مهداة إلى عامر دّقاق)
وأخيراً كشفت سرّك أيّها الموت.. نعم كشفت سرّ الموت أنا موظف الأحوال المدنية (خالد سليم) المسؤول عن تسجيل الوفيات للحيّ الشرقي من المدينة.. أنا معتاد على قضية الموت.. لا أقصد أنني قد متّ طبعاً بل أقصد أنني كنت رئيساً لمكتب (دفن الموتى) للمدينة كلّها ولا أحد يجرؤ على دفن ميته أن يأخذ الإذن مني.. ورقة أملؤها وأمهرها بخاتمي الذي أحتفظ به في جيبي.. إلى من يهمه الأمر (والمقصود هنا.. حفّار القبور) يسمح لحامل هذه الورقة بدفن مّيته السيد.. سيّد على ماذا؟ يموتون ولا يتنازلون عن كلمة السيد.. يا لها من مهزلة!. نعم يسمح للميت.. بالدفن.. والغريب أنّ الجميع مستعجل لدفن ميته.. لماذا العجلة؟ ما دمتم تأتونني عابسين وباكين... نادمين.. صرت أتباطأ متعمّداً.. فيتوسّلون إليّ وقد اكتشفت منافع التباطؤ متأخراً للأسف أحين دسّ أحدهم مرّة ورقة نقدية من ذات خمس المئة في جيبي غضبت وثرت وصرخت هذا حرام.. وكفر أيضاً ثم قبلتها مرغماً لمّا أقسم لي أنها سقطت سهواً في جيبي وهي من أخ لأخيه.
خمس سنوات والنقود تسقط سهواً في جيبي، ولكنّ أولاد الحرام لا يتركون أحداً في هناء وراحة فقد رفعوا بي تقريراً لمحافظ المدينة وجاء فيه (الموظف خالد سليم يتاجر بالموت ولا يتورّع عن قبض رشوة من أهل الميت مستغلاً مصيبتهم..) ويتباكى صاحب التقرير على الأخلاق التي اهترأت والقيم التي عرجت والشرف الذي ثقب.. ويختم تقريره بهذه العبارات المسيّلة للدموع (وسامحني يا سيدي المحافظ فقد غلبني البكاء وشُلّت أصابعي عن الكتابة) أرأيتم مثل هذا النفاق؟! لقد كلفني هذا التقرير غالياً فنقلوني من رئاسة مكتب دفن الموتى إلى موظف مهمل يدوّن -فقط- وقائع وفيات الحيّ الشرقي، ولكنْ ربّ ضارة نافعة.. فقد اكتشفت سراً خطيراً وهو أنّ سكان الحي الشرقي لا يموتون.. ألا تصدقون؟! ها أنا هنا منذ سنة كاملة ولم أسجّل واقعة وفاة واحدة.. ودفاتري بيضاء لا يوجد فيها اسم متوف واحد.. وكم لمت نفسي لأنني لم أكتشف هذه الظاهرة المدهشة من قبل.. ولكنْ أن تعرف متأخراً خير من ألا تعرف.. حين اكتشفت السرّ صدفة صرخت بفرح وأسرعت بغباء لأبشّر مديري وزملائي ولكني توقفت فجأة وكتمت الأمر تماماً.. نظر إليّ زملائي بدهشة وحين سألوني بمكر عن سبب صراخي أجبتهم بأنني رأيت فأراً يقرض أحد السجلات، ولكنهم لم يصدّقوني.. يا لهم من وقحين.. لن يعرف أحد السرّ الخطير الذي اكتشفته (لا أحد يموت في الحي الشرقي من المدينة).. تلك حقيقة أكيدة وقد اكتشفتها بنفسي.. ولن يعرف السرّ أحدٌ غيري..
أخذت إجازة اعتراضية وتعلّلت بالمرض المفاجئ.. لن أراجع أي طبيب ولن ينتفعوا مني بقرش واحد بعد الآن.. آه لو عرف الناس السرّ الذي أعرفه لأغلقت العيادات والمستشفيات أبوابها وأصبح الأطباء والصيادلة متسولين. خرجت إلى الشارع أسير بين الجموع بثقة.. سيموتون جميعاً ما عدا سكان الحي، الشرقي وأنا طبعاً.. لقد قررت الانتقال إلى هذا الحيّ يبدو أنّ فيه رصداً سحرياً يمنع عزرائيل من الدخول إليه. سأبيع البيت بهدوء وأشتري بيتاً في هذا الحي الشعبي القابع في شرقي المدينة..
وصلت البيت وبعد مناورات وتمهيد في الحديث طرحت فكرة البيع على زوجتي فرفضتها بشدّة ثم أخذت تهاجمني بالأسئلة.. لماذا؟ ما الذي جرى لعقلك؟ قل لي بسرعة ما هو السر؟ ولكن هل أنا مجنون حتى أبوح لها بالسر؟.. أقسم بأنني إذا بحت لها بالسرّ وحلفت لي زوجتي بكلّ الأيمان على عدم البوح به فسوف أراه مكتوباً بعد ساعة في جميع الصحف وأسمعه في الإذاعات والتلفزيونات. توسلتُ إليها أطيعني يا امرأة.. لا فائدة.. أنا أريد لك السعادة.. لا فائدة.. وصفتني بالمجنون والمعتوه والخرفان وناقص العقل وصرخت (أي فاقد عقل يترك هذا الحي ويذهب للسكن في الحيّ الشرقي بين الشحاذين وجامعي القمامة واللصوص وسائقي الشاحنات وبائعي المازوت والغاز والفلافل واليانصيب.. وعمال الحفر والطمر والمجارير والعاهرات والخادمات وغاسلات الأدراج.. أنت تريد موتي حتماً) آخ لو عرفت أنني أريد لها الحياة الأبدية ولكن يستحيل إقناعها.. ماذا أفعل؟.. المنحوس منحوس.. طلقتها ثلاثاً.. امرأة تكره السعادة وتحب النق والنكد.. ماذا أفعل لها؟ بعت البيت لجارنا تاجر السيّارات واشتريت بيتاً في (حيّ الخلود) دار بثلاثة غرف مبنية من الخفّان وسقفها من التوتياء.
الماء من البئر المشترك مع الجيران والكهرباء مسروقة من الأسلاك المتدلية والمجارير تسرح في أرض الدار ثم تخرج إلى الشارع لتصبّ في المجرى الكبير المكشوف والذي يمرح حوله الأولاد والجرذان والقطط والدجاج.. كان البيت الذي اشتريته أفضل بيت في زقاق مسدود بهيكل باص قديم تسكن فيه ثلاث أسر.. لا يهم.. سأصلح البيت وسوف أستمتع بحياة خالدة مع سكان هذا الحي السعداء.. نعم سعداء ومحظوظون أيضاً.. لو عرف الأغنياء والحكام سرّهم لحسدوهم على هذه النعمة.. ولكن لماذا لا أبيع سريّ لأحد الأغنياء وأقبض مبلغاً محترماً.. فأجمع مع الخلود هناء العيش والاستمتاع بملذات الحياة من أكل وشرب ولبس ونساء. ولكنْ ما الذي يضمن لي أنّ هذا الغني لن يبوح بالسر.. سأجعله يقسم لي بشرفه.. يا لك من مسكين!.. الشرف وكثرة المال لا يجتمعان أبداً.. المال الذي حصلتُ عليه أنت من أين.. لا تخجل.. من الرشوة.. ولكن أنا حالة خاصة هه.. وكلّ الأغنياء حالة خاصة.. أيضاً أتدري ماذا سيحدث لو عرف الأغنياء والحكام سرّ الحي الشرقي؟! سيطردون جميع المخلوقات منه ويسكنون به ويضعون حوله أسوراً وحرّاساً تحرم الدخول حتى على الذباب.. رفض سائقو سيارات الشحن الكبيرة نقلي مع أغراضي إلى الحي الشرقي معتذرين بكثرة الحفر وضيق الطرقات واللصوص..
فاستأجرت من الحي نفسه ثلاث طنابر وحمّلت عليها أثاث البيت وركبت في مقدّمة القافلة متجهاً نحو حي الخلود.. قلبي يتراقص من الفرح مع تراقص (الطنابر) وهي تدخل الحي.. فجأة غار قلبي في صدري حين لمحت ثلاث جنازات يحملها نفر من المشيعين تتجه نحونا.. توقفت القافلة.. شحب وجهي وجفّ لعابي.. صرخت في طلائع النعش الأول مَنْ هؤلاء الموتى؟ فرفع أحدهم رأساً كرأس عود الكبريت المحترق وقال:
-سالم وسليم وسلمان
-هل هم من سكان الحي الشرقي؟
-طبعاً وهل تحسبهم من سكان القمر؟
رفس قلبي صدري بشدّة وارتخى جسدي فوق البساط المطوي الذي ورثته عن أبي ثم صرخت من حلاوة الروح: (وهل يتجرأ عزرائيل على دخول هذا الحي..) فقهقه حملة الجنازات الثلاث وقال أحدهم وهو يبصق
-عزرائيل لا يغادر هذا الحي أبداً.. البارحة مات سعيد ومسعود وأسعد وقبله مات حسن ومحسن وحسّان..
صرخت
-كفى.. كفى.. لماذا لا تأخذون تصريحاً بدفنهم إذن..؟!
أجابني أحد حملة النعوش وهو يلهث:
(لأن جميع أهل الحي مكتومون وليست لهم أسماء في سجلات الحكومة).