مازلتُ أذكر تلك الليلة الباريسية بكل تفصيلاتها، ليلة الثالث من كانون الثاني (يناير) 1979. وكانت آخر الليالي التي أقضيها في باريس بعد إقامة طويلة أنهيت خلالها دراستي العليا. ولم يكن لي في تلك الأيام الأخيرة من السنة، والأيام الأولى من السنة الجديدة سوى الطواف على أصدقائي، الذين حاورتهم وأحببتهم، من الفرنسيين وغير الفرنسيين، من الأرجنتين وتشيلي والبيرو وبولونيا والأفارقة والعرب، لأودعهم، وأودع الشوارع والساحات والمقاهي في الأحياء المختلفة. وقد خصصتُ الليلة الأخيرة لصديقي علي القادم من دمشق للدراسة، لأقدم له وجوه باريس التي أحبها، وأتركها في الغد، أمانة بين يديه. التقيته عصراً فطفنا في أزقة الحي اللاتيني، زقاقاً زقاقاً، ومقهىً مقهىً، وقطعنا ذهاباً وإياباً زقاق « موفتار» وتجولنا في حديقة « اللوكسمبرغ» ووقفنا أمام مكتبات «السان ميشيل»، وشربنا القهوة في أحد مقاهي ساحة «السوربون». ثم اخترنا مطعماً فيتنامياً لتناول عشائنا، فتذوقنا اللفائف الملكية المحشوة، وأكلنا الأرز واللحم المطبوخ مع الخضار بالقصبتين الصغيرتين الأنيقتين كأهالي فيتنام، واحتسينا الشاي الأصفر بالياسمين. وانطلقنا نكمل جولتنا الليلية في الأزقة العتيقة وهو يحدثني عن دمشق. ودعوته، أخيراً، لحضور فيلم «أورفيوس الأسود» لمارسيل كامو، والذي تدور أحداثه في «ريو..» عاصمة البرازيل السابقة. واستمتعنا بالقصة البسيطة الشفافة لأورفيوس الجديد من هذا العصر يحب فتاته السمراء «أوريديس»، ويطوفان معاً في شوارع «ريو» أثناء الكرنفال والموسيقى الرائعة والأغاني والثياب الملونة والأقنعة، ورحلته الرمزية المعبرة للبحث عنها واستنقاذها من الموت، والنهاية الجميلة لصبي وطفلة يعزف لها، وترقص له، وقد طلعت عليهما شمس الصباح، لتوحي بقصة جديدة «لأورفيوس واوريديس» جديدين. وقلت لصديقي علي وأنا أودعه في محطة «المترو»: - هذه بعض وجوه باريس الرائعة، وعليك أن تكتشف الوجوه الأخرى التي لاتسرّ، وخاصة الوحدة للمسنين في الطوابق العليا ولبعض الناس حتى الشباب منهم، الذين يتحدثون إلى أنفسهم وهم محاطون بالناس. وتعانقنا، ونزل كل منا في اتجاه: هو نحو الشمال، وأنا نحو الجنوب، وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل. وعند المدخل المباشر إلى الرصيف، حيث يتوقف «المترو» التقيت إفريقياً أسود يخرج، وهو يلتفت وراءه، وسرعان ماأدركتُ أنه قد فرَّ من شتائم مقذعة يطلقها شبان مراهقون يقفون على الرصيف المقابل، ستة أو سبعة شبان طوال القامة، حليقو شعر الرأس، رياضيو الأجسام، سمعتُ أن أمثالهم ينتمون إلى تيار يميني عنصري متطرف، لكنهم ــ بحمد الله ــ قلة قليلة. واستطاع الافريقي أن ينجو بذكاء من مرمى كلامهم وشتائمهم، ووقعتُ أنا. فحين دخلتُ، كان الرصيف خالياً إلا من فتاة شابّة فرنسية متعبة، غارقة في تأملاتها، تجلس على أحد المقاعد الفارغة، وجلستُ إلى مقعد مجاور قريب منها. ورايتُ صديقي علي يصل أيضاً إلى رصيفه، ولكن شكله وملامحه لم تثر هؤلاء الشبان، فهو قريب إلى شكل الفرنسيين وملامحهم، فلم يأبهوا به. وانصبّت شتائهم المقذعة عليّ أنا، على الرصيف المقابل: ـ وأنت أسود، حشرة حقيرة، إرجع من حيث أتيت، لانريدكم بيننا،... أمك... أحسست فجأة أنني وقعتُ، دون أن أدري، في الشرك، وصعب عليّ الهروب أمام عيني صديقي الذي لم يكن يفقه مايقولون، ولا إلى من يتوجهون بكلامهم، على الرصيف المواجه، وأمام عيني الفرنسية الشابة التي أخذت، من بعيد، تحدثني، حتى لاأسمع مايقولون. وكانت تنصحني بألا ارد عليهم. ووضعتُ رأسي بين يديّ، وأخذتُ أحدّق فيهم، دون أن تصدر عني كلمة واحدة، ورحتُ افكر بهذه المصادفة التي وضعتني في هذا الموقف الصعب، في هذه الليلة الأخيرة، إذ مرّت إقامتي ودراستي بسلام، وهاأنذا أواجه هذا المصير بهدوء أعصاب، لاأدري من أين أتاني. ودخل إلى الرصيف رجل جزائري تجاوز قليلاً مرحلة الشباب، قصير القامة، مربوع الجسم، قلت له حين مرّ من أمامي بالعربية: أرجوك.. لاتردّ عليهم. وجلس على المقعد المجاور لي. وبقيتُ أنا أحدق فيهم بدهشة. ولما يئسوا من ردّ فعلي، انتقلوا إلى الجزائري، وصبوا عليه شظايا شتائمهم. فلّما طال عليه الأمر تلفظ بكلمة واحدة، كلمة لاغير: شكراً..! قالها بالفرنسية وكأن القيامة قامت بهذه الكلمة، وكأنهم ينتظرونها، فقفزوا نازلين واحداً واحداً على سكة الحديد، التي كنت أعتقد أنها مكهربة، وأقبلوا نحونا، قاصدين هذا الرجل الجزائري. وتمنيتُ في هذه اللحظة أن يقبل القطار الذي تأخر من هذا الاتجاه أو من الاتجاه الآخر ليفسد عليهم أمرهم. ونهض الجزائري، وأخرج من جيبه بسرعة سكيناً صغيراً جداً، ولم أتحرك أنا من مكاني، ولم أغير جلستي، ورأيت صديقي علي ذاهلاً، على الرصيف المقابل بما يرى. وقلتُ في نفسي: إنه سيدافع عن نفسه، على الأقل، بهذا السكين الصغير! وهو خير من لاشيء، وعليّ ألا أتدخل حتى لاأعطيهم مسوغاً لسحقنا معاً. وانتبهتُ للأحذية المطاطية الرياضية التي ينتعلونها. ورأيت زعيمهم الأطول والأقوى يسبقهم. وقبل أن يصعد إلى الرصيف شبّ شبة قوية، وتناول عنق الجزائري ورماه أرضاً، ولم ينفعه السكين الصغير، ثم صعد وأخذ يدوسه، بقوة يدوس ظهره، بطنه، رأسه. ولم أتحرك من مكاني، ورأيت الشابة الفرنسية وهي تقترب من العملاق، وتشده من كتفه وترجوه أن يكفّ عن ضرب الرجل، فدفعها بيده دون أن يلتفت إليها فسقطت على الأرض. وكان أصحابه قد قفزوا من الأسفل إلى الرصيف وتجمعوا حول الضحيّة، وزعيمهم يمعن في ضربه. ولما أيقنوا أنه أدّبه، ولم يتدخل أحد، سحبوا الضارب بعيداً عن ضحيته، وقفزوا عائدين من حيث أتوا، تاركين ضحيتهم مكوماً على الرصيف، مدمىً في أكثر من موضع. عند ذاك تحركتُ من مكاني، واقتربتُ أنا والفتاة الفرنسية من الرجل، ورفعناه وقدناه بصعوبة نحو الخارج، ولم انتبه إلى صديقي علي، ونحن نغادر الرصيف، لنخرج إلى البرد الشديد الذي لايقاوم. وطلبتُ أنا والفتاة من الجزائري أن نأخذه إلى المستشفى لإسعافه، ولكنه رفض بشدة، فعرفنا أنه لايملك إقامة نظامية، فأوقفنا له «تاكسي» يحمله إلى حيث يعالج جروحه بنفسه. وعدنا، من جديد، نتتظر (المترو) وكان الرصيف المقابل خالياً. وتلك ليلة لم أنسها، كان الاحساس بالذل والخجل والقهر يتآكلني حتى الصباح، وكنت افكر بصديقي علي الذي رأى في يومه الأول وجوهاً مختلفة من باريس، وتنتظره وجوه سيكتشفها شيئاً فشيئاً.
مازلتُ أذكر تلك الليلة الباريسية بكل تفصيلاتها، ليلة الثالث من كانون الثاني (يناير) 1979. وكانت آخر الليالي التي أقضيها في باريس بعد إقامة طويلة أنهيت خلالها دراستي العليا.
ولم يكن لي في تلك الأيام الأخيرة من السنة، والأيام الأولى من السنة الجديدة سوى الطواف على أصدقائي، الذين حاورتهم وأحببتهم، من الفرنسيين وغير الفرنسيين، من الأرجنتين وتشيلي والبيرو وبولونيا والأفارقة والعرب، لأودعهم، وأودع الشوارع والساحات والمقاهي في الأحياء المختلفة. وقد خصصتُ الليلة الأخيرة لصديقي علي القادم من دمشق للدراسة، لأقدم له وجوه باريس التي أحبها، وأتركها في الغد، أمانة بين يديه. التقيته عصراً فطفنا في أزقة الحي اللاتيني، زقاقاً زقاقاً، ومقهىً مقهىً، وقطعنا ذهاباً وإياباً زقاق « موفتار» وتجولنا في حديقة « اللوكسمبرغ» ووقفنا أمام مكتبات «السان ميشيل»، وشربنا القهوة في أحد مقاهي ساحة «السوربون». ثم اخترنا مطعماً فيتنامياً لتناول عشائنا، فتذوقنا اللفائف الملكية المحشوة، وأكلنا الأرز واللحم المطبوخ مع الخضار بالقصبتين الصغيرتين الأنيقتين كأهالي فيتنام، واحتسينا الشاي الأصفر بالياسمين. وانطلقنا نكمل جولتنا الليلية في الأزقة العتيقة وهو يحدثني عن دمشق. ودعوته، أخيراً، لحضور فيلم «أورفيوس الأسود» لمارسيل كامو، والذي تدور أحداثه في «ريو..» عاصمة البرازيل السابقة. واستمتعنا بالقصة البسيطة الشفافة لأورفيوس الجديد من هذا العصر يحب فتاته السمراء «أوريديس»، ويطوفان معاً في شوارع «ريو» أثناء الكرنفال والموسيقى الرائعة والأغاني والثياب الملونة والأقنعة، ورحلته الرمزية المعبرة للبحث عنها واستنقاذها من الموت، والنهاية الجميلة لصبي وطفلة يعزف لها، وترقص له، وقد طلعت عليهما شمس الصباح، لتوحي بقصة جديدة «لأورفيوس واوريديس» جديدين.
وقلت لصديقي علي وأنا أودعه في محطة «المترو»:
- هذه بعض وجوه باريس الرائعة، وعليك أن تكتشف الوجوه الأخرى التي لاتسرّ، وخاصة الوحدة للمسنين في الطوابق العليا ولبعض الناس حتى الشباب منهم، الذين يتحدثون إلى أنفسهم وهم محاطون بالناس.
وتعانقنا، ونزل كل منا في اتجاه: هو نحو الشمال، وأنا نحو الجنوب، وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل.
وعند المدخل المباشر إلى الرصيف، حيث يتوقف «المترو» التقيت إفريقياً أسود يخرج، وهو يلتفت وراءه، وسرعان ماأدركتُ أنه قد فرَّ من شتائم مقذعة يطلقها شبان مراهقون يقفون على الرصيف المقابل، ستة أو سبعة شبان طوال القامة، حليقو شعر الرأس، رياضيو الأجسام، سمعتُ أن أمثالهم ينتمون إلى تيار يميني عنصري متطرف، لكنهم ــ بحمد الله ــ قلة قليلة. واستطاع الافريقي أن ينجو بذكاء من مرمى كلامهم وشتائمهم، ووقعتُ أنا. فحين دخلتُ، كان الرصيف خالياً إلا من فتاة شابّة فرنسية متعبة، غارقة في تأملاتها، تجلس على أحد المقاعد الفارغة، وجلستُ إلى مقعد مجاور قريب منها.
ورايتُ صديقي علي يصل أيضاً إلى رصيفه، ولكن شكله وملامحه لم تثر هؤلاء الشبان، فهو قريب إلى شكل الفرنسيين وملامحهم، فلم يأبهوا به. وانصبّت شتائهم المقذعة عليّ أنا، على الرصيف المقابل:
ـ وأنت أسود، حشرة حقيرة، إرجع من حيث أتيت، لانريدكم بيننا،... أمك...
أحسست فجأة أنني وقعتُ، دون أن أدري، في الشرك، وصعب عليّ الهروب أمام عيني صديقي الذي لم يكن يفقه مايقولون، ولا إلى من يتوجهون بكلامهم، على الرصيف المواجه، وأمام عيني الفرنسية الشابة التي أخذت، من بعيد، تحدثني، حتى لاأسمع مايقولون. وكانت تنصحني بألا ارد عليهم. ووضعتُ رأسي بين يديّ، وأخذتُ أحدّق فيهم، دون أن تصدر عني كلمة واحدة، ورحتُ افكر بهذه المصادفة التي وضعتني في هذا الموقف الصعب، في هذه الليلة الأخيرة، إذ مرّت إقامتي ودراستي بسلام، وهاأنذا أواجه هذا المصير بهدوء أعصاب، لاأدري من أين أتاني. ودخل إلى الرصيف رجل جزائري تجاوز قليلاً مرحلة الشباب، قصير القامة، مربوع الجسم، قلت له حين مرّ من أمامي بالعربية:
أرجوك.. لاتردّ عليهم.
وجلس على المقعد المجاور لي. وبقيتُ أنا أحدق فيهم بدهشة. ولما يئسوا من ردّ فعلي، انتقلوا إلى الجزائري، وصبوا عليه شظايا شتائمهم. فلّما طال عليه الأمر تلفظ بكلمة واحدة، كلمة لاغير: شكراً..! قالها بالفرنسية وكأن القيامة قامت بهذه الكلمة، وكأنهم ينتظرونها، فقفزوا نازلين واحداً واحداً على سكة الحديد، التي كنت أعتقد أنها مكهربة، وأقبلوا نحونا، قاصدين هذا الرجل الجزائري. وتمنيتُ في هذه اللحظة أن يقبل القطار الذي تأخر من هذا الاتجاه أو من الاتجاه الآخر ليفسد عليهم أمرهم. ونهض الجزائري، وأخرج من جيبه بسرعة سكيناً صغيراً جداً، ولم أتحرك أنا من مكاني، ولم أغير جلستي، ورأيت صديقي علي ذاهلاً، على الرصيف المقابل بما يرى. وقلتُ في نفسي: إنه سيدافع عن نفسه، على الأقل، بهذا السكين الصغير! وهو خير من لاشيء، وعليّ ألا أتدخل حتى لاأعطيهم مسوغاً لسحقنا معاً. وانتبهتُ للأحذية المطاطية الرياضية التي ينتعلونها. ورأيت زعيمهم الأطول والأقوى يسبقهم. وقبل أن يصعد إلى الرصيف شبّ شبة قوية، وتناول عنق الجزائري ورماه أرضاً، ولم ينفعه السكين الصغير، ثم صعد وأخذ يدوسه، بقوة يدوس ظهره، بطنه، رأسه. ولم أتحرك من مكاني، ورأيت الشابة الفرنسