مازلت أضحك. وسأضحك طويلاً مما حدث. وهل يمكن نسيان الذي حدث؟. لولا بقع الدّم على مُلاءة السرير البيضاء، ولولا الحقيبة السوداء، لقلت: إنه حلم.. كابوس من الكوابيس التي تعتادني. دعوني أشرح لكم.كتمان السر يكاد يدفعني إلى الجنون، أو أن ما حدث هو الجنون عينه. ربما وجدتم تفسيراً يردني إلى وسادة الراحة. لقد استطعتُ إخفاء المُلاءة البيضاء والحقيبة السوداء في مكان أمين، لكنيّ لا أستطيع إخفاء ضحكاتي، التي تنطلق في صمت الليل، أو صخب النهار، فتظن بي زوجتي الظنون، ويقف أولادي حائرين قبل أن يتابعوا ما هم ماضون فيه، أو يستيقظوا من نومهم، والذعر الأخرس في عيونهم، يقلّبون نظراتهم فيما حولهم، قبل أن يعودوا إلى أشواك أحلامهم. تلك الليلة! تلك الليلة كنتُ وحيداً في البيت، قبل أن أسمع الطرقات الملحّة على الباب. كنتُ أعيد قراءة إحدى روايات ديستويفسكي، استعرتها من مكتبة المدرسة حيث أعمل، وأنا أعاني مرضاً أعلم أنه غير حقيقي، أعداني به بطل الرواية بأوهامه ووساوسه. حين سمعتُ الطرقات اعتقدت، للوهلة الأولى، أنها زوجتي ، وقد أحست بذنبها، فعادت عن حردها في بيت أهلها. لكني تذكرّت أنها تحمل المفتاح، وأنها لا يمكن أن تعود في مثل هذا الوقت المتأخر، إذ يلفّ الليلَ مطر ثلجي وريح شرود. ولمع في رأسي خاطر خاطف: أوقع حادث لأحد الأولاد؟. فقفزت إلى الباب تسبقني دقات قلبي. وعلى ضوء الممر الكابي لمحت شخصاً يسد الباب بقامته الطويلة النحيلة. يحمل بيده اليسرى حقيبة صغيرة، يستعملها رجال الأعمال عادة، ومن خلفه تلامعت ذرات الماء الثلجي المتأرجحة. داخلني إحساس بالخوف؛ إذ لم يسبق لي أن عرفتُ هذا الوجه المستطيل، والعينين الصغيرتين البراقتين. لكنه أثار لديّ شعوراً غامضاً منبعثاً من أزمنة بعيدة، وحارات عتيقة متداخلة. لاشك أنه يقصد منزلاً آخر، وقد ضلّ الطريق في متاهة الليل. وانتظرتُ منه بادرة ما تبدّد حراجة الموقف وغموضه. ولمحته، على ضوء ما تناثر على وجهه من ضوء، يمسح بكفّه قطرات المطر عن جبهته العريضة وشعره الرمادي، ويبتلع ريقه قبل أن يقول، وقد انبثق على شفتيه الدقيقتين خيط ابتسامة: - عباس الأمين أنت؟ ألا تدعوني للدخول؟ ووجدت نفسي أفسح له الطريق، وأنا ذاهل عن نفسي، وكأني أتابع صفحات الرواية. وتهيأت لمئات التوقعات، وأصبح كل شيء ممكناً. تابعته في الممر، ثم أشرت إليه أن ينعطف إلى اليسار، حيث غرفة الضيوف. وسبقته في الدخول، لأضيء المصباح. وتبدّت ثيابه، في النور، غارقة بالماء. خلع معطفه المبلل، وجلس على مقعد كنبة من الباب، تحت آية من القرآن الكريم معلقة على الجدار، ووضع بين رجليه حقيبته السوداء، بينما رحتُ ألقي عود ثقاب في المدفأة، ثم أجلسُ في مواجهته. ومرّت ثوان حرجة، صعبة. كنت أريد أن أرّحب به. لكن كلماتي لم تطاوعني فبقيتُ صامتاً أنتظر. وتململ في جلسته، وعبّ نفساً طويلاً قبل أن يتكلم. ولم أشأ مقاطعته، وبتلقائية، لا أدري كيف. تقمصت دور المحلل النفسي، وكان هو المريض، أوكنتُ الكاهن وهو يجلس على كرسي الاعتراف!. «- أنا محروس الصامت.. طبعاً أنت لا تعرفني.. أنا أعرفك.. أنا من قرّاء مقالاتك الأسبوعية في جريدة (اليقظة). أحببتك دون أن أراك.. أقول الحق: أنتم الجنود المجهولون.. المعروفون أيضاً.. أنتم الشموع.. أحببت تناولك للجوانب السلبية في حياتنا أحم.. أحم.. الرشوة.. المحسوبية.. التهريب.. الصفقات المشبوهة.. الثراء المفاجئ.. الاستهانة بأرواح الناس ودمائهم.. سقوط القيم.. احم.. احم.. احترمت جرأتك.. أثارني حس الصدق فيما تكتب. أتذكر مقالك من نحو شهرين عن ذاك الذي جمع ثروة دون وجه حق.. وقرر التوبة.. وجد الحل الأمثل - احم.. احم.. لا تؤاخذني يبدو أني بردت في طريقي إليك - وجد الحل في إعادة الأموال إلى أصحابها الحقيقيين.. واجهته عقبات وعقبات.. لقد أضحكتنا وأنت تصوره، وقد غدا في نظر بعضهم متهماً أو ربما مدفوعاً من جهات غريبة.. احم.. احم..» وقفز إلى ذهني سؤال مفاجئ: كيف عرف الطريق إلى بيتي؟ ولكني تركته يمضي في حديثه: «ـ أصارحك أني أحد هؤلاء الذين كتبتَ عنهم.. لقد جعلتني استيقظ على ما فعلته يداي.. يداي هاتان ملوثتان بالدماء.. أتسمع؟ بالدماء.. دماء حقيقية! جعلت ضميري «يرتجف أمام ضحاياه» أليس هذا تعبيرك ؟.. احم.. احم.. جئتكَ الليلة لهذا.. من ضحاياي من اختفى إلى الأبد.. والبقية لا أعرفهم.. أريد أن أتطهرّ.. أن أكفر عن ذنوبي.. هذه الحقيبة فيها الملايين.. سحبتُ كلّ أرصدتي.. بعت كلّ أملاكي، لم أُبق لي سوى غرفة واحدة تؤويني، وبعض المال أتبلّغ به في أيامي المقبلة، وجئت إليك.. احم.. احم.. مقالاتك كانت تعبث بأعماقي.. كنتُ أعجب بها بعقلي.. لم تكن تذهب أبعد.. مجرد عبث ودغدغة للأعماق.. لكن بعد أن وقع الذي وقع، عُدتُ إلى مقالاتك فأصابت مني مقتلاً..». وفتحتُ عينيّ على وسعهما، أتساءل عن هذا الذي وقع. ودون أن أفتح فمي تابع: «- أصبحتُ ذات يوم.. فإذا أنا أفقد زوجتي وأولادي الأربعة.. كلهم في لحظة واحدة.. ويا ليتني كنتُ معهم إذاً لاسترحتُ.. سحقت سيارتهم شاحنةٌ ضخمةٌ.. فلم يخرج منهم مُخبّر.. تصور! عندك زوجة وأولاد.. هه؟.. حاولت الليلة النوم فلم أُفلح.. في رأسي ورشة مقلع للحجارة.. أنت تفهمني.. لم أستطع النوم.. فجئتُ إليك.. قلتُ: الليلة قبل الغد يا محروس! يجب أن تفعلَ شيئاً.. أعترف لك أني قررّت أن أهب كل هذه الأموال للدولة.. وتكون أنت شاهدي على ذلك.. ومُساعدي.. ما رأيك؟.. الحقيقة لم أشأ أن أحرمك المشاركة في هذا الأمر.. أليس هذا عظيماً؟!.. اسمع.. اسمع.. سأطلب في هبتي للمال أن ينفق على المحتاجين.. اليتامى.. الأرامل.. المعوقين.. المشردين.. سأوصي ببناء مدرسة.. وملجأ.. ومشفى.. هذا شرطي.. شرطي الوحيد.. ما رأيك؟.. قل شيئاً.. لماذا أنت صامت؟.. احم.. احم.. لهذا جئت الليلة إليك قبل أن أُخبر أحداً بهذا القرار..» صمتَ.. وبقيتُ أنا صامتاً.. وكان الليل في الخارج صامتاً، إلاّ فحيح النار في المدفأة. كنت أقرأ، بلا صوت، الآية القرآنية على الجدار فوق الرجل. وغرقتُ في أحداث الرواية التي أقرؤها. * * * لن أطيل عليكم. بعد أن قدتهُ إلى غرفة النوم في سرير زوجتي الفارغ، وكان التعب قد نال منه؛ حتى إنه غرق في النوم قبل أن أغطيه بالُملاءة البيضاء واللحاف الثقيل، استيقظت في وعيي، زوجتي.. زوجتي الجميلة الرائعة.. زوجتي التي استطاعت أن تشدّني جيداً بالخيوط القزحية للأنثى الخالدة منحاً ومنعاً. استيقظ حبُّ زوجتي للفساتين الجديدة في الواجهات الأنيقة، تألقها في الحفلات التي تعشقها. استيقظت فيّ أحلامها بلا حدود، و«المرء يعيش مرّة واحدة» تكررها دائماً. استيقظ أولادي، طلباتهم التي لا تُلبىّ، شكاواهم التي لا تنتهي. استيقظتْ فيّ بيوت أصدقائي الفسيحة، وأثاثها الفاخر، وهم لم يتعبوا عُشر الذي قد تعبت. استيقظ وجه مؤجري العابس، والحاحه على التخمين لزيادة الأجرة. استيقظ حرماني الطويل، وطفولتي القاسية الشقيّة. صوت.. هاجس تغلغل في رعب الليل.. تغلغل في خلايا الكون، ولفّني: إنك تقتل القاتل، وتسرق السارق، والدولة ستدير مؤخرتها لشروطه المضحكة. وبكلمة، نصّبتُ نفسي القاضي، والنيابة، والشهود، وحكمتُ عليه، ونفّذتُ. كان يبحر في نومه وأحلامه، وغطيطُه هادئ منتظم. وكنتُ أراقبه من بعيد. فكرّت في أن أطبق على عنقه بيديّ الاثنتين، لكني خفتُ أن تخونني يداي، أو يصدر عنه صياح غير متوقّع، أو يبديَ مقاومة يائسة لا تقاوَم. سحبت عنه اللحاف بحذر، فبدرت عنه حركة منتفضة، جمدّت الدّم في عروقي. لكنه سرعان ماعاد إلى غطيطه المنتظم. وتنّبهتُ إلى رائحة غريبة، يعبق بها جو الغرفة، وكنتُ في شغل عنها. ولم أشأ سحب المُلاءة عن وجهه وصدره حتى لا أضعُف، وتحسستْ أصابعي المرتجفة مكان دقات قلبه. وغرقت في بحر ذهول أذهلني. ولم أدر كيف رفعت سكّين المطبخ الحادّة، وكيف اخترقته بضربة موفقة، كأني عبّاس آخر. أنّةٌ قصيرة، وحشرجة سريعة، وانطفأت أنفاسه. وعلى ضوء المصباح الضئيل رأيت الدم الداكن النافر يغرق بياض المُلاءة البيضاء. وسبحتُ في بحر الذهول، فقادني إلى الحديقة الصغيرة تحت شجرة التفاح الوحيدة في البيت، لأحفر حفرة تضمه، وتضمّ كل معالم حضوره إليّ. وغداً تصبحُ حرّاً كالفراشة. جلّلني عرق غزير بارد، وأنا أعود إلى الغرفة بخطوات مضطربة. واصطدمت نظراتي بالسرير، وثقل لساني في فمي، وصدر عني صوت سمعته غريباً في