سيارة الشرطة تعوي... عينُها الحمراء تخفق مرسلة دمعها الوامض في كلّ اتجاه، يتبعها الناس راجلين وراكبين. سألت امرأة تحمل طفلاً وتجرّ طفلاً وفي أحشائها طفلٌ غلاماً يركض خلف الجميع حافياً: - ماذا حدث ياولد؟ - وجدوا ابنة الحاج خالد غريقة في بركة معمل البلاط شهقت المرأة وأسرعت تشدّ طفلها المجرور الذي كان يضرب حجراً نحو قطّ كسول. اخترقت السيارة المنطقة الصناعية ثم توقفت أمام معمل بلاط الحاج خالد... ترجّل الضابط من السيارة ورفع البنطال الذي ضاق كثيراً عند الحزام ثم أصلح وضع مسدسه الفارغ.. رفع رأسه.. نفخ صدره ثم اتجه داخل المعمل يتبعه أربعة من رجال الشرطة.. اقتحمت الضابط برودة واخزة وأرشده العمال إلى مكان الجثة حيث وجد الحاج يبكي بحرقة فوق طاولة حديدية رقدت فوقها جثة نسرين الصغيرة... كان الماء ما يزال يقطر من ثوبها الأزرق وجدائلها البنيّة... تأمل الضابط ثياب الطفلة الممزقة والدم السائل على ساقيها الصغيرتين.. فصرخ في الجميع: - لاتلمسوا شيئاً.. الأمر فيه جريمة قتل واغتصاب ارتفع نحيب الحاج وانهمرت دموعه تبلّل لحيته الشهباء... وهدرت أصوات المحتشدين تطالب بشنق المجرم على باب المعمل.... (أنيس أيها الحيوان الأهبل.. احمل هذه الأكياس... ادفع هذه العربة.. املأ هذه السيارة... أسرع يا حيوان.. اصعد.. اهبط..) كتلةٌ لحمية متراصّة يعلوها رأس صغير حليق تثقبه عينان صغيرتان تائهتان وفم يفيض لعاباً دبقاً... لايعرف أحد كيف وصل أنيس إلى معمل الحاج... جاء كما تجيء الكلاب والقطط شارداً مطارداً من حجارة الغلمان الذين طردهم الحاج ونهرهم ثم قدّم إليه بقايا طعام أرسلته زوجته الجديدة التي أسكنها بالقرب من المعمل... والتصق أنيس بالمعمل لايفارقه أبداً وحين يسأله أحدهم من أين جاء... كان يشير إلى مكان بعيد ويستلقي على الأرض ثم يعضّ لسانه كالميت. كان قدومه نعمة مشكورة على الحاج فهو يدفع ويرفع وينقل ويحمل ولا يتعب أو يمرض... يتوقف حين يعضّه الجوع فيعوي محتجاً وسرعان ما تأتيه فضلات الطعام تحملها نسرين في صحن معدني كبير فيلتهم مافيه ويلعق قعر الصحن وجوانبه وحين يطلب المزيد يتلقى صفعة أو لطمة تجعله يتابع العمل صاغراً من جديد... وفي المساء يأوي إلى ركن قصي في المعمل فيفترش بساطاً قديماً ثم يغطّ في نوم بليد مرسلاً شخيره بين الآلات الواجمة والكلس والحصى والإسمنت والمياه الراكدة هنا وهناك... كلّ شيء يسير كالآلة المشحّمة في مملكة الحاج زوجتان مطيعتان، أولاد كبار من الأولى نسرين الصغيرة من الثانية تأتي بين الحين والآخر تزقزق في أرجاء المعمل فتبعث الحياة في أرواح العمال بعد أن أخمدها الفقر والإسمنت... والرطوبة... وأوامر الحاج. كان أنيس الأهبل أسعد المخلوقات بقدوم الطفلة فثمة حلوى وألعاب وحين تحرمه كان يبكي ويتوسّل حتى ترقّ له... خافته في البداية ثم أدركت أنّ قطع الحلوى قادرة على أن تتلاعب بهذا المخلوق الضخم كما تشاء... ولكن في أحد الأيام صرخ الحاج في وجوه عماله الذين حشدهم أمامه: - من منكم يعلّم أنيس الأهبل شرب السجائر؟ - أنا؟! - لماذا يا عباس؟ نريد أن نتسلّى يا حاج - لقد أخطأت حين أدخلتك إلى معملي - سأترك العمل حالاً وراء آلتك المجنونة إذا رغبت صمت الحاج ولم يجرؤ على متابعة الحوار فلن يجد أحداً يخاطر بالعمل وراء آلة التهمت من قبل أصابع ثلاثة عمال قبل عبّاس فانسحب حانقاً إلى مكتبه... وقهقه عباس متحدّياً - أقسم بأني سأعلم هذا الأهبل جميع المحرّمات... - أنيس... أنيس تعال وانظر إلى هذه النساء - ماذا ستفعل يا عباس؟ - سأريه الصور العارية في هذه المجلة! - إيّاك يا عباس! - إنه حيوان! وقف العمال يرقبون عبّاس وهو يقلب صفحات المجلة أمام عيني أنيس.. لم يُعر الأمر اهتماماً في البداية ثم أخذ يتمعّن في الأجساد العارية المتعانقة دارت عيناه... ضحك.. صفّق بيديه... سال لعابه فوق الأجساد.. قهقه ورقص ثم خطف المجلة وطار بها بعيداً... تتابعه الضحكات فرحة بالنجاح.. - ما رأيكم؟ - تسلية طريفة - لم أتوقع أن يتصرف هكذا - أليس رجلاً مثلنا... وله.. - اسمعوا.. سيكون أنيس الأهبل نديمي في سهرة الخميس القادمة وسيرى العجب في التلفاز... ألقاه عباس ورفاقه المخمورون بعد ليلتهم العامرة على باب المعمل... لم يستطع النوم... الخمرة والطعام الدسم والأجساد العارية المتعانقة.... ألهبت ناراً وحشية زرقاء كامنة في أعماقه.. خلع ثيابه... راح يدور في أرجاء المعمل يعوي بين الآلات المتعبة... منادياً أية أنثى تطفئ سعيره.. خرج إلى الباحة يلوب.... لاشيء سوى الحصا والرمال والكلس وأكوام البلاط... استلقى على الأرض يمرغ جسده المحموم... برّدت نسمات الفجر قليلاً نار جحيمه فغفا تأتيه أطياف نساء عاريات يدعونه بشغف للعناق فذاب الجسد شوقاً حتى الصباح... أفاق على صوت عصفور ويد صغيرة توقظه بلطف فتح عينيه الملتهبتين فرأى نسرين واقفة قربه تحمل إليه وجبة الصباح لم يغره الطعام لأول مرة.. بل انغرزت عيناه في جسد الطفلة... تلمس جسدها البض تسارعت أنفاسه... وهبّت زوبعة النار... فانقضّ على الطفلة يشد جسدها إلى لحمه المسعور.. ثم انطلق بها إلى غابته... جرّه رجال الشرطة إلى السيارة تلاحقه الأيدي بالضرب والرفس والصفع والشتم فصرخ وعوى وبصق على الجميع... دفعوه إلى السيارة فجلس باعتزاز بين شرطين ثم راح يتلمس بدهشة الأزرار النحاسية والنسور التي تعلو قبعاتهم... تحركت السيارة يلاحقها الجمع الغاضب بشتائمه.. تلفّت أنيس بفخر إلى الشرطين الحارسين... ثم رفع ثوبه إلى الأعلى يباهي الجميع بذكورته.
سيارة الشرطة تعوي... عينُها الحمراء تخفق مرسلة دمعها الوامض في كلّ اتجاه، يتبعها الناس راجلين وراكبين. سألت امرأة تحمل طفلاً وتجرّ طفلاً وفي أحشائها طفلٌ غلاماً يركض خلف الجميع حافياً:
- ماذا حدث ياولد؟
- وجدوا ابنة الحاج خالد غريقة في بركة معمل البلاط
شهقت المرأة وأسرعت تشدّ طفلها المجرور الذي كان يضرب حجراً نحو قطّ كسول. اخترقت السيارة المنطقة الصناعية ثم توقفت أمام معمل بلاط الحاج خالد... ترجّل الضابط من السيارة ورفع البنطال الذي ضاق كثيراً عند الحزام ثم أصلح وضع مسدسه الفارغ.. رفع رأسه.. نفخ صدره ثم اتجه داخل المعمل يتبعه أربعة من رجال الشرطة.. اقتحمت الضابط برودة واخزة وأرشده العمال إلى مكان الجثة حيث وجد الحاج يبكي بحرقة فوق طاولة حديدية رقدت فوقها جثة نسرين الصغيرة... كان الماء ما يزال يقطر من ثوبها الأزرق وجدائلها البنيّة... تأمل الضابط ثياب الطفلة الممزقة والدم السائل على ساقيها الصغيرتين.. فصرخ في الجميع:
- لاتلمسوا شيئاً.. الأمر فيه جريمة قتل واغتصاب
ارتفع نحيب الحاج وانهمرت دموعه تبلّل لحيته الشهباء... وهدرت أصوات المحتشدين تطالب بشنق المجرم على باب المعمل....
(أنيس أيها الحيوان الأهبل.. احمل هذه الأكياس... ادفع هذه العربة.. املأ هذه السيارة... أسرع يا حيوان.. اصعد.. اهبط..)
كتلةٌ لحمية متراصّة يعلوها رأس صغير حليق تثقبه عينان صغيرتان تائهتان وفم يفيض لعاباً دبقاً...
لايعرف أحد كيف وصل أنيس إلى معمل الحاج... جاء كما تجيء الكلاب والقطط شارداً مطارداً من حجارة الغلمان الذين طردهم الحاج ونهرهم ثم قدّم إليه بقايا طعام أرسلته زوجته الجديدة التي أسكنها بالقرب من المعمل... والتصق أنيس بالمعمل لايفارقه أبداً وحين يسأله أحدهم من أين جاء... كان يشير إلى مكان بعيد ويستلقي على الأرض ثم يعضّ لسانه كالميت. كان قدومه نعمة مشكورة على الحاج فهو يدفع ويرفع وينقل ويحمل ولا يتعب أو يمرض... يتوقف حين يعضّه الجوع فيعوي محتجاً وسرعان ما تأتيه فضلات الطعام تحملها نسرين في صحن معدني كبير فيلتهم مافيه ويلعق قعر الصحن وجوانبه وحين يطلب المزيد يتلقى صفعة أو لطمة تجعله يتابع العمل صاغراً من جديد... وفي المساء يأوي إلى ركن قصي في المعمل فيفترش بساطاً قديماً ثم يغطّ في نوم بليد مرسلاً شخيره بين الآلات الواجمة والكلس والحصى والإسمنت والمياه الراكدة هنا وهناك...
كلّ شيء يسير كالآلة المشحّمة في مملكة الحاج زوجتان مطيعتان، أولاد كبار من الأولى نسرين الصغيرة من الثانية تأتي بين الحين والآخر تزقزق في أرجاء المعمل فتبعث الحياة في أرواح العمال بعد أن أخمدها الفقر والإسمنت... والرطوبة... وأوامر الحاج. كان أنيس الأهبل أسعد المخلوقات بقدوم الطفلة فثمة حلوى وألعاب وحين تحرمه كان يبكي ويتوسّل حتى ترقّ له... خافته في البداية ثم أدركت أنّ قطع الحلوى قادرة على أن تتلاعب بهذا المخلوق الضخم كما تشاء... ولكن في أحد الأيام صرخ الحاج في وجوه عماله الذين حشدهم أمامه:
- من منكم يعلّم أنيس الأهبل شرب السجائر؟
- أنا؟!
- لماذا يا عباس؟
نريد أن نتسلّى يا حاج
- لقد أخطأت حين أدخلتك إلى معملي
- سأترك العمل حالاً وراء آلتك المجنونة إذا رغبت
صمت الحاج ولم يجرؤ على متابعة الحوار فلن يجد أحداً يخاطر بالعمل وراء آلة التهمت من قبل أصابع ثلاثة عمال قبل عبّاس فانسحب حانقاً إلى مكتبه... وقهقه عباس متحدّياً
- أقسم بأني سأعلم هذا الأهبل جميع المحرّمات...
- أنيس... أنيس تعال وانظر إلى هذه النساء
- ماذا ستفعل يا عباس؟
- سأريه الصور العارية في هذه المجلة!
- إيّاك يا عباس!
- إنه حيوان!
وقف العمال يرقبون عبّاس وهو يقلب صفحات المجلة أمام عيني أنيس.. لم يُعر الأمر اهتماماً في البداية ثم أخذ يتمعّن في الأجساد العارية المتعانقة دارت عيناه... ضحك.. صفّق بيديه... سال لعابه فوق الأجساد.. قهقه ورقص ثم خطف المجلة وطار بها بعيداً... تتابعه الضحكات فرحة بالنجاح..
- ما رأيكم؟
- تسلية طريفة
- لم أتوقع أن يتصرف هكذا
- أليس رجلاً مثلنا... وله..
- اسمعوا.. سيكون أنيس الأهبل نديمي في سهرة الخميس القادمة وسيرى العجب في التلفاز...
ألقاه عباس ورفاقه المخمورون بعد ليلتهم العامرة على باب المعمل... لم يستطع النوم... الخمرة والطعام الدسم والأجساد العارية المتعانقة.... ألهبت ناراً وحشية زرقاء كامنة في أعماقه.. خلع ثيابه... راح يدور في أرجاء المعمل يعوي بين الآلات المتعبة... منادياً أية أنثى تطفئ سعيره.. خرج إلى الباحة يلوب.... لاشيء سوى الحصا والرمال والكلس وأكوام البلاط...
استلقى على الأرض يمرغ جسده المحموم... برّدت نسمات الفجر قليلاً نار جحيمه فغفا تأتيه أطياف نساء عاريات يدعونه بشغف للعناق فذاب الجسد شوقاً حتى الصباح... أفاق على صوت عصفور ويد صغيرة توقظه بلطف فتح عينيه الملتهبتين فرأى نسرين واقفة قربه تحمل إليه وجبة الصباح لم يغره الطعام لأول مرة.. بل انغرزت عيناه في جسد الطفلة... تلمس جسدها البض تسارعت أنفاسه... وهبّت زوبعة النار... فانقضّ على الطفلة يشد جسدها إلى لحمه المسعور.. ثم انطلق بها إلى غابته...
جرّه رجال الشرطة إلى السيارة تلاحقه الأيدي بالضرب والرفس والصفع والشتم فصرخ وعوى وبصق على الجميع... دفعوه إلى السيارة فجلس باعتزاز بين شرطين ثم راح يتلمس بدهشة الأزرار النحاسية والنسور التي تعلو قبعاتهم... تحركت السيارة يلاحقها الجمع الغاضب بشتائمه.. تلفّت أنيس بفخر إلى الشرطين الحارسين... ثم رفع ثوبه إلى الأعلى يباهي الجميع بذكورته.