في حضرة سيدة الأرض
أنتِ ياسيدتي، التي عوّدتني السير، على إهابك المزغّب، بأنامل الرمل. وقلدّتني وشاحك الراهج، بالذراري والألوان.
وملأت الفضاء، بعينيّ ألقاً ونوراً.
أنتِ، ياسيدتتي، التي زوّدتني، بهبّةٍ من فجاج الشرق المغسول، بالشعاع، وحقول الضياء.
ثم جلدتني، بسياط عرائك. وقلت لي: هذات نخل وحداء!
ورحتُ، في زمني البدوي، أغزل خيوطي، من صهيل الشمس، وزوابع الغبار، وأتشظّى، تحت، فرقعة اللهيب، ذرات وأمداء. ثم يدوّي صوتك الصارم، في أذني هديلاً، ورفيفً جناح:
اسرج نهارك. وتابع، أيها المهاجر، في فلواتي. لابدّ أنك قابض على الجمر. جسدي المديد، جمره كاوٍ فاصمد واصبر....
الصبر جميل!..... جميل!
ولكن سطوع عظمتك. وقسوة مطلقك، جعلتا وجهي ملفوحاً، ومسفوعاً، ياسيدتي. شعري الذي بقل في لها ذمي. قد وخطه اللون الأبيض.....
وتجلجل روحكِ، في أذني ثانية:
إذن، صرتَ رجلاً!
ثم أخذتِ تبسمين لدعستي الشمّاء. وأنا أمخر عباب يمّك الساجي. وقد تدلّت قطوف القناديل. وبلح النجوم، من حولي.
أجل. تابعتُ. وجبتُ أنحاء جلدك المنثور، على اتساع الليل، وبرقَ، بعينّي النور ظلاماً. والظلام نوراً.
وأنا أجوس هنا، وهناك.
لقد تهتُ، في كرة بحرك مرات ومرات. مثل طائر بطريق، قد ضل جزره. أو نورس ضاع فيي بهرته الزرقاء.
غير أني لم أخرج، عن أسدافك. بل بقيتُ أخوّض في أسنافك المنهالة بألفة، تحت قدمي. حتى لايصيبني الوضم.
وهاهي ذي قبلة شفاهك الوضّاءة ترشف، بعذوبة، جبين الفضاء. وتضرم فيه الحرائق، وأقنية الخضاب.
أواه....! كم تجهدين نفسك، ياسيدتي، في جمع فتات هذا الكون، حولك؟ وكم تتوهّجين حبّاً وعطاءً.
وأنت تدثّرينه، بفلقة شقراء مقصوصة، من ثياب القمر الوليد، المتعمشق، نحو العلاء. حيث قبّتك السدرة!
لذا. دعيني، ياصاحبة الجلالة، أتلُ بعضاً، من صلواتي، في أعتاب فجرك المشفّق بالأصباغ والآفاق. لقد اضاءت الدنيا أمامي، ورأيتُ ... ورأيتُ....
هيْيْهْ....! ياسيدتي. كم فرحت لي، عندما، شاهدت قامتي طويلة ممشوقة؟ قد شفّها سير الطريق.
لقد ابتسمت لنحافة جسمي. كأنك لاتريدين، إلا أن أكون رشيقاً، مسافراً، متأبطاً قوسي ونبلي.
أبحث في ذرا النخيل، عن قبّرةٍ غريرة، تزقزق في الصباح. وأفتّش في أغوار القيعان عن ماء.....
هكذا. تريدين، أن تظلّ روحي مبعثرة، في أرجائك البعيدة. أناديك، وأنا ألملم أطراف عباءتك الصفراء بلون الذهب:
ياغزالة البراري، يامهرة القفار. قفي قبالتي. لقد تعبتُ من الركض. وأنهكني الظمأ.
لاتردّين. بل تزفرين:
لابدّ لك، من الطرائد. ومن مجاهل الأسفار.
ثم تشدّين على خاصرتيك الرحال. وترشقينني بطرطشة أظلافك، وسطوع كثبانك. وهأنذا أراك تلوّحين من أعماقك:
ادخل محرابي. وتطهّر بعجاجي....
والتحم في ملح دمك ذرة متوهّجة من الزمن، من العالم، من التاريخ....
***
إيْيْهْ....! يازمن! ياعالم! ياتاريخ!
ماذا بدا؟
أين أنا الآن؟
وأقف في حضرة السيدة.
تقطع مناجاتي. وتصوم وصلي....
هل نسيتَ أبجدية الريح، والشمس، والأرض، و....؟
هل نسيتَ ذاكرة الرمل. وأصبحت رهلاً. وكهلاً. ثم شخت؟
ماذا طرأ، ياترى؟
هل احترق الغيم. وهطلت السماء دخاناً ورماداً؟
نعم... نعم. غابت هالتك، ياسيدتي، عن عينّيّ.
لم أعد ابصرك خلف المسافات، والأبعاد. عجزتْ همّتي. وثقل جرمُ جثّتي. وصرت ثقيلاً، ثقيلاً.
وعريضاً عريضاً. مثل برميل!!! صاررت الحياة نفخاً في الكِرْش, ورنيناً في الأمعاء. وذهاباً إلى المبولة.....
لشدّ ما ندمت، ياسيدتي، حينما، أغدقتِ، عليّ جوفك.
قلت، آنذاك:
هذا الابن، عَرَكَ حراشف جلدي الأخرش.: فليغصْ في سيول بطني.
وغصت، في بركه، ذات لون كحلي. سحرني اللون، وازدهيت! فغامت صورتك العجيبة عني. بل تحوّلت إلى خوابٍ ودنان....
وهكذا صار جسدي معملاً للفرز. و....
أجل. تراكمتُ، وتراكمتُ. وكبرتْ جثّتي الثقيلة.
وأصبحت تلةً من الفضـ...