بعد جولة حافلة بالتلاطم مع الأمواج البشرية في أسواق القاهرة، اقترحت صديقتي أن تكون استراحتنا في مطعم الكبابجي بشيراتون الجزيرة، حيث الأزرقان الماء والسماء. الفصل ربيع، والجو مفعم بالدفء والعذوبة. والنيل كعادته يستلقي بمحبة بين الجفون، يجتز من الأرواح التعبة أحزانها، وينبتُ مكانها فرحاً أخضر، يستحم برذاذ النشوة والطيب. بشهية، أخذنا نتناول طعامنا عند ركن يداعب خد النيل، ونحن نستمع إلى مطرب يغني ويعزف على عوده أشجى الألحان. استراحة ولا أحلى! همست لصديقتي، التي أيدتني بهزة متحمسة من رأسها. بعد لحظات التفتت إليَّ متسائلة: ألا تظنين أنهم مغاربة؟ قلت: من تقصدين؟ قالت: هؤلاء ودلّت على طاولة، يتحلق حولها عشرة من النساء والرجال، يضجون مرحاً ويصفقون للمطرب تشجيعاً واستحساناً. لم أوافق صديقتي على تخمينها ولم أخالفه، فأنا لم أتبين تماماً، اللهجة التي تطبع كلامهم. وبعد أن التهمت جلستنا ما في حوزتنا من زمن، وما في جسدينا من تعب، سددنا الحساب ونهضنا للانصراف. لكنّ صديقتي أرادت أن تثبت لي حسن فراستها، فتوقفت أمام تلك الطاولة وألقت على جلاسها التحية، وسألتهم لهم بلهجة المتيقن من الجواب: أنتم من المغرب، ها؟!. - لا. نحن من إسرائيل. الرعشة الجليدية التي لبست وجهها، لم تمنعها من متابعة تساؤلها: - فلسطينيون، ألستم كذلك ؟ - لا، بل يهود. وباستنكار واضح قالت: كيف، وأنتم تتكلمون العربية؟ وبلسان واحد ردّوا، نحن من يهود العراق. في حين علت وجوههم ابتسامة صفراء، وسكنت عيونهم نظرات تنوشنا تحدياً واستصغاراً. تماسكت صديقتي أمام ورطتها، وهمتْ بمتابعة مسيرها نحو باب الخروج. أما أنا، فدار رأسي وزاغ طرفي. هبوب ذل صفعني، وضعني في مهبٍّ لا أستطيع له دفعاً. فجأة، وجدت نفسي في ظروف غريبة لم تعبر خاطري ولم أكن مستعدة لها. أحسست ببعد سحيق عن أرض كانت لي منذ لحظات هي الوطن. شعور قهر يخترقني، يهيب بي أن أمزق وجوههم النتنة وقلوبهم الجاحدة. أيولدون في بلادنا وينشأون على ترابها ثم يتنكرون لها وينتسبون لإسرائيل؟. ما هو السّر في هذا التصرف، وأين يكمن؟ أيكمن في دين استطاع أن يحوّل عقيدته إلى انتماء وقومية؟ أم يكمن في خنوع أمة هانت عليها نفسها، فهانت أرضها على الأعداء، وذلَّت لأقدامهم النجسة؟!. في تلك اللحظة، تمنيت أن تتوحش مياه النيل الوادعة لتقتلعهم من هدأتهم، وتجعلهم مضغة لحيتانها الخضراء. تمنيت أن أسمع صراخهم متوسلاً محموماً، ولا من منقذ أو مجير. هل ذهبت في التمني بعيداً؟ أم أن زمن تحقيق الأمنيات لم يحن بعد؟!. لم تمهلني ذاكرتي لأعيد إلى جسدي توازنه وإلى دواخلي تماسكها. فالمسالك تشتبك وتتشعب، والأحداث تتداخل وتتلون باهتة واضحة قاتمة مشرقة. تداعياتي تنقلني إلى مدى من صور جارحة، توزعتها مساحات محتلة في الجولان والجليل وغزة والقدس. صور جارحة، لأطفال يسقطون كل يوم برصاص غادر في فلسطين وفي جنوب لبنان. صور جارحة، لأشلاء غضة تناثرت ورداً فوق تراب قانا. ولدماء زكية، تركت وشمها على جدران المسجد الإبراهيمي. صور جارحة، لرجال استشهدوا في الجليل وسيناء والنقب والبطيحة، كي يرفعوا الوطن إلى سمت الشمس، ويجعلوه وردة أفق لا تذوي ولا تغيب. سؤال يفد إلى خاطري، يلوب في فضاء ذاكرتي يجرحني ويحرجني. سؤال يقول: لو أن هؤلاء الشهداء بُعثوا أحياء ورأوا ما أرى، ما تراهم يفعلون؟ أيتقبلون ما يجري فوق الأرض العربية. أيوافقون على إذابة دمائهم في مياه السلام الخلبية الآسنة، ويسامحون؟. أم يعيدون أسطورة كفاحهم ويبذلون دماءهم من جديد؟. أفيق من ارتياداتي الحالمة على يد صديقتي، وهي تسحبني خارج المكان الجحيم. أصوات ضحكات متشفية ترافقنا تجلد مسامعنا، تيّقظ عقلي، وتردني إلى لحظة البدء. ابتلع ريقي، يجرحني طعمه الحنظل. فأدرك أن زمن تحقيق الأمنيات لم يحن بعد! آه يا عـرب. . . آه يا نـيـل!. .
