(1) لم يبْدُ المشهدُ ملفتاً للنظر في بادئ الأمر. كانت الساعة تقارب الحادية عشرة صباحاً، وثمّة رجلٌ واقف على إفريز نافذة في الطابق الخامس من إحدى المؤسسات الرسمية وهي يتشبّث للحفاظ على توازنه ممسكاً بطرف يافطة صغيرة معلقة فوق منكبه الأيسر. يظن المارة الذين يرفعون أبصارهم إلى فوق أنه عامل يؤدّي مهمّة معيّنة فلا يأبهون كثيراً، غير أن الرؤوس التي برزت من النوافذ المجاورة له في البناء بدأت تلفت النظر، وعندئذ شرع الناس يتجمهرون وهم يتطلعون بفضول إلى أعلى. إن الرجل لا يتحرّك وقد طال وقوفه حتى تلتقط الآذان صيحةً مفهومة: "ارجع إلى عقلك يا "أبو فاضل"!" ويعلّق أحدهم بقوله: "يبدو أن الرجل يُفكّر في الانتحار." وعندها صار المشهد مفهوماً لدى الجميع، فلم تمضِ دقائق حتى امتلأ الشارع بالبشر وقد التوت أعناقهم إلى الخلف وهم يراقبون المنظر الذي بدا مخيفاً أوّل الأمر، ثمّ صار مسلّياً للغاية. (2) - يزاحموننا حتى على خبزنا.. حتى على الحليب والخيار والبندورة.. حتى على الحافلات.. أين يهرب الإنسان منهم؟!.. لو انتبهتَ في الليل إلى أن كيس الخبز فارغ إذن لذهبت ولما حدث ماحدث. ماذا جاء بهم صباحاً. ولماذا اختاروني بالذات كي يدفعوني ويلقوني أرضاً. لم أكن غير واحد في الزحام، دودة من الديدان الجائعة المتراصة، فلماذا اختاروني أنا بالذات؟ كل هذا بسبب تلك الكلمة البسيطة التي لا أدري كيف سمعوها. ألا يحق للإنسان أن يدافع عن دوره في أن ينال حصّته من الخبز... (3) يُمكن القول إن العمل قد تعطّل إلى حدّ بعيد بين الموظفين الذين سمعوا الخبر إذ تسابقوا على النوافذ كي يشاهدوا "أبو فاضل" الآذن الذي يعرفونه جيداً في هذا الموقف العجيب. كان الحوار يدور بينهم بحماسة واستغراب: - لابدّ أن الرجل فقد عقله... - ولكنه كان دائماً رجلاً هادئاً وليس من المعقول أن يفعلها.. - أنت لاتعرف ماذا حدث هذا الصباح... - ماذا حدث؟! - يبدو أن "أبو فاضل" قد تأخّر عن الدوام، أو أنه لم يجاوب على جرس المدير مباشرة. المهمّ أن كثيرين سمعوا "غالب بك" يسبّ ويشتم وحين مدّوا رؤوسهم لمحو "أبو فاضل" يتراجع من الغرفة منكمشاً ذليلاً والصرخات الغاضبة تلاحقه: "حيوان.. غليظ الفهم.. تريد أن تقبض راتباً من دون أن تعمل شيئاً...". - هل تظنّ أن هذا هو السبب في جنونه هذا؟. - ربّما.. ,قد يكون هناك أسباب أخرى.. - ما أكثر الأسباب التي تدفع الإنسان إلى الانتحار في هذا الزمن!. (4) -حتى "غالب بك" صار معهم ياربيّ!.. أراد أنواع الخضار هي التي تبقى لنا. أنْحَس رغيف خبز... ثمّ يدفعونك على باب الحافلة حتى تكاد تسقط تحت دواليبها. وعندما تصل قبل الجميع ماتكاد تلتقط أنفاسك حتى يرنّ الجرس. أليس ممكناً أن يكون الواحد منا في غرفة بعيدة ليلبيّ طلباً لا مهرب منه.. أو في بيت الخلاء يقضي حاجة.. هل الإنسان آلة حتى يستجيب لنداء السيد المطاع دون أي تأخير.. وهذا الكلام الزفر.. من يستطيع أن يتحمّل هذه الإهانات كلّها ياربّ!. (5) - يُقال إنها ليست المحاولة الأولى له.. - صحيح؟!. - لقد حاول الانتحار كما يُقال قبل عدّة سنوات بالطريقة نفسها.. - وماذا حدث بعدها؟. - كما ترى .. تراجع الرجل بعد نقاش طويل معه.. ألا تسمعهم يناقشونه الآن؟. - وهل تظن أنه سيتراجع أيضاً في هذه المرّة؟. - بلا شك.. إنه رجل جبان على ما أعتقد ولن يجرؤ على أن يرمي بنفسه من هذا العلو إلى الشارع.. - هل تراهن على هذا؟. - أنا أراهن.. - على ماذا الرهان؟. - أنا أقول إنه سوف يتراجع ولن ينتحر.. - وأنا أقول العكس.. إنه سوف ينتحر في هذه المرّة.. -ولكن على ماذا تتراهنان؟ - على مئة ليرة.. - وأنا أدخل الرهان بمئة أخرى.. - حسناً.. سوف أدفع لكما مئتي ليرة إذا تراجع.. وتدفعان لي مئتين إذا فعلها، كل واحد مئة، ماشي؟. - ماشي... وتصافح الموظفون الثلاثة أمام زملائهم تأكيداً على عقد الرهان ولكن أحدهم قال معترضاً: - وماذا ينوبنا نحن الشهود؟. - لا دخل لكم في الموضوع.. - كيف؟.. نخصّص من المبلغ قسطاً نشتري به كازوزاً لجميع الحاضرين.. - كازوز فقط؟!" بلا مسخرة. حياة "أبو فاضل" تساوي أكثر من زجاجة كازوز... - ياسيدي كأس بوظة.. كافي؟. - ماشي الحال.. وإن كان الأنسب حفلة غداء.. صفيحة مثلاً.. -لا.. ياحضرة.. غداء الصفيحة لكل هؤلاء البشر يذهب بالمبلغ كلّه... (6) - سوف تموت وترتاح يا "أبو فاضل". أما الأولاد.. ربك يتكفّل بهم. لقد كبروا بمافيه الكفاية. في المرّة الأولى لم تواتني الشجاعة الكافية.. ولكن في هذه المرّة لا يجوز يا "أبو فاضل" أن تسمح لهم بتسميتك جباناً.. (7) كان المشهد تحت يتعقّد أكثر فأكثر. كانت الساعة قد قاربت الثانية عشرة وقد حضر بعض رجال الشرطة وبدأ التفكير باستدعاء رجال الإطفاء لإنقاذ الرجل. وكانت المفاوضات معه تدور في طريق مسدود إذ كان "أبو فاضل" لا يُصغي كما يبدو إلى أحد، وهو لا يصنع شيئاً سوى النظر إلى تحت تارة وإلى السماء تارة أخرى كأنه يستنجد بمنقذ مجهول وعندما حاول أحد رجال الأمن الخروج من النافذة والاقتراب منه اهتزّ في مكانه وتأرجح قليلاً وارتفعت مئات بل آلاف الصرخات والشهقات منذرةً محذّرة، فتراجع رجل الأمن وعادت المفاوضات الكلامية من جديد. (8) - فكّر في أولادك يا "أبو فاضل". - هذا عمل حرام.. والله يعاقب عليه.. - روحك ليست ملكك بل ملك خالقها.. (9) - إذا لم تكن روحي ملكي فماذا أملك إذن.. لاشيء.. لاشيء على الإطلاق.. ربما كنتم تملكون كل شيء. تملكون جسدي ورزقي ومستقبلي وعائلتي، ولكنكم لن تملكوا روحي، روحي ملكي وحدي، روحي ترفضكم وتحتجّ عليكم. روحي تلعنكم جميعاً لأنكم جميعاً متآمرون علي، متواطئون ضدّي.. سامحّني يارب.. سامحني وأشفق على أولادي من بعدي.. هل يكون مصيري إلا جهنم لو فعلتها يارب؟.هل تكون معي لو تراجعت من جديد؟.ولكن ماذا ينتظرني لو تراجعت سوى المذلّة من جديد، والاستهزاء بي أنني معتوه أو جبان.. (10) - ألم أقل لك إن الحياة غالية وأن الانتحار يحتاج إلى شجاعة من نوعٍ خاص لا أعتقد أن مثل هذا الرجل يملكها.. في إمكانك الانسحاب من الرهان إذا أردت.. - لن أتراجع. إن مرور الوقت لصالحي، وهو دليل على أن الرجل مصمّم ولكنّه يتردّد فقط. - ولكن التردد إذا طال فهو يعني أيضاً أن الرغبة في الحياة بدأت تتغلّب على الرغبة في الموت.. (11) في تلك اللحظة بالذات انفجرت السماء، واهتزّت الأرض كأنها أصيبت بزلزال حين اشتعلت ألوف الأصوات البشرية في صوتٍ واحد، وشهقةٍ استغاثةٍ واحدة وهم يرون إلى الجسد الذي ترنّح فجاءة كأنه فقد توازنه، ثم هوى إلى الأرض مفتوح الذراعين كطائر يسبح في الفضاء منحدراً وأنه لن يلبث بعد ثوان أن يخفق بجناحيه كي يحلق في الفضاء من جديد.. (12) لم يَعُدْ الموظفون إلى عملهم فور انتهاء المشهد، كان ثمّة ظلام غير معقول يسدّ للنوافذ، ويجمّد المكاتب والأروقة، ويكمّ الأفواه ويعصر القلوب، لقد جلس الآن كلٌّ وراء مكتبه، وانتهى الحوار. وحين تلاقت أعين المتراهنين الثلاثة، أشاح كلّ بوجهه عن الآخر دون كلام. أما الرهان فلم يفتحوا سيرته لا في ذلك اليوم ولا في الأيام التي تلت. لقد كانوا يسقطون مثل "أبو فاضل" مع فارق واحد هو أن سقوطهم كان في فضاء لا قرار له، وأن الصرخات البشرية المذعورة لم تكنْ تنقطع لحظةً واحدة.
(1)
لم يبْدُ المشهدُ ملفتاً للنظر في بادئ الأمر. كانت الساعة تقارب الحادية عشرة صباحاً، وثمّة رجلٌ واقف على إفريز نافذة في الطابق الخامس من إحدى المؤسسات الرسمية وهي يتشبّث للحفاظ على توازنه ممسكاً بطرف يافطة صغيرة معلقة فوق منكبه الأيسر.
يظن المارة الذين يرفعون أبصارهم إلى فوق أنه عامل يؤدّي مهمّة معيّنة فلا يأبهون كثيراً، غير أن الرؤوس التي برزت من النوافذ المجاورة له في البناء بدأت تلفت النظر، وعندئذ شرع الناس يتجمهرون وهم يتطلعون بفضول إلى أعلى. إن الرجل لا يتحرّك وقد طال وقوفه حتى تلتقط الآذان صيحةً مفهومة: "ارجع إلى عقلك يا "أبو فاضل"!" ويعلّق أحدهم بقوله: "يبدو أن الرجل يُفكّر في الانتحار."
وعندها صار المشهد مفهوماً لدى الجميع، فلم تمضِ دقائق حتى امتلأ الشارع بالبشر وقد التوت أعناقهم إلى الخلف وهم يراقبون المنظر الذي بدا مخيفاً أوّل الأمر، ثمّ صار مسلّياً للغاية.
(2)
- يزاحموننا حتى على خبزنا.. حتى على الحليب والخيار والبندورة.. حتى على الحافلات.. أين يهرب الإنسان منهم؟!.. لو انتبهتَ في الليل إلى أن كيس الخبز فارغ إذن لذهبت ولما حدث ماحدث. ماذا جاء بهم صباحاً. ولماذا اختاروني بالذات كي يدفعوني ويلقوني أرضاً. لم أكن غير واحد في الزحام، دودة من الديدان الجائعة المتراصة، فلماذا اختاروني أنا بالذات؟ كل هذا بسبب تلك الكلمة البسيطة التي لا أدري كيف سمعوها. ألا يحق للإنسان أن يدافع عن دوره في أن ينال حصّته من الخبز...
(3)
يُمكن القول إن العمل قد تعطّل إلى حدّ بعيد بين الموظفين الذين سمعوا الخبر إذ تسابقوا على النوافذ كي يشاهدوا "أبو فاضل" الآذن الذي يعرفونه جيداً في هذا الموقف العجيب.
كان الحوار يدور بينهم بحماسة واستغراب:
- لابدّ أن الرجل فقد عقله...
- ولكنه كان دائماً رجلاً هادئاً وليس من المعقول أن يفعلها..
- أنت لاتعرف ماذا حدث هذا الصباح...
- ماذا حدث؟!
- يبدو أن "أبو فاضل" قد تأخّر عن الدوام، أو أنه لم يجاوب على جرس المدير مباشرة. المهمّ أن كثيرين سمعوا "غالب بك" يسبّ ويشتم وحين مدّوا رؤوسهم لمحو "أبو فاضل" يتراجع من الغرفة منكمشاً ذليلاً والصرخات الغاضبة تلاحقه:
"حيوان.. غليظ الفهم.. تريد أن تقبض راتباً من دون أن تعمل شيئاً...".
- هل تظنّ أن هذا هو السبب في جنونه هذا؟.
- ربّما.. ,قد يكون هناك أسباب أخرى..
- ما أكثر الأسباب التي تدفع الإنسان إلى الانتحار في هذا الزمن!.
(4)
-حتى "غالب بك" صار معهم ياربيّ!.. أراد أنواع الخضار هي التي تبقى لنا. أنْحَس رغيف خبز... ثمّ يدفعونك على باب الحافلة حتى تكاد تسقط تحت دواليبها. وعندما تصل قبل الجميع ماتكاد تلتقط أنفاسك حتى يرنّ الجرس. أليس ممكناً أن يكون الواحد منا في غرفة بعيدة ليلبيّ طلباً لا مهرب منه.. أو في بيت الخلاء يقضي حاجة.. هل الإنسان آلة حتى يستجيب لنداء السيد المطاع دون أي تأخير.. وهذا الكلام الزفر.. من يستطيع أن يتحمّل هذه الإهانات كلّها ياربّ!.
(5)
- يُقال إنها ليست المحاولة الأولى له..
- صحيح؟!.
- لقد حاول الانتحار كما يُقال قبل عدّة سنوات بالطريقة نفسها..
- وماذا حدث بعدها؟.
- كما ترى .. تراجع الرجل بعد نقاش طويل معه.. ألا تسمعهم يناقشونه الآن؟.
- وهل تظن أنه سيتراجع أيضاً في هذه المرّة؟.
- بلا شك.. إنه رجل جبان على ما أعتقد ولن يجرؤ على أن يرمي بنفسه من هذا العلو إلى الشارع..
- هل تراهن على هذا؟.
- أنا أراهن..
- على ماذا الرهان؟.
- أنا أقول إنه سوف يتراجع ولن ينتحر..
- وأنا أقول العكس.. إنه سوف ينتحر في هذه المرّة..
-ولكن على ماذا تتراهنان؟
- على مئة ليرة..
- وأنا أدخل الرهان بمئة أخرى..
- حسناً.. سوف أدفع لكما مئتي ليرة إذا تراجع.. وتدفعان لي مئتين إذا فعلها، كل واحد مئة، ماشي؟.
- ماشي...
وتصافح الموظفون الثلاثة أمام زملائهم تأكيداً على عقد الرهان ولكن أحدهم قال معترضاً:
- وماذا ينوبنا نحن الشهود؟.
- لا دخل لكم في الموضوع..
- كيف؟.. نخصّص من المبلغ قسطاً نشتري به كازوزاً لجميع الحاضرين..
- كازوز فقط؟!" بلا مسخرة. حياة "أبو فاضل" تساوي أكثر من زجاجة كازوز...
- ياسيدي كأس بوظة.. كافي؟.
- ماشي الحال.. وإن كان الأنسب حفلة غداء.. صفيحة مثلاً..
-لا.. ياحضرة.. غداء الصفيحة لكل هؤلاء البشر يذهب بالمبلغ كلّه...
(6)
- سوف تموت وترتاح يا "أبو فاضل". أما الأولاد.. ربك يتكفّل بهم. لقد كبروا بمافيه الكفاية. في المرّة الأولى لم تواتني الشجاعة الكافية.. ولكن في هذه المرّة لا يجوز يا "أبو فاضل" أن تسمح لهم بتسميتك جباناً..
(7)
كان المشهد تحت يتعقّد أكثر فأكثر. كانت الساعة قد قاربت الثانية عشرة وقد حضر بعض رجال الشرطة وبدأ التفكير باستدعاء رجال الإطفاء لإنقاذ الرجل. وكانت المفاوضات معه تدور في طريق مسدود إذ كان "أبو فاضل" لا يُصغي كما يبدو إلى أحد، وهو لا يصنع شيئاً سوى النظر إلى تحت تارة وإلى السماء تارة أخرى كأنه يستنجد بمنقذ مجهول وعندما حاول أحد رجال الأمن الخروج من النافذة والاقتراب منه اهتزّ في مكانه وتأرجح قليلاً وارتفعت مئات بل آلاف الصرخات والشهقات منذرةً محذّرة، فتراجع رجل الأمن وعادت المفاوضات الكلامية من جديد.
(8)
- فكّر في أولادك يا "أبو فاضل".
- هذا عمل حرام.. والله يعاقب عليه..
- روحك ليست ملكك بل ملك خالقها..
(9)
- إذا لم تكن روحي ملكي فماذا أملك إذن.. لاشيء.. لاشيء على الإطلاق.. ربما كنتم تملكون كل شيء. تملكون جسدي ورزقي ومستقبلي وعائلتي، ولكنكم لن تملكوا روحي، روحي ملكي وحدي، روحي ترفضكم وتحتجّ عليكم. روحي تلعنكم جميعاً لأنكم جميعاً متآمرون علي، متواطئون ضدّي.. سامحّني يارب.. سامحني وأشفق على أولادي من بعدي.. هل يكون مصيري إلا جهنم لو فعلتها يارب؟.هل تكون معي لو تراجعت من جديد؟.ولكن ماذا ينتظرني لو تراجعت سوى المذلّة من جديد، والاستهزاء بي أنني معتوه أو جبان..
(10)
- ألم أقل لك إن الحياة غالية وأن الانتحار يحتاج إلى شجاعة من نوعٍ خاص لا أعتقد أن مثل هذا الرجل يملكها.. في إمكانك الانسحاب من الرهان إذا أردت..
- لن أتراجع. إن مرور الوقت لصالحي، وهو دليل على أن الرجل مصمّم ولكنّه يتردّد فقط.
- ولكن التردد إذا طال فهو يعني أيضاً أن الرغبة في الحياة بدأت تتغلّب على الرغبة في الموت..
(11)
في تلك اللحظة بالذات انفجرت السماء، واهتزّت الأرض كأنها أصيبت بزلزال حين اشتعلت ألوف الأصوات البشرية في صوتٍ واحد، وشهقةٍ استغاثةٍ واحدة وهم يرون إلى الجسد الذي ترنّح فجاءة كأنه فقد توازنه، ثم هوى إلى الأرض مفتوح الذراعين كطائر يسبح في الفضاء منحدراً وأنه لن يلبث بعد ثوان أن يخفق بجناحيه كي يحلق في الفضاء من جديد..
(12)
لم يَعُدْ الموظفون إلى عملهم فور انتهاء المشهد، كان ثمّة ظلام غير معقول يسدّ للنوافذ، ويجمّد المكاتب والأروقة، ويكمّ الأفواه ويعصر القلوب، لقد جلس الآن كلٌّ وراء مكتبه، وانتهى الحوار. وحين تلاقت أعين المتراهنين الثلاثة، أشاح كلّ بوجهه عن الآخر دون كلام.
أما الرهان فلم يفتحوا سيرته لا في ذلك اليوم ولا في الأيام التي تلت. لقد كانوا يسقطون مثل "أبو فاضل" مع فارق واحد هو أن سقوطهم كان في فضاء لا قرار له، وأن الصرخات البشرية المذعورة لم تكنْ تنقطع لحظةً واحدة.