أذني: غير معقول! كان السرير فارغاً. ولولا المُلاءة الغارقة بالدم لحسبتني في حلم.. في كابوس من الكوابيس التي تعتادني. أضأت المصباح القوي، وبحثت في زوايا الغرفة، وبحثت في أنحاء البيت الصغير عن جثة شاردة.. عبثاً بحثت، فأخذني رعب قاتل. وعدت أفتح الحقيبة السوداء، على الطاولة القصيرة، حيث تركها. فتحتها بلا تروّ، وسحبت الرزم منها، فتناثرت أوراق صحف مضموم بعضها إلى بعض بعناية، تحمل عناوين بعض مقالاتي. لا بأس..! مضى وقت طويل قبل أن أدرك حقيقة أني وقعتُ في الشّرَك. عندها ضحكتُ.. ضحكتُ حتى كاد يغمى عليّ من الضحك، ومازلتُ حتى الآن، أضحك. دفنتُ المُلاءة البيضاء المدماة، والحقيبة السوداء بما احتوت، في الحفرة التي أعددتها. ودفنتُ معها كلّ ما يمتُّ إلى ماحدث تلك الليلة، وسوّيتُ الأرض كما كانت. مازالت ترعبني فكرة، بعد أن مضت أيام وأيام، وبعد أن عادت زوجتي وأولادي، وتابعنا حياة العتاب واللوم والشكوى والحرمان. مازالت ترعبني فكرة أن أحفر فلا أجد المُلاءة البيضاء المدماة ولا الحقيبة السوداء يما احتوت، ويكون آخر آثار تلك الليلة الرهيبة قد اختفى إلى الأبد. أرجوكم.. إذا سمعتموني أضحك في صمت الليل أو صخب النهار فاعذروني! أنا أرتجف من أعماقي.. أرجوكم.. قولوا لي كلمة.. كلمة واحدة.. تفسيراً يردني إلى وسادة الراحة.. فأنام كما كنتُ أنام من قبل.
مازلت أضحك. وسأضحك طويلاً مما حدث. وهل يمكن نسيان الذي حدث؟. لولا بقع الدّم على مُلاءة السرير البيضاء، ولولا الحقيبة السوداء، لقلت: إنه حلم.. كابوس من الكوابيس التي تعتادني.
دعوني أشرح لكم.كتمان السر يكاد يدفعني إلى الجنون، أو أن ما حدث هو الجنون عينه. ربما وجدتم تفسيراً يردني إلى وسادة الراحة. لقد استطعتُ إخفاء المُلاءة البيضاء والحقيبة السوداء في مكان أمين، لكنيّ لا أستطيع إخفاء ضحكاتي، التي تنطلق في صمت الليل، أو صخب النهار، فتظن بي زوجتي الظنون، ويقف أولادي حائرين قبل أن يتابعوا ما هم ماضون فيه، أو يستيقظوا من نومهم، والذعر الأخرس في عيونهم، يقلّبون نظراتهم فيما حولهم، قبل أن يعودوا إلى أشواك أحلامهم.
تلك الليلة! تلك الليلة كنتُ وحيداً في البيت، قبل أن أسمع الطرقات الملحّة على الباب. كنتُ أعيد قراءة إحدى روايات ديستويفسكي، استعرتها من مكتبة المدرسة حيث أعمل، وأنا أعاني مرضاً أعلم أنه غير حقيقي، أعداني به بطل الرواية بأوهامه ووساوسه. حين سمعتُ الطرقات اعتقدت، للوهلة الأولى، أنها زوجتي ، وقد أحست بذنبها، فعادت عن حردها في بيت أهلها. لكني تذكرّت أنها تحمل المفتاح، وأنها لا يمكن أن تعود في مثل هذا الوقت المتأخر، إذ يلفّ الليلَ مطر ثلجي وريح شرود. ولمع في رأسي خاطر خاطف: أوقع حادث لأحد الأولاد؟. فقفزت إلى الباب تسبقني دقات قلبي.
وعلى ضوء الممر الكابي لمحت شخصاً يسد الباب بقامته الطويلة النحيلة. يحمل بيده اليسرى حقيبة صغيرة، يستعملها رجال الأعمال عادة، ومن خلفه تلامعت ذرات الماء الثلجي المتأرجحة. داخلني إحساس بالخوف؛ إذ لم يسبق لي أن عرفتُ هذا الوجه المستطيل، والعينين الصغيرتين البراقتين. لكنه أثار لديّ شعوراً غامضاً منبعثاً من أزمنة بعيدة، وحارات عتيقة متداخلة. لاشك أنه يقصد منزلاً آخر، وقد ضلّ الطريق في متاهة الليل. وانتظرتُ منه بادرة ما تبدّد حراجة الموقف وغموضه. ولمحته، على ضوء ما تناثر على وجهه من ضوء، يمسح بكفّه قطرات المطر عن جبهته العريضة وشعره الرمادي، ويبتلع ريقه قبل أن يقول، وقد انبثق على شفتيه الدقيقتين خيط ابتسامة:
- عباس الأمين أنت؟ ألا تدعوني للدخول؟
ووجدت نفسي أفسح له الطريق، وأنا ذاهل عن نفسي، وكأني أتابع صفحات الرواية. وتهيأت لمئات التوقعات، وأصبح كل شيء ممكناً.
تابعته في الممر، ثم أشرت إليه أن ينعطف إلى اليسار، حيث غرفة الضيوف. وسبقته في الدخول، لأضيء المصباح. وتبدّت ثيابه، في النور، غارقة بالماء. خلع معطفه المبلل، وجلس على مقعد كنبة من الباب، تحت آية من القرآن الكريم معلقة على الجدار، ووضع بين رجليه حقيبته السوداء، بينما رحتُ ألقي عود ثقاب في المدفأة، ثم أجلسُ في مواجهته.
ومرّت ثوان حرجة، صعبة. كنت أريد أن أرّحب به. لكن كلماتي لم تطاوعني فبقيتُ صامتاً أنتظر. وتململ في جلسته، وعبّ نفساً طويلاً قبل أن يتكلم. ولم أشأ مقاطعته، وبتلقائية، لا أدري كيف. تقمصت دور المحلل النفسي، وكان هو المريض، أوكنتُ الكاهن وهو يجلس على كرسي الاعتراف!.
«- أنا محروس الصامت.. طبعاً أنت لا تعرفني.. أنا أعرفك.. أنا من قرّاء مقالاتك الأسبوعية في جريدة (اليقظة). أحببتك دون أن أراك.. أقول الحق: أنتم الجنود المجهولون.. المعروفون أيضاً.. أنتم الشموع.. أحببت تناولك للجوانب السلبية في حياتنا أحم.. أحم.. الرشوة.. المحسوبية.. التهريب.. الصفقات المشبوهة.. الثراء المفاجئ.. الاستهانة بأرواح الناس ودمائهم.. سقوط القيم.. احم.. احم.. احترمت جرأتك.. أثارني حس الصدق فيما تكتب. أتذكر مقالك من نحو شهرين عن ذاك الذي جمع ثروة دون وجه حق.. وقرر التوبة.. وجد الحل الأمثل - احم.. احم.. لا تؤاخذني يبدو أني بردت في طريقي إليك - وجد الحل في إعادة الأموال إلى أصحابها الحقيقيين.. واجهته عقبات وعقبات.. لقد أضحكتنا وأنت تصوره، وقد غدا في نظر بعضهم متهماً أو ربما مدفوعاً من جهات غريبة.. احم.. احم..»
وقفز إلى ذهني سؤال مفاجئ: كيف عرف الطريق إلى بيتي؟
ولكني تركته يمضي في حديثه:
«ـ أصارحك أني أحد هؤلاء الذين كتبتَ عنهم.. لقد جعلتني استيقظ على ما فعلته يداي.. يداي هاتان ملوثتان بالدماء.. أتسمع؟ بالدماء.. دماء حقيقية! جعلت ضميري «يرتجف أمام ضحاياه» أليس هذا تعبيرك ؟.. احم.. احم.. جئتكَ الليلة لهذا.. من ضحاياي من اختفى إلى الأبد.. والبقية لا أعرفهم.. أريد أن أتطهرّ.. أن أكفر عن ذنوبي.. هذه الحقيبة فيها الملايين.. سحبتُ كلّ أرصدتي.. بعت كلّ أملاكي، لم أُبق لي سوى غرفة واحدة تؤويني، وبعض المال أتبلّغ به في أيامي المقبلة، وجئت إليك.. احم.. احم.. مقالاتك كانت تعبث بأعماقي.. كنتُ أعجب بها بعقلي.. لم تكن تذهب أبعد.. مجرد عبث ودغدغة للأعماق.. لكن بعد أن وقع الذي وقع، عُدتُ إلى مقالاتك فأصابت مني مقتلاً..».
وفتحتُ عينيّ على وسعهما، أتساءل عن هذا الذي وقع. ودون أن أفتح فمي تابع:
«- أصبحتُ ذات يوم.. فإذا أنا أفقد زوجتي وأولادي الأربعة.. كلهم في لحظة واحدة.. ويا ليتني كنتُ معهم إذاً لاسترحتُ.. سحقت سيارتهم شاحنةٌ ضخمةٌ.. فلم يخرج منهم مُخبّر.. تصور! عندك زوجة وأولاد.. هه؟.. حاولت الليلة النوم فلم أُفلح.. في رأسي ورشة مقلع للحجارة.. أنت تفهمني.. لم أستطع النوم.. فجئتُ إليك.. قلتُ: الليلة قبل الغد يا محروس! يجب أن تفعلَ شيئاً.. أعترف لك أني قررّت أن أهب كل هذه الأموال للدولة.. وتكون أنت شاهدي على ذلك.. ومُساعدي.. ما رأيك؟.. الحقيقة لم أشأ أن أحرمك المشاركة في هذا الأمر.. أليس هذا عظيماً؟!.. اسمع.. اسمع.. سأطلب في هبتي للمال أن ينفق على المحتاجين.. اليتامى.. الأرامل.. المعوقين.. المشردين.. سأوصي ببناء مدرسة.. وملجأ.. ومشفى.. هذا شرطي.. شرطي الوحيد.. ما رأيك؟.. قل شيئاً.. لماذا أنت صامت؟.. احم.. احم.. لهذا جئت الليلة إليك قبل أن أُخبر أحداً بهذا القرار..»
صمتَ.. وبقيتُ أنا صامتاً.. وكان الليل في الخارج صامتاً، إلاّ فحيح النار في المدفأة. كنت أقرأ، بلا صوت، الآية القرآنية على الجدار فوق الرجل. وغرقتُ في أحداث الرواية التي أقرؤها.
* * *
لن أطيل عليكم. بعد أن قدتهُ إلى غرفة النوم في سرير زوجتي الفارغ، وكان التعب قد نال منه؛ حتى إنه غرق في النوم قبل أن أغطيه بالُملاءة البيضاء واللحاف الثقيل، استيقظت في وعيي، زوجتي.. زوجتي الجميلة الرائعة.. زوجتي التي استطاعت أن تشدّني جيداً بالخيوط القزحية للأنثى الخالدة منحاً ومنعاً. استيقظ حبُّ زوجتي للفساتين الجديدة في الواجهات الأنيقة، تألقها في الحفلات التي تعشقها. استيقظت فيّ أحلامها بلا حدود، و«المرء يعيش مرّة واحدة» تكررها دائماً. استيقظ أولادي، طلباتهم التي لا تُلبىّ، شكاواهم التي لا تنتهي. استيقظتْ فيّ بيوت أصدقائي الفسيحة، وأثاثها الفاخر، وهم لم يتعبوا عُشر الذي قد تعبت. استيقظ وجه مؤجري العابس، والحاحه على التخمين لزيادة الأجرة. استيقظ حرماني الطويل، وطفولتي القاسية الشقيّة.
صوت.. هاجس تغلغل في رعب الليل.. تغلغل في خلايا الكون، ولفّني: إنك تقتل القاتل، وتسرق السارق، والدولة ستدير مؤخرتها لشروطه المضحكة.
وبكلمة، نصّبتُ نفسي القاضي، والنيابة، والشهود، وحكمتُ عليه، ونفّذتُ.
كان يبحر في نومه وأحلامه، وغطيطُه هادئ منتظم. وكنتُ أراقبه من بعيد. فكرّت في أن أطبق على عنقه بيديّ الاثنتين، لكني خفتُ أن تخونني يداي، أو يصدر عنه صياح غير متوقّع، أو يبديَ مقاومة يائسة لا تقاوَم. سحبت عنه اللحاف بحذر، فبدرت عنه حركة منتفضة، جمدّت الدّم في عروقي. لكنه سرعان ماعاد إلى غطيطه المنتظم. وتنّبهتُ إلى رائحة غريبة، يعبق بها جو الغرفة، وكنتُ في شغل عنها. ولم أشأ سحب المُلاءة عن وجهه وصدره حتى لا أضعُف، وتحسستْ أصابعي المرتجفة مكان دقات قلبه. وغرقت في بحر ذهول أذهلني. ولم أدر كيف رفعت سكّين المطبخ الحادّة، وكيف اخترقته بضربة موفقة، كأني عبّاس آخر. أنّةٌ قصيرة، وحشرجة سريعة، وانطفأت أنفاسه. وعلى ضوء المصباح الضئيل رأيت الدم الداكن النافر يغرق بياض المُلاءة البيضاء.
وسبحتُ في بحر الذهول، فقادني إلى الحديقة الصغيرة تحت شجرة التفاح الوحيدة في البيت، لأحفر حفرة تضمه، وتضمّ كل معالم حضوره إليّ. وغداً تصبحُ حرّاً كالفراشة.
جلّلني عرق غزير بارد، وأنا أعود إلى الغرفة بخطوات مضطربة. واصطدمت نظراتي بالسرير، وثقل لساني في فمي، وصدر عني صوت سمعته غريباً في أذني: غير معقول!
كان السرير فارغاً. ولولا المُلاءة الغارقة بالدم لحسبتني في حلم.. في كابوس من الكوابيس التي تعتادني. أضأت المصباح القوي، وبحثت في زوايا الغرفة، وبحثت في أنحاء البيت الصغير عن جثة شاردة.. عبثاً بحثت، فأخذني رعب قاتل. وعدت أفتح الحقيبة السوداء، على الطاولة القصيرة، حيث تركها. فتحتها بلا تروّ، وسحبت الرزم منها، فتناثرت أوراق صحف مضموم بعضها إلى بعض بعناية، تحمل عناوين بعض مقالاتي.
لا بأس..! مضى وقت طويل قبل أن أدرك حقيقة أني وقعتُ في الشّرَك. عندها ضحكتُ.. ضحكتُ حتى كاد يغمى عليّ من الضحك، ومازلتُ حتى الآن، أضحك.
دفنتُ المُلاءة البيضاء المدماة، والحقيبة السوداء بما احتوت، في الحفرة التي أعددتها. ودفنتُ معها كلّ ما يمتُّ إلى ماحدث تلك الليلة، وسوّيتُ الأرض كما كانت.
مازالت ترعبني فكرة، بعد أن مضت أيام وأيام، وبعد أن عادت زوجتي وأولادي، وتابعنا حياة العتاب واللوم والشكوى والحرمان. مازالت ترعبني فكرة أن أحفر فلا أجد المُلاءة البيضاء المدماة ولا الحقيبة السوداء يما احتوت، ويكون آخر آثار تلك الليلة الرهيبة قد اختفى إلى الأبد.
أرجوكم.. إذا سمعتموني أضحك في صمت الليل أو صخب النهار فاعذروني!
أنا أرتجف من أعماقي.. أرجوكم.. قولوا لي كلمة.. كلمة واحدة.. تفسيراً يردني إلى وسادة الراحة.. فأنام كما كنتُ أنام من قبل.