لا أدري، لمَ كان يعتور خالي هذا التمهّل؟ طول باله كاد يشقّني نصفين. الأمر واضح، كعين الشمس. أنا قرأت "الإشعار" بنفسي، عيناي التهمتا حروفه، وشفتاي تمتمتا كلماته: "حضرة السيد محمود الصاللح.... بعد التحية. الحوالة في طريقها إليك. ومقدارها عشرون مليون (ريال ارجنتيني قديم)..... تركة شقيقك فهد الصالح، الذي توفي، في أواخر شهر أيلول وقد أوصى بما يملكه إليك. لأنه- رحمه الله- لا ولد له. ولا زوجة شرعية. وعملنا بموجب وصيته. فبعنا الأموال غير المنقولة، وأضفنا قيمتها إلى الأموال المنقولة، وكانت الحصيلة العامة المبلغ المشار إليه. وإنا لله، وإنا إليه لراجعون" /إمضاء : القنصل العام في السفارة/. ومَهْرُ هذا " الإشعار". بخاتم قنصل سفارتنا، في دولة الأرجنتين، تأكيدٌ على صدق نظريتي، فلماذا الخوف، يا خالي محمود؟ وهذا الدقّ، من جهة قلبك، الذي يشبه ضرب المطرقة؟ يجبب أن تقتنع بكلامي، وتقلع عن حجج حمارك غبيران،و.... وعلى الرغم مما كنت أكرز به. ظل خالي محمود هذا. يشك في نظرتي. ويميل إلى نظرية رفيق الدرب والعمل غبيران. فلم يصدّق نفسه أنه سيصبح، بين يوم وليلة، أكثر من مليونير وهو العامل البسيط، الذي سلخ عمره في الشقاء. ينقل على كتفيه قفف الحجارة والحصى. لرصف طرق المواصلات. فلم يركن إلى نفسه أنه سيحوز هذا المبلغ العظيم؛ ياسيلم. يابن اختي. أنا قلبي دليلي. خيالي لايقبل مني أنني سأمتلك هذه الثروة. فضلاً عن عقلي. لهذا اتركني في حال سبيلي. أمتطي ظهر حماري، كل صباح. وهو يرعى في مكان العمل. وأنا أشتغل". كان الحمار غبيران، قد قطع مع خالي عشرة. لاتقلّ عن خمس عشرة سنة. أمضاها معه، رجلاً برجل، ورأساً برأسٍ. اشتراه خالي جحشاً صغيراً. ثم كبر عنده، وروّضه. حتى صار يتقن مهمته. ينفّذ، بدقة، الأعمال والحركات. التي يعتقد أنها مطلوبة منه. مثلا ينهق بعد فلقة الفجر. فيستفيق خالي. ويرتدي ملابسه. ويعتلي صهوة رفيقه. ويتجه به إلى ورشة المواصلات، خارج القرية. لكن إذا ما تلكأ في نهوضه، يوماً، عن وقت غدوته المحدد. ليكن بسبب سهرة متأخّرة. فيملأ غبيران الدنيا نهيقاً. ثم يهجم من زريبته إلى باب غرفة خالي المجاورة. ويطرقه بحافر يده. ولايهدأ خاطره إلا بنهوض خالي. ثم كان، أحياناً، يمسك زوّادته بأسنانه، ويقدمها له. وكأنه مدرّب في (سيرك)! في الطريق، كان غبيران. يسارع خطاه، خلال شعاب القرية الخارجية، التي تخترق بساتينها وكرومها. فيستنشق بمنخاريه المفتوحين أفاويح النسائم الندية. وهي تحرّك ذؤابات الأشجار حوله. فيرفع رأسه، تحت صاحبه الحبيب، ليمتلّى معه شذى الخمائل المنسكب، من كل صوب، وليغازل، أيضاً، بعينيه الواسعتين سهام تلك الأشعة المذهبة، التي تتناوشه، من خلال ثلمات الأغصان المتشابكة....و... حيوان فطر على حب الطبيعة، وعشق البرية. بل عشق الشمس، والريح، والفضاء. فلا غرو أن يندمج مع خالي، في هذه الحياة. أو بالأحرى، أن يندمج خالي معه فيها. فراحا، معاً، يمارسان طقوسها، ومواعيدها، وأعمالها، كل يوم. حتى صارت كعادة قديمة لديهما. لذا كان أمراً طبيعياً أن يعترض، على ظهوري الجديد هذا، في حياته، مع خالي. وأن يعترض، بالتالي، على كل هذه الثروة المرتقبة. ولودرى بـ " الإشعار". لمزّقه شرّ ممزق. عذوبة حياته مع صاحبه المخلص، في تلك التلال والهضاب. التي تشقّها الطرقات المستحدثة، واستنشاق الهواء الطلق. وانسراح العينين إلى أبعد رؤية، في الأمداء اللامنتهية. وقضم عشب الأرض، بدلاً من تبن المعلف الجاهز. لاتعادلها. عنده، أموال دولة الإرجنتين بالكامل. ولكن، أنا، حياتي عند خالي، غير حياة هذا الحمار. وعلاقتي به غير علاقته. أريد إقناعه؛ "ياخالي... ياخالي...". والمثابرة تفلّ الفولاذ، لا الحديد فحسب! رأيت خالي، بعد التكرار والتكرار ينصاع لي، بعض الشيء. حين تسلّم رسالة مضمونة أخرى من ساعي البريد. فقرّر أن يعزف عن شغله، في ورشة المواصلات. وليعمل مليونير آخر زمان! بيد أن استياء هذا الحمار. وما يمارسه من حركات صباحية مغرية ومحزنة، في آن واحد. و" القلبب الدليل". كل هذا عاد وغيرّ من رأي خالي. فعدل. فيما بعد عمّا كنت قد توصّلت إليه، معه، من تقدّم." كأنني لا أصدق أنني سأصبح غنيّاً ياابن أختي. وغبيران المسكين، لشدّ ما يؤسيني منظره الكئيب. وضعه البائس هذا يؤلمني. لقد اعتاد السُّرى. ينهق كل صباح. ويضرب الباب بحافره. ويتمّحس بي، كقط كير وديع؛ لأذهب به، إلى حيث أعمل....". وهكذا صرعني هذا الحمار، لدى خالي. إذ لم يعد يبالي- أي خالي- بكلام الناس عنه، وسفّه نصحي له. وضرب عرض الحائط بما أبديته له، من ذرائع. وما تحاملت به على نفسي، من عطف على سمعته. ومكانته الاجتماعية، التي تدنّت إلى درجة الصفر. ياخالي محمود، يجب أن ترتاح، وتقلع عن العمل. لم تعد، الآن، بحاجة إلى أجرك الزهيد. الذي تتقاضاه. بعد وصول هذه الأخبار السارة. أخوك- خالي فهد، رحمه الله- قد زاد في وفائه لك. هذا الخال الذي لا أعرفه. وحتى أنت لاتتذكر صورة وجهه. إذ فارقك، عندما كنت صغيراً. ويمّم شطر جنوب (العالم الجديد). ليلقي عصا اغترابه، في بلاد الإرجنتين. بعد أن عزّت عليه لقمة العيش في وطنه، أيام (سفر برلك). عزّ عليكم- في تلك الأيام- رغيف الشعير، وعجين الذرة... فرحل ليرفع الحيف. ويكفّ عنك مخالب الجوع، التي كانت تنهش معدتك. ولكن لم تجر الرياح معه، كما كانت تشتهي سفنه. فطالت غيبته. وانقطعت أخباره. فالتجأت إلى أن تعمل (مرابعاً)، لدى ملاّك الأطيان، في قريتنا. وتحصل على قوت بطنك من ريع عيني ضئيل. ثم ترفّعت إلى مستوى عامل مواصلات. وصرت تتسلّم أجرك دراهم. واشتريت غبيران بالتوفير والتقتير على نفسك، ليساعدك في الوصول إلى عمملك. ينقلك ذهاباً وإياباً. بعد أن كبرت وأكل الشقاء، من كبدك، أكثر من شقفة. واليوم، خالي فهد، قد أوفى بعهده، في مماته. بعد أن عجز أن يفي به، في حياته، فهاهو ذا، قد أفاض الخير عليك. وطمرك بالنقود من قبّة رأسك، حتى أخمص قدمك. فأوصى لك بأموالٍ لا تأكلها النيران. عشرون مليوناً. يستغرق عدّها عاماً كاملاً. وكم "شوالاً، ستملأ. فاهنأ، ياخالي محمود. بهذه التركة النقدية النظيفة. التي جاءتك، على البارد والسلام. إذن، يجب أن تعتزل العمل. وتخلد إلى الراحة. وليقسُ قلبك، أيضاً، على غبيران. هذا الحيوان، خلقه الله حماراً، لاغير..... ثم رحت، في الوقت ذاته أمنّي نفسي، في حصة المرحومة والدتي صالحة. شكراً لك، ياخالي فهد، على هذه الثروة الطائلة. التي تركتها بعد مما تك. حتماً ستكون هذه الحصة مبلغاً محترماً. وبناء عليها. أنا صرت مع خالي. بحكم المليونير! وماذا سيكون نوع السيارة التي سأشتريها؟ (مازدا)؟ أم (مرسيدس)؟ والشقة السكنية، في أي حي، من أحياء العاصمة ستكون؟ وأمّا ابنة الحلال. فسأنتقيها من بين بنات العائلات الراقية. و... على أية حال تلك الحصة. هي التي ستحدّد كل هذه الأمور. ثم لا أدري. كيف ضرب رأسي هاجس تجاه هذا المبلغ بالذات؟ هل سيكون ثلث التركة؟ طالما والدتي، هي شقيقة وحيدة لخالي محمود. وللذكر مثل حظ الأنثيين. كما يحكم " الشرع"! غير أنه توجد في هذه القضية، نقطة ضعف خطيرة. وهي أن والدتي توفيت، قبل وفاة خالي فهد، بمدة طويلة. على كل حال. سأتراخص مع خالي محمود. هذا الرجل المعدم. قد أمضى عمره، وهو يشتغل في الفلاحة. ثم في جمع الحجارة. ورصف الطرق. وأجره اليومي، لايزيد عن ليرتين، فقط. وعنده حمار، ومصاريف أخرى. لهذا سأطبّق عليه حكم "القناعة هي الغنى"! لاحكم "الشرع". وسأرضى بالمبلغ الذي سيجبر خاطري به. مثلا، بدلاً من قرابة سبعة ملايين. سأقبل خمسة ملايين. وأجزمم أنه سوف لايتكّرم علي، بأقلّ منها. فهو، ماذا سيصنع بكل ملايينه؟ ولنقل إن عينيه في قفا رأسه، لا في وجهه؛ فلا يحرم منها، من له به علاقة قربى مثلي. وهأنذا، قد حسّنت رابطتي به. وأضحت الصلة جيدة، في الآونة الأخيرة. بل طيبة للغاية. أزوره يوميياً: نحن اقرباء يا خالي. يجب أن نقف معاً، في الملمّات. ولا يتخلّى أحدنا، عن الآخر. ومن يقلْ إن " ابن الأخت عدو الخال"، فهو كاذب وابن كاذب... نعم. كان في بادئ الأمر. يأخذه حذرمني. ويتساءل عن هذه العاطفة الجديدة؟ ثم ترك، بعد ذلك، حبله على غاربه. أصبح عادياً. يستمع إليّ. ويتطامن برأسه: يا خالي. أهل القرية، عرفوا الخبر. وأخذت ألسنتهم تتحرّك في حلوقهم؛ هذا الرجل شحيح بخيل. ستصله ثروة تكفي مدينة، ومازال يركب حماراً. ويشتغل عاملاً، في طرق المواطلات... يكفي ما بذلته من جهد. ومانزفته من عرق.... وأنا من جهتي، فأرى أن الحقّ معهم. فأنت أصبحت بينهم المليونير الوحيد. ويجب أن تضع على وجهك نظارة بعين واحدة. كما كان يفعل أبطال الأفلام المصرية سابقاً.... رفع خالي رأسه. ثم شَقَّ شفتيه مبتسماً، لهذه النكتة. وعاد يتنهّد: لاتدعْ غبيران أذكى منك، ياسليم، يابن أختي. هذا الحمار، مازال يرفض طرحك. وقلبي يحدّثني أن الصواب معه، لامعك، ولا مع أهل القرية.... -" أبهذه البساطة"؟ قاطعته. فتجهّم وجهه، وكأنه أراد أن ينبش الماضي معي. ولكن- والحمد لله- سرعان ما عاد، وأفرد وجهه. هؤلاء الكببار في العمر. يظلّون كباراً في القلوب، حقيقية! دارى شعوري. ونطق بتمهل: ياسليم. أعتقد أن إحساسي صادق، فيما وطّنت نفسي عليه. فسأبقى كما أنا. لذا دعني وغييران حتى لاأخسر تعويضاتي، في الخدمه. فأخشى إذا ما انقطعت عن عملي مدة. تشطب هذه التعويضات، في مديرية التأمينات الاجتماعية. بلعت ريقي. وقلت، بلهجة جادّة: ياعمّي. بل يا خالي. الحكومة لاتكذب على المواطن. والسفارة دائرة حكومية. مبلغ عشرين مليوناً، من وحدة العملة الأرجنتينية. ستقبضها قريباً، محوّلة إليك بالطرق القانونية، من المصرف المركزي الأرجنتيني. والمراجعة، بعد أيام، أو أسابيع. فاخلع عن جسمك بذلة " الخاكي" هذه وارتد بذلة من نوع "الطقم المدني"، ذي "الجوخ" العال! وصمَّ أذنيك عن نهيق غبيران الصباحي. بل زدْ له علف الشعير، يسكت عنك. -" أظن- أجابني- لايستبدل حياته تلك بكل شعير العالم"! عجيبة سلطة هذا الحمار على خالي! إذن، من الأفضل أن معه قضية حصة المرحومة والدتي. وأترك قضية غبيران العسيرة هذه. فقلت له: -" المبلغ المرسل مسجل باسمك، ياخالي. وهو من تركة خالي فهو شقيقك، وشقيق أمّي صالـ....". قاطعني: -" أمك صالحة، رحمها الله". شعرت أن قلبي قفز إلى أمامي. هل يعرف خالي محمود بالقانون؟ ولكنه تابع، بعد أن نظر إليّ بطرف عينه. وكأن قلبه ققد رقّ: - "لماذا تغيّر لون وجهك، ياسليم"؟ أجبته كالذاهل: -" أبداً، لا ....". استأنف: -" إذا ما صدق ظنّك، يابن أختي صالحة، بهذه الثروة، فستحصل على مبلغ يسرّ خاطرك". -" ابقَ غداً في البيت، ياخالي حرصاً على....". -" اتكل على الله". وفي اليوم التالي، قصدت بيت خالي، لأوكّد التزامه، ولكنني لم أجده. انحمقت في داخلي. حتماً أيقظه غبيران وغدوا،معاً، إلى ورشة المواصلات. فذهبت إلى موقع العمل. ومن بعيد رأيت غبيراان يرعى محرراً من شركا له- هذه عادة خالي معه- وبعد أن وقفت بجانبه، وتشمّم رائحتي بخياشيمه النفّاذة. نخرَ! كأنه يقول لي لم أتيت؟ لم أبالِ به. نظرت إلى العمال. فشاهدت خالي بينهم، يحمل بيديه قفة الحصى. ركضت نحوه: -" ياخالي أراك عدت إلى قفتك"! -" ياسليم. نهق غبيران في موعد السُّرى، ولم أرد أن أكسفه، و....". وقبل أن يعني أمراً آخر. قاطعته: -" نهيق هذا الحمار خير من كلامي"؟ اكتفى بابتسامة مبتسرة، من تحت شاربه المخلوط بالأبيض. حتى لايخدج حميّتي. عدت وتساءلت، في نفسي، عن سر حظوة غبيران عند خالي. هل أفرغ هذا دماغه، حتى سيطر ذاك على عقله؛ بهذا الشكل؟ أم يتشاركان معاً في استشعار مايسمى بالحاسّة السادسة؟ وهاهما ذان كأنهما يحملان اختصاصاً في مادة (الباراسيكيولوجيا) (1). وهنا أخذتني الغيرة بجدية.لايمكن أسمح لحمارٍ أن يكون أكثر فهماً مني، عند خالي: فنزعت القفّة من بين يديه. وجئت بالحمار نفسه، وقدمته إليه. ليعود إلى البيت. وليخسر أجره اليومي. غداً سيصبح أحد أثرياء البلد. ولكن غبيران نترَ يدي، وحرّر رسنه، وعاد إلى حيث كان يرعى. عرف هذا الوقت، ليس هو وقت العودة. -" ياخالي، أنا أريد راحتك. وسمعتك". رّبت على كتفي. وقد أخذه إشفاق عليّ: -" ومن أجل خاطرك، سأنصرف معك اليوم". ويالفرحتي، وحسن حظي! بل وسداد رأيي! فما ان وصلنا، حتى أقبل علينا ساعي البريد. وتسلّم خالي منه، هذذه المرة، إشعاراً من المصرف المركزي في عاصمتنا. لاستلام قيمة حوالة، مرسلة من المصرف المركزي، في عاصمة الأرجنتين. وبعد أن قبض خالي قيمة هذه الحوالة- طبعاً كنت ملازمه -خاطبني: -" ألم أقل لك إن الحقّ مع غبيران، يابن اختي؟ المبلغ المرسل. لايساوي سوى ألفي ليرة"! طاش رأسي. أف! مبلغ عشرين مليون وحدة أرجنتينية. لايساوي سوى ألفي ليرة؟ هذا غير صحيح. انتقلت إلى كوّة الصّراف: -" ياأخي، مبلغ ضخم، لا ....". قاطعني الموظف: -"ياسيّد. اعلم أن كل مئة ريال أرجنتيني قديم تساوي قرشاً واحداً. فاحسب القيمة لعشرين مليوناً..... وأعتقد أنك"شاطراً"، في حلّ المسائل الحسابية ....". (1) المصطلح العلمي للحاسة السادسة وظواهرها
لا أدري، لمَ كان يعتور خالي هذا التمهّل؟ طول باله كاد يشقّني نصفين. الأمر واضح، كعين الشمس. أنا قرأت "الإشعار" بنفسي، عيناي التهمتا حروفه، وشفتاي تمتمتا كلماته:
"حضرة السيد محمود الصاللح.... بعد التحية. الحوالة في طريقها إليك. ومقدارها عشرون مليون (ريال ارجنتيني قديم).....
تركة شقيقك فهد الصالح، الذي توفي، في أواخر شهر أيلول وقد أوصى بما يملكه إليك. لأنه- رحمه الله- لا ولد له.
ولا زوجة شرعية. وعملنا بموجب وصيته. فبعنا الأموال غير المنقولة، وأضفنا قيمتها إلى الأموال المنقولة، وكانت الحصيلة العامة المبلغ المشار إليه. وإنا لله، وإنا إليه لراجعون" /إمضاء : القنصل العام في السفارة/.
ومَهْرُ هذا " الإشعار". بخاتم قنصل سفارتنا، في دولة الأرجنتين، تأكيدٌ على صدق نظريتي، فلماذا الخوف، يا خالي محمود؟ وهذا الدقّ، من جهة قلبك، الذي يشبه ضرب المطرقة؟ يجبب أن تقتنع بكلامي، وتقلع عن حجج حمارك غبيران،و....
وعلى الرغم مما كنت أكرز به. ظل خالي محمود هذا. يشك في نظرتي. ويميل إلى نظرية رفيق الدرب والعمل غبيران. فلم يصدّق نفسه أنه سيصبح، بين يوم وليلة، أكثر من مليونير وهو العامل البسيط، الذي سلخ عمره في الشقاء. ينقل على كتفيه قفف الحجارة والحصى. لرصف طرق المواصلات. فلم يركن إلى نفسه أنه سيحوز هذا المبلغ العظيم؛ ياسيلم.
يابن اختي. أنا قلبي دليلي. خيالي لايقبل مني أنني سأمتلك هذه الثروة. فضلاً عن عقلي. لهذا اتركني في حال سبيلي. أمتطي ظهر حماري، كل صباح. وهو يرعى في مكان العمل. وأنا أشتغل".
كان الحمار غبيران، قد قطع مع خالي عشرة. لاتقلّ عن خمس عشرة سنة. أمضاها معه، رجلاً برجل، ورأساً برأسٍ. اشتراه خالي جحشاً صغيراً. ثم كبر عنده، وروّضه. حتى صار يتقن مهمته.
ينفّذ، بدقة، الأعمال والحركات. التي يعتقد أنها مطلوبة منه. مثلا ينهق بعد فلقة الفجر. فيستفيق خالي. ويرتدي ملابسه. ويعتلي صهوة رفيقه. ويتجه به إلى ورشة المواصلات، خارج القرية.
لكن إذا ما تلكأ في نهوضه، يوماً، عن وقت غدوته المحدد. ليكن بسبب سهرة متأخّرة. فيملأ غبيران الدنيا نهيقاً. ثم يهجم من زريبته إلى باب غرفة خالي المجاورة. ويطرقه بحافر يده. ولايهدأ خاطره إلا بنهوض خالي. ثم كان، أحياناً، يمسك زوّادته بأسنانه، ويقدمها له. وكأنه مدرّب في (سيرك)!
في الطريق، كان غبيران. يسارع خطاه، خلال شعاب القرية الخارجية، التي تخترق بساتينها وكرومها. فيستنشق بمنخاريه المفتوحين أفاويح النسائم الندية. وهي تحرّك ذؤابات الأشجار حوله. فيرفع رأسه، تحت صاحبه الحبيب، ليمتلّى معه شذى الخمائل المنسكب، من كل صوب، وليغازل، أيضاً، بعينيه الواسعتين سهام تلك الأشعة المذهبة، التي تتناوشه، من خلال ثلمات الأغصان المتشابكة....و...
حيوان فطر على حب الطبيعة، وعشق البرية. بل عشق الشمس، والريح، والفضاء. فلا غرو أن يندمج مع خالي، في هذه الحياة.
أو بالأحرى، أن يندمج خالي معه فيها. فراحا، معاً، يمارسان طقوسها، ومواعيدها، وأعمالها، كل يوم. حتى صارت كعادة قديمة لديهما.
لذا كان أمراً طبيعياً أن يعترض، على ظهوري الجديد هذا، في حياته، مع خالي. وأن يعترض، بالتالي، على كل هذه الثروة المرتقبة. ولودرى بـ " الإشعار". لمزّقه شرّ ممزق. عذوبة حياته مع صاحبه المخلص، في تلك التلال والهضاب. التي تشقّها الطرقات المستحدثة، واستنشاق الهواء الطلق. وانسراح العينين إلى أبعد رؤية، في الأمداء اللامنتهية. وقضم عشب الأرض، بدلاً من تبن المعلف الجاهز. لاتعادلها. عنده، أموال دولة الإرجنتين بالكامل.
ولكن، أنا، حياتي عند خالي، غير حياة هذا الحمار. وعلاقتي به غير علاقته. أريد إقناعه؛ "ياخالي... ياخالي...".
والمثابرة تفلّ الفولاذ، لا الحديد فحسب! رأيت خالي، بعد التكرار والتكرار ينصاع لي، بعض الشيء. حين تسلّم رسالة مضمونة أخرى من ساعي البريد. فقرّر أن يعزف عن شغله، في ورشة المواصلات. وليعمل مليونير آخر زمان!
بيد أن استياء هذا الحمار. وما يمارسه من حركات صباحية مغرية ومحزنة، في آن واحد. و" القلبب الدليل". كل هذا عاد وغيرّ من رأي خالي. فعدل. فيما بعد عمّا كنت قد توصّلت إليه، معه، من تقدّم." كأنني لا أصدق أنني سأصبح غنيّاً ياابن أختي.
وغبيران المسكين، لشدّ ما يؤسيني منظره الكئيب. وضعه البائس هذا يؤلمني. لقد اعتاد السُّرى. ينهق كل صباح. ويضرب الباب بحافره. ويتمّحس بي، كقط كير وديع؛ لأذهب به، إلى حيث أعمل....".
وهكذا صرعني هذا الحمار، لدى خالي. إذ لم يعد يبالي- أي خالي- بكلام الناس عنه، وسفّه نصحي له. وضرب عرض الحائط بما أبديته له، من ذرائع. وما تحاملت به على نفسي، من عطف على سمعته. ومكانته الاجتماعية، التي تدنّت إلى درجة الصفر. ياخالي محمود، يجب أن ترتاح، وتقلع عن العمل. لم تعد، الآن، بحاجة إلى أجرك الزهيد. الذي تتقاضاه. بعد وصول هذه الأخبار السارة. أخوك- خالي فهد، رحمه الله- قد زاد في وفائه لك. هذا الخال الذي لا أعرفه.
وحتى أنت لاتتذكر صورة وجهه. إذ فارقك، عندما كنت صغيراً.
ويمّم شطر جنوب (العالم الجديد). ليلقي عصا اغترابه، في بلاد الإرجنتين. بعد أن عزّت عليه لقمة العيش في وطنه، أيام (سفر برلك). عزّ عليكم- في تلك الأيام- رغيف الشعير، وعجين الذرة... فرحل ليرفع الحيف. ويكفّ عنك مخالب الجوع، التي كانت تنهش معدتك. ولكن لم تجر الرياح معه، كما كانت تشتهي سفنه. فطالت غيبته. وانقطعت أخباره. فالتجأت إلى أن تعمل (مرابعاً)، لدى ملاّك الأطيان، في قريتنا. وتحصل على قوت بطنك من ريع عيني ضئيل. ثم ترفّعت إلى مستوى عامل مواصلات. وصرت تتسلّم أجرك دراهم. واشتريت غبيران بالتوفير والتقتير على نفسك، ليساعدك في الوصول إلى عمملك. ينقلك ذهاباً وإياباً.
بعد أن كبرت وأكل الشقاء، من كبدك، أكثر من شقفة. واليوم، خالي فهد، قد أوفى بعهده، في مماته. بعد أن عجز أن يفي به، في حياته، فهاهو ذا، قد أفاض الخير عليك. وطمرك بالنقود من قبّة رأسك، حتى أخمص قدمك. فأوصى لك بأموالٍ لا تأكلها النيران. عشرون مليوناً. يستغرق عدّها عاماً كاملاً.
وكم "شوالاً، ستملأ. فاهنأ، ياخالي محمود. بهذه التركة النقدية النظيفة. التي جاءتك، على البارد والسلام.
إذن، يجب أن تعتزل العمل. وتخلد إلى الراحة. وليقسُ قلبك، أيضاً، على غبيران. هذا الحيوان، خلقه الله حماراً، لاغير.....
ثم رحت، في الوقت ذاته أمنّي نفسي، في حصة المرحومة والدتي صالحة. شكراً لك، ياخالي فهد، على هذه الثروة الطائلة. التي تركتها بعد مما تك. حتماً ستكون هذه الحصة مبلغاً محترماً. وبناء عليها. أنا صرت مع خالي. بحكم المليونير! وماذا سيكون نوع السيارة التي سأشتريها؟ (مازدا)؟ أم (مرسيدس)؟ والشقة السكنية، في أي حي، من أحياء العاصمة ستكون؟ وأمّا ابنة الحلال. فسأنتقيها من بين بنات العائلات الراقية. و...
على أية حال تلك الحصة. هي التي ستحدّد كل هذه الأمور.
ثم لا أدري. كيف ضرب رأسي هاجس تجاه هذا المبلغ بالذات؟ هل سيكون ثلث التركة؟ طالما والدتي، هي شقيقة وحيدة لخالي محمود. وللذكر مثل حظ الأنثيين. كما يحكم " الشرع"! غير أنه توجد في هذه القضية، نقطة ضعف خطيرة. وهي أن والدتي توفيت، قبل وفاة خالي فهد، بمدة طويلة.
على كل حال. سأتراخص مع خالي محمود. هذا الرجل المعدم. قد أمضى عمره، وهو يشتغل في الفلاحة. ثم في جمع الحجارة. ورصف الطرق. وأجره اليومي، لايزيد عن ليرتين، فقط. وعنده حمار، ومصاريف أخرى. لهذا سأطبّق عليه حكم "القناعة هي الغنى"! لاحكم "الشرع". وسأرضى بالمبلغ الذي سيجبر خاطري به. مثلا، بدلاً من قرابة سبعة ملايين. سأقبل خمسة ملايين. وأجزمم أنه سوف لايتكّرم علي، بأقلّ منها.
فهو، ماذا سيصنع بكل ملايينه؟ ولنقل إن عينيه في قفا رأسه، لا في وجهه؛ فلا يحرم منها، من له به علاقة قربى مثلي.
وهأنذا، قد حسّنت رابطتي به. وأضحت الصلة جيدة، في الآونة الأخيرة. بل طيبة للغاية. أزوره يوميياً: نحن اقرباء يا خالي. يجب أن نقف معاً، في الملمّات. ولا يتخلّى أحدنا، عن الآخر. ومن يقلْ إن " ابن الأخت عدو الخال"، فهو كاذب وابن كاذب... نعم. كان في بادئ الأمر. يأخذه حذرمني.
ويتساءل عن هذه العاطفة الجديدة؟ ثم ترك، بعد ذلك، حبله على غاربه. أصبح عادياً. يستمع إليّ. ويتطامن برأسه: يا خالي. أهل القرية، عرفوا الخبر. وأخذت ألسنتهم تتحرّك في حلوقهم؛ هذا الرجل شحيح بخيل. ستصله ثروة تكفي مدينة، ومازال يركب حماراً. ويشتغل عاملاً، في طرق المواطلات... يكفي ما بذلته من جهد. ومانزفته من عرق.... وأنا من جهتي، فأرى أن الحقّ معهم. فأنت أصبحت بينهم المليونير الوحيد. ويجب أن تضع على وجهك نظارة بعين واحدة. كما كان يفعل أبطال الأفلام المصرية سابقاً....
رفع خالي رأسه. ثم شَقَّ شفتيه مبتسماً، لهذه النكتة.
وعاد يتنهّد: لاتدعْ غبيران أذكى منك، ياسليم، يابن أختي.
هذا الحمار، مازال يرفض طرحك. وقلبي يحدّثني أن الصواب معه، لامعك، ولا مع أهل القرية....
-" أبهذه البساطة"؟
قاطعته.
فتجهّم وجهه، وكأنه أراد أن ينبش الماضي معي. ولكن- والحمد لله- سرعان ما عاد، وأفرد وجهه. هؤلاء الكببار في العمر. يظلّون كباراً في القلوب، حقيقية! دارى شعوري. ونطق بتمهل: ياسليم. أعتقد أن إحساسي صادق، فيما وطّنت نفسي عليه. فسأبقى كما أنا. لذا دعني وغييران حتى لاأخسر تعويضاتي، في الخدمه. فأخشى إذا ما انقطعت عن عملي مدة. تشطب هذه التعويضات، في مديرية التأمينات الاجتماعية.
بلعت ريقي. وقلت، بلهجة جادّة: ياعمّي. بل يا خالي.
الحكومة لاتكذب على المواطن. والسفارة دائرة حكومية. مبلغ عشرين مليوناً، من وحدة العملة الأرجنتينية. ستقبضها قريباً، محوّلة إليك بالطرق القانونية، من المصرف المركزي الأرجنتيني. والمراجعة، بعد أيام، أو أسابيع. فاخلع عن جسمك بذلة " الخاكي" هذه وارتد بذلة من نوع "الطقم المدني"، ذي "الجوخ" العال! وصمَّ أذنيك عن نهيق غبيران الصباحي. بل زدْ له علف الشعير، يسكت عنك.
-" أظن- أجابني- لايستبدل حياته تلك بكل شعير العالم"!
عجيبة سلطة هذا الحمار على خالي! إذن، من الأفضل أن معه قضية حصة المرحومة والدتي. وأترك قضية غبيران العسيرة هذه.
فقلت له:
-" المبلغ المرسل مسجل باسمك، ياخالي. وهو من تركة خالي فهو شقيقك، وشقيق أمّي صالـ....".
قاطعني:
-" أمك صالحة، رحمها الله".
شعرت أن قلبي قفز إلى أمامي. هل يعرف خالي محمود بالقانون؟
ولكنه تابع، بعد أن نظر إليّ بطرف عينه. وكأن قلبه ققد رقّ:
- "لماذا تغيّر لون وجهك، ياسليم"؟
أجبته كالذاهل:
-" أبداً، لا ....".
استأنف:
-" إذا ما صدق ظنّك، يابن أختي صالحة، بهذه الثروة، فستحصل على مبلغ يسرّ خاطرك".
-" ابقَ غداً في البيت، ياخالي حرصاً على....".
-" اتكل على الله".
وفي اليوم التالي، قصدت بيت خالي، لأوكّد التزامه، ولكنني لم أجده. انحمقت في داخلي. حتماً أيقظه غبيران وغدوا،معاً، إلى ورشة المواصلات. فذهبت إلى موقع العمل. ومن بعيد رأيت غبيراان يرعى محرراً من شركا له- هذه عادة خالي معه- وبعد أن وقفت بجانبه، وتشمّم رائحتي بخياشيمه النفّاذة. نخرَ! كأنه يقول لي لم أتيت؟ لم أبالِ به. نظرت إلى العمال. فشاهدت خالي بينهم، يحمل بيديه قفة الحصى. ركضت نحوه:
-" ياخالي أراك عدت إلى قفتك"!
-" ياسليم. نهق غبيران في موعد السُّرى، ولم أرد أن أكسفه، و....".
وقبل أن يعني أمراً آخر. قاطعته:
-" نهيق هذا الحمار خير من كلامي"؟
اكتفى بابتسامة مبتسرة، من تحت شاربه المخلوط بالأبيض. حتى لايخدج حميّتي. عدت وتساءلت، في نفسي، عن سر حظوة غبيران عند خالي. هل أفرغ هذا دماغه، حتى سيطر ذاك على عقله؛ بهذا الشكل؟ أم يتشاركان معاً في استشعار مايسمى بالحاسّة السادسة؟ وهاهما ذان كأنهما يحملان اختصاصاً في مادة (الباراسيكيولوجيا) (1). وهنا أخذتني الغيرة بجدية.لايمكن أسمح لحمارٍ أن يكون أكثر فهماً مني، عند خالي: فنزعت القفّة من بين يديه. وجئت بالحمار نفسه، وقدمته إليه. ليعود إلى البيت. وليخسر أجره اليومي.
غداً سيصبح أحد أثرياء البلد. ولكن غبيران نترَ يدي، وحرّر رسنه، وعاد إلى حيث كان يرعى. عرف هذا الوقت، ليس هو وقت العودة.
-" ياخالي، أنا أريد راحتك. وسمعتك".
رّبت على كتفي. وقد أخذه إشفاق عليّ:
-" ومن أجل خاطرك، سأنصرف معك اليوم".
ويالفرحتي، وحسن حظي! بل وسداد رأيي! فما ان وصلنا، حتى أقبل علينا ساعي البريد. وتسلّم خالي منه، هذذه المرة، إشعاراً من المصرف المركزي في عاصمتنا. لاستلام قيمة حوالة، مرسلة من المصرف المركزي، في عاصمة الأرجنتين.
وبعد أن قبض خالي قيمة هذه الحوالة- طبعاً كنت ملازمه
-خاطبني:
-" ألم أقل لك إن الحقّ مع غبيران، يابن اختي؟ المبلغ المرسل. لايساوي سوى ألفي ليرة"!
طاش رأسي. أف! مبلغ عشرين مليون وحدة أرجنتينية. لايساوي سوى ألفي ليرة؟ هذا غير صحيح. انتقلت إلى كوّة الصّراف:
-" ياأخي، مبلغ ضخم، لا ....".
قاطعني الموظف:
-"ياسيّد. اعلم أن كل مئة ريال أرجنتيني قديم تساوي قرشاً واحداً. فاحسب القيمة لعشرين مليوناً.....
وأعتقد أنك"شاطراً"، في حلّ المسائل الحسابية ....".
(1) المصطلح العلمي للحاسة السادسة وظواهرها