دعوة لمساعدتها والتخفيف عنها. وبدون كلمات وداع، تستدير باتجاه الباب الخارجي. وقبل أن تدير مقبضه وتخرج، تعود إلى غرفة السيدة ثريا، وتسألها: بالمناسبة، أين تقع دار السعادة؟. تتحجر مقلتا السيدة ثريا، يتهدل جسدها مثل عنقود انفرطت حباته، وتغرق في صمت ثقيل. في حين كانت خطوات رنا تلّم قطرات المطر عن إسفلت الطريق
حين كان المطر يتساقط ناعماً والشمس تقتحم السماء بلا خجل أو تردد، كانت رنا تقطع على قدميها المسافة بين بيتها والمكان الذي تقصده. في ذهنها حزمة من الأفكار القلقة، وفي مخيلتها صور ملونة للقاء يختلف عن كل اللقاءات.
في ذات الأثناء كانت السيدة ثريا ترقد في الفراش تتألم. ومع أنّ الطبيب بثّ الأمل في نفسها، وزعم أنّ مرضها مجرد وعكة بسيطة، إلاّ أنه غير مطمئن تماما لحالتها.
الباب يقرع، طرقاته ترعش السيدة ثريا النائمة بفعل حبوب مهدئة. تفيق، عليها أن تنهض لا أحد في البيت سواها. زوجها في العمل والخادمة في إجازة. تفترُّ درفتا الباب عن وجه رنا، وعن جسد ناحل في الداخل، وصوت واهن يقول: أخيرا جئت! ادخلي، وأغلقي الباب خلفك يزغلل قلب رنا بشراً. عدم الحذر في دعوتها للدخول، حررها من كثير من التشنج، وأزاح عن صدرها عبء الخطوة الأولى.
تصل السيدة ثريا إلى سريرها بتثاقل واضح، وهي تلهث. مددت جسدها على الفراش، وسحبت عليه الملاءة السميكة، وقد اتخذ وجهها لون الأموات. ترتبك رنا، تعتذر بحياء صادق عن حضور جاء في غير وقته، وتستأذن بالانصراف. تستبقيها السيدة ثريا قائلة: بل جئت في وقتك. موقف السيدة أوحى لرنا، بأنّ (حسان) قد مهّد لها عند أمه. فتساءلت بتخابث: في وقتي؟!
- تماماً. ألست من طرف السيدة فريال؟
- من السيدة فريال؟ هناك على ما يبدو سوء تفاهم.
- لا يهم. استبدلي ثيابك وابدأ العمل.
تنفر رنا من مقعدها مثل مهر أرون، وهي تقول: دعيني أشرح لك الموقف.
ومثل غريق يتعلق بقشة، ترفض السيدة ثريا أن تسمع أي شرح أو تفسير، وتلح على رنا بأن تستبدل ثيابها بالمريول المعلق على مشبك خلف باب المطبخ.
يمتلئ الهواء في صدر رنا بالضيق والتذمر والصمت. وهي متسمرة، لا تدري ماذا تفعل أو تقول. نظراتها، تفرُّ منها تمسح أبعاد الغرفة وأثاثها المصدّف الثمين. تستقر على وجه المريضة الذابل وجفنيها المتعبين، فتحس بالتعاطف معها.
-ما بك تقفين هكذا كالخشبة؟ هيا تحركي هيا. الكلمات تخرج من بين شفتي ثريا متقطعة متآكلة.
في هذه اللحظة، تتبدل مشاعر التعاطف في نفس رنا إلى مشاعر كره تجاه هذه السيدة المتسرعة المتعالية، على ضعفها وقلة حيلتها. تأسف رنا على أحلام، لم تكن غير أوهام. على صور، لم تكن سوى سراب. تفكر بالهروب، تتحرك قدماها باتجاه الباب. يتمثل لها حسان بقامته المديدة ووجهه الصبيح فيجتاحها حنين. ترن في سمعها دفء كلماته عن أمه ووحدتها، وعن حاجتها لابنة تكون معها تعينها وتسليها بعد أن تغرَّب عنها كل أولادها.
تلوم رنا مشاعرها العدوانية، وتقرر أن تعلن عن هويتها وسبب مجيئها، قبل أن يزداد الموقف تأزُّماً.
-سيدة ثريا، أرجوك أن تسمعيني. فأنا لست عاملة التنظيف التي تنتظرينها. أنا رنا، صديقة حسان.
سماع اسم ابنها حسان يريح أعصابها، يفك عقدة حاجبيها، فتبتسم.
(أخيراً يجد حسان وقتاً للحب. كنت خائفة على مشاعره، من عمله الجاف المتواصل. سعيدة أنا لأجله. لكن، كيف يرتبط ولا يعلمني؟ وأنا التي عشت في ثقة طوال هذه السنين، بأن أبنائي لا يخفون عني شيئا!. لا تتعجلي بالحكم يا ثريا. ما أدراك أن هذه الفتاة صادقة فيما تقول؟ ).
كانت رنا تراقب تفاعلات السيدة ثريا الصامتة. تعاودها المشاعر العدوانية. تتمنى لو يرى حسان والدته ليعرف أن أمه ليست كما وصفها رقيقة كالورد شفافة كأشعة القمر.
- سيدة ثريا. قد تراودك عني أفكار غير مريحة. إذ ليس من المألوف في بلدنا أن تطرق الفتاة باب من تحب. إحساسي بصدق عواطف حسان جعلني أنفِّذ، وبدون تفكير، رغبته بأن أزورك، أتعرف بك وأطمئن عليك. كنت وحسان زملاء في الجامعة، وبعد التخرج ذهب كل منا في طريق. المصادفة جمعتنا ثانية في بيت أختي في قطر، حيث يعمل زوجها، وحسان في شركة واحدة.
كانت السيدة ثريا تنصت لكلمات رنا، وهي تفرك يديها بشدة تحت الملاءة، لتخفي ردودها المستنكِرَة.
ترتفع سآمة الجو وسخونته. تتصيد رنا النسمات الطائشة عند الممر المفتوح على صالونات البيت وغرفه الواسعة الأنيقة. وبدون مناسبة، تتذكر أن لحسان جدة تعيش هنا في البيت، فتسأل: أين الجدة، كيف حالها؟
(يا لها من فتاة جريئة! تسأل أيضاً عن الجدة!!).
- آآ. الجدة! كبرت وخرفت ولم تعد تصلح لشيء.
- قال حسان إنها تعيش معكم. وهي صاحبة فضل في تربيته، هو وأخوته.
- كان هذا من زمن طويل، عندما كانت قوية. أمّا اليوم، فهي مثل قفة الهمّ. منذ شهرين أدخلتها دار السعادة.
- أدخلتها أين ؟
- دار السعادة. ألم تسمعي بدار السعادة ؟. إنها دار للمسنين تشبه فندق خمس نجوم. أجرة الغرفة عشرة آلاف ليرة للشهر الواحد. كان لعاب السيدة ثريا يطقطق في حلقها، يسد مخارج حروفها، فتشرق وتشهق كديك مذبوح. ورنا تنظر إليها ساكنة لا تريم، لا تجد في نفسها دعوة لمساعدتها والتخفيف عنها. وبدون كلمات وداع، تستدير باتجاه الباب الخارجي. وقبل أن تدير مقبضه وتخرج، تعود إلى غرفة السيدة ثريا، وتسألها:
بالمناسبة، أين تقع دار السعادة؟.
تتحجر مقلتا السيدة ثريا، يتهدل جسدها مثل عنقود انفرطت حباته، وتغرق في صمت ثقيل. في حين كانت خطوات رنا تلّم قطرات المطر عن إسفلت الطريق