من بين الأحلام الكثيرة، التي كانت تعتادني في صغري، حلم لاأنساه. كنت أرى نفسي بين مسافرين لا تنكشف لي وجوههم، على زورق كبير يتجه ليلاً في الشمال الإفريقي نحو الغرب. وتلوح من بعيد مدينة لااسم لها، لكنها المدينة التي تختصر كل المدن المغربية: الدار البيضاء، الرباط، فاس، طنجة، مراكش، المدينة المشتهاة، المدينة الأجمل، المدينة التي تتحقق فيها كل الرغبات، المدينة التي ينتهي عندها العالم، فما وراءها إلاّ محيط لاآخر له، كانوا يُطلقون عليه: بحر الظلمات. وقف عنده يوماً، عقبة بن نافع في فتوحاته، كما كان يحدثنا، بأسلوبه الطلي الشائق، أستاذ التاريخ منير الملقي رحمه الله. المدينة مغربية ونحن نتجه إليها. وتلوح لنا تطفو على الماء والأضواء. تنعكس الأضواء التي لاندري من أين تنبعث في الماء، فيرتعش الماء. أو يكسر الماء المرتعش الأضواء، فتتوالد خطوطاً وخيوطاً ومثلثات ذات رؤوس حادة متطاولة في كل الاتجاهات. فجأة... تتلاشى المسافة، فإذا أنا وحدي، لاأدري كيف ولاأين اختفى الآخرون في المدينة البحرية الليلية. ويسبقني قلبي، مرتعشاً، يركض في شوراعها الضيقة الملتوية النظيفة ذات الدور البيضاء الكلسية، التي تحولت بفعل الليل والأضواء والأخيلة إلى رمادية ناعسة. وكان عليّ أن أطرق كل الأبواب المغلقة، لينفتح أحدها عن الأميرة الجميلة التي تختصر كل نساء العالم، والتي اختفت ذات يوم طوعاً أو كُرهاً، واستوطنت هذه المدينة. وعلى الرغم من أنني لاأعرف الأميرة التي ابحث عنها، إلاّ أنني كنت أعلم أنها سمراء، رشيقة القدّ، بيضاوية الوجه، وطفاء العينين، مكتنزة الشفتين، يتأرجح شعرها الأسود الطويل، إذا مامشت، على ظهرها، وتتضوّع ثيابها القزحية السابغة بكل عبق البخُور. وكنتٌ على ثقة، على الرغم من أن أحد الأبواب لم ينفتح بعدُ عن الأميرة الجميلة، أنني سأعثر عليها مادمتُ قد عثرت على هذه المدينة الرائعة. وعلى هذا الأمل أصحو ومايزال قلبي يرتعش بفرح لاحدود له. ويتكرر الحلم ليلة بعد ليلة، وماتزال المدينة المشتهاة تخفي خلف باب دار من دورها ما أبحث عنه. وتمضي الأيام، وتقودني طريقي، مراتٍ ومرات إلى مدن المغرب الحقيقة:« الدار البيضاء» بأبنيتها الشاهقات، وشوارعها العريضة، وشاطئها البعيد مع الغروب، «الرباط» بحاراتها العتيقة ومنازلها ذات النقوش العربية الرائعة التي تتكرر بلانهاية، وأسوارها وبواباتها، «فاس» وأسواقها الشاميَّة، وروائحها في الدروب الضيّقة وجامعة القرويين العتيدة، «مراكش» الحمراء، وبيوتها القرميدية، وشوراعها الزرقاء، بزهور الجكرندا ومساجدها، وساحة «الفناء» الشاسعة فيها،«طنجة» وهي ترنو من الأزل إلى مضيق جبل طارق، حيث يلتقي البحر بالمحيط، وإلى الأضواء البعيدة المهتزة في العدوة الأخرى من الأرض، القرى الجنوبية على حدود الصحراء، بشجر صبّارها وزيتونها المسمّى (أرغان)، وبيوتها الطينية الواطئة، التي قادتني إلى رحلة في التاريخ والجغرافية معاً، فأعادتني طفلاً على أعتاب قريتي من فلسطين، وفي أطراف دمشق الشام. رأيت في المغرب أشياء واشياء، عرفتُ أناساً كثيرين، تحدثت إليهم وسمعتُ إلى لهجتهم الغريبة المميّزة، أكلت طعامهم المحلّي الشهيّ، أنصتُّ إلى موسيقاهم الأصيلة وغنائهم الشجيّ، قرأت