بعد جولة حافلة بالتلاطم مع الأمواج البشرية في أسواق القاهرة، اقترحت صديقتي أن تكون استراحتنا في مطعم الكبابجي بشيراتون الجزيرة، حيث الأزرقان الماء والسماء. الفصل ربيع، والجو مفعم بالدفء والعذوبة. والنيل كعادته يستلقي بمحبة بين الجفون، يجتز من الأرواح التعبة أحزانها، وينبتُ مكانها فرحاً أخضر، يستحم برذاذ النشوة والطيب.
بشهية، أخذنا نتناول طعامنا عند ركن يداعب خد النيل، ونحن نستمع إلى مطرب يغني ويعزف على عوده أشجى الألحان.
استراحة ولا أحلى! همست لصديقتي، التي أيدتني بهزة متحمسة من رأسها. بعد لحظات التفتت إليَّ متسائلة: ألا تظنين أنهم مغاربة؟ قلت: من تقصدين؟ قالت: هؤلاء ودلّت على طاولة، يتحلق حولها عشرة من النساء والرجال، يضجون مرحاً ويصفقون للمطرب تشجيعاً واستحساناً.
لم أوافق صديقتي على تخمينها ولم أخالفه، فأنا لم أتبين تماماً، اللهجة التي تطبع كلامهم. وبعد أن التهمت جلستنا ما في حوزتنا من زمن، وما في جسدينا من تعب، سددنا الحساب ونهضنا للانصراف. لكنّ صديقتي أرادت أن تثبت لي حسن فراستها، فتوقفت أمام تلك الطاولة وألقت على جلاسها التحية، وسألتهم لهم بلهجة المتيقن من الجواب: أنتم من المغرب، ها؟!.
- لا. نحن من إسرائيل.
الرعشة الجليدية التي لبست وجهها، لم تمنعها من متابعة تساؤلها:
- فلسطينيون، ألستم كذلك ؟
- لا، بل يهود.
وباستنكار واضح قالت: كيف، وأنتم تتكلمون العربية؟
وبلسان واحد ردّوا، نحن من يهود العراق. في حين علت وجوههم ابتسامة صفراء، وسكنت عيونهم نظرات تنوشنا تحدياً واستصغاراً.
تماسكت صديقتي أمام ورطتها، وهمتْ بمتابعة مسيرها نحو باب الخروج. أما أنا، فدار رأسي وزاغ طرفي. هبوب ذل صفعني، وضعني في مهبٍّ لا أستطيع له دفعاً. فجأة، وجدت نفسي في ظروف غريبة لم تعبر خاطري ولم أكن مستعدة لها. أحسست ببعد سحيق عن أرض كانت لي منذ لحظات هي الوطن. شعور قهر يخترقني، يهيب بي أن أمزق وجوههم النتنة وقلوبهم الجاحدة. أيولدون في بلادنا وينشأون على ترابها ثم يتنكرون لها وينتسبون لإسرائيل؟.
ما هو السّر في هذا التصرف، وأين يكمن؟ أيكمن في دين استطاع أن يحوّل عقيدته إلى انتماء وقومية؟ أم يكمن في خنوع أمة هانت عليها نفسها، فهانت أرضها على الأعداء، وذلَّت لأقدامهم النجسة؟!.
في تلك اللحظة، تمنيت أن تتوحش مياه النيل الوادعة لتقتلعهم من هدأتهم، وتجعلهم مضغة لحيتانها الخضراء. تمنيت أن أسمع صراخهم متوسلاً محموماً، ولا من منقذ أو مجير. هل ذهبت في التمني بعيداً؟ أم أن زمن تحقيق الأمنيات لم يحن بعد؟!.
لم تمهلني ذاكرتي لأعيد إلى جسدي توازنه وإلى دواخلي تماسكها. فالمسالك تشتبك وتتشعب، والأحداث تتداخل وتتلون باهتة واضحة قاتمة مشرقة.
تداعياتي تنقلني إلى مدى من صور جارحة، توزعتها مساحات محتلة في الجولان والجليل وغزة والقدس. صور جارحة، لأطفال يسقطون كل يوم برصاص غادر في فلسطين وفي جنوب لبنان. صور جارحة، لأشلاء غضة تناثرت ورداً فوق تراب قانا. ولدماء زكية، تركت وشمها على جدران المسجد الإبراهيمي. صور جارحة، لرجال استشهدوا في الجليل وسيناء والنقب والبطيحة، كي يرفعوا الوطن إلى سمت الشمس، ويجعلوه وردة أفق لا تذوي ولا تغيب. سؤال يفد إلى خاطري، يلوب في فضاء ذاكرتي يجرحني ويحرجني. سؤال يقول: لو أن هؤلاء الشهداء بُعثوا أحياء ورأوا ما أرى، ما تراهم يفعلون؟ أيتقبلون ما يجري فوق الأرض العربية. أيوافقون على إذابة دمائهم في مياه السلام الخلبية الآسنة، ويسامحون؟. أم يعيدون أسطورة كفاحهم ويبذلون دماءهم من جديد؟.
أفيق من ارتياداتي الحالمة على يد صديقتي، وهي تسحبني خارج المكان الجحيم. أصوات ضحكات متشفية ترافقنا تجلد مسامعنا، تيّقظ عقلي، وتردني إلى لحظة البدء. ابتلع ريقي، يجرحني طعمه الحنظل. فأدرك أن زمن تحقيق الأمنيات لم يحن بعد!
آه يا عـرب. . . آه يا نـيـل!. .