بعض شعرهم ونثرهم، اجتزت الشواطىء من الشمال إلى الجنوب، تفرجت في ساحة «الفناء» علىألعابهم، وأصغيت إلى حكاياتهم ونوادرهم. ومن عجب فإن هذه التفصيلات التي رأيتها في الواقع، مراراً، تضيع: تضيع المعالم والوجوه والأحاديث والأطعمة والروائح يضيع كل شيء، ولايبقى لي في المنام، حين أحلم بالمغرب، سوى الحلم القديم الذي يعتادني، بين حين وحين، حلم الزورق المتجه غرباً، بين وجوه لاأعرفها، نحو المدينة المغربية المشتهاة، الطافية على الماء والأضواء المتوالدة أطيافاً وأشكالاً لاتنتهي، وقلبي يرتعش في شوارعها الملتوية بحثاً عن الأميرة الجميلة السمراء، الهاربة أو الأسيرة، التي تختصر نساء العالم، يملؤني فرح طاغ أن أطرق باباً فيفتح عنها وأعود من رحلتي، أو حلمي بصحبتها. وأتساءل، بلهفة أتساءل، أيهما الحقيقة: مدن المغرب الحقيقية التي رأيتها وخبرتها أم مدينة الحلم والخيال؟ لماذا لم يتلّوّن حلمي بما رأيت وخبرتُ؟ ولماذا يبقى، على الرغم من مرور الزمن، عصيّاً على الاختراق والتغيّر؟ إنه يبقى أقوى من أيّ واقع عرفته وشاهدته وخبرته. أفي المسألة سر لاأدريه؟ ومازال يعاودني حلم الزورق، والمدينة المشتهاة، والأميرة الأسيرة ومازال قلبي يرتعش بشوق لاحدود له!.
من بين الأحلام الكثيرة، التي كانت تعتادني في صغري، حلم لاأنساه. كنت أرى نفسي بين مسافرين لا تنكشف لي وجوههم، على زورق كبير يتجه ليلاً في الشمال الإفريقي نحو الغرب. وتلوح من بعيد مدينة لااسم لها، لكنها المدينة التي تختصر كل المدن المغربية: الدار البيضاء، الرباط، فاس، طنجة، مراكش، المدينة المشتهاة، المدينة الأجمل، المدينة التي تتحقق فيها كل الرغبات، المدينة التي ينتهي عندها العالم، فما وراءها إلاّ محيط لاآخر له، كانوا يُطلقون عليه: بحر الظلمات. وقف عنده يوماً، عقبة بن نافع في فتوحاته، كما كان يحدثنا، بأسلوبه الطلي الشائق، أستاذ التاريخ منير الملقي رحمه الله.
المدينة مغربية ونحن نتجه إليها. وتلوح لنا تطفو على الماء والأضواء. تنعكس الأضواء التي لاندري من أين تنبعث في الماء، فيرتعش الماء. أو يكسر الماء المرتعش الأضواء، فتتوالد خطوطاً وخيوطاً ومثلثات ذات رؤوس حادة متطاولة في كل الاتجاهات.
فجأة... تتلاشى المسافة، فإذا أنا وحدي، لاأدري كيف ولاأين اختفى الآخرون في المدينة البحرية الليلية. ويسبقني قلبي، مرتعشاً، يركض في شوراعها الضيقة الملتوية النظيفة ذات الدور البيضاء الكلسية، التي تحولت بفعل الليل والأضواء والأخيلة إلى رمادية ناعسة. وكان عليّ أن أطرق كل الأبواب المغلقة، لينفتح أحدها عن الأميرة الجميلة التي تختصر كل نساء العالم، والتي اختفت ذات يوم طوعاً أو كُرهاً، واستوطنت هذه المدينة. وعلى الرغم من أنني لاأعرف الأميرة التي ابحث عنها، إلاّ أنني كنت أعلم أنها سمراء، رشيقة القدّ، بيضاوية الوجه، وطفاء العينين، مكتنزة الشفتين، يتأرجح شعرها الأسود الطويل، إذا مامشت، على ظهرها، وتتضوّع ثيابها القزحية السابغة بكل عبق البخُور. وكنتٌ على ثقة، على الرغم من أن أحد الأبواب لم ينفتح بعدُ عن الأميرة الجميلة، أنني سأعثر عليها مادمتُ قد عثرت على هذه المدينة الرائعة. وعلى هذا الأمل أصحو ومايزال قلبي يرتعش بفرح لاحدود له.
ويتكرر الحلم ليلة بعد ليلة، وماتزال المدينة المشتهاة تخفي خلف باب دار من دورها ما أبحث عنه.
وتمضي الأيام، وتقودني طريقي، مراتٍ ومرات إلى مدن المغرب الحقيقة:« الدار البيضاء» بأبنيتها الشاهقات، وشوارعها العريضة، وشاطئها البعيد مع الغروب، «الرباط» بحاراتها العتيقة ومنازلها ذات النقوش العربية الرائعة التي تتكرر بلانهاية، وأسوارها وبواباتها، «فاس» وأسواقها الشاميَّة، وروائحها في الدروب الضيّقة وجامعة القرويين العتيدة، «مراكش» الحمراء، وبيوتها القرميدية، وشوراعها الزرقاء، بزهور الجكرندا ومساجدها، وساحة «الفناء» الشاسعة فيها،«طنجة» وهي ترنو من الأزل إلى مضيق جبل طارق، حيث يلتقي البحر بالمحيط، وإلى الأضواء البعيدة المهتزة في العدوة الأخرى من الأرض، القرى الجنوبية على حدود الصحراء، بشجر صبّارها وزيتونها المسمّى (أرغان)، وبيوتها الطينية الواطئة، التي قادتني إلى رحلة في التاريخ والجغرافية معاً، فأعادتني طفلاً على أعتاب قريتي من فلسطين، وفي أطراف دمشق الشام.
رأيت في المغرب أشياء واشياء، عرفتُ أناساً كثيرين، تحدثت إليهم وسمعتُ إلى لهجتهم الغريبة المميّزة، أكلت طعامهم المحلّي الشهيّ، أنصتُّ إلى موسيقاهم الأصيلة وغنائهم الشجيّ، قرأت بعض شعرهم ونثرهم، اجتزت الشواطىء من الشمال إلى الجنوب، تفرجت في ساحة «الفناء» علىألعابهم، وأصغيت إلى حكاياتهم ونوادرهم.
ومن عجب فإن هذه التفصيلات التي رأيتها في الواقع، مراراً، تضيع: تضيع المعالم والوجوه والأحاديث والأطعمة والروائح يضيع كل شيء، ولايبقى لي في المنام، حين أحلم بالمغرب، سوى الحلم القديم الذي يعتادني، بين حين وحين، حلم الزورق المتجه غرباً، بين وجوه لاأعرفها، نحو المدينة المغربية المشتهاة، الطافية على الماء والأضواء المتوالدة أطيافاً وأشكالاً لاتنتهي، وقلبي يرتعش في شوارعها الملتوية بحثاً عن الأميرة الجميلة السمراء، الهاربة أو الأسيرة، التي تختصر نساء العالم، يملؤني فرح طاغ أن أطرق باباً فيفتح عنها وأعود من رحلتي، أو حلمي بصحبتها.
وأتساءل، بلهفة أتساءل، أيهما الحقيقة: مدن المغرب الحقيقية التي رأيتها وخبرتها أم مدينة الحلم والخيال؟ لماذا لم يتلّوّن حلمي بما رأيت وخبرتُ؟ ولماذا يبقى، على الرغم من مرور الزمن، عصيّاً على الاختراق والتغيّر؟ إنه يبقى أقوى من أيّ واقع عرفته وشاهدته وخبرته. أفي المسألة سر لاأدريه؟
ومازال يعاودني حلم الزورق، والمدينة المشتهاة، والأميرة الأسيرة ومازال قلبي يرتعش بشوق لاحدود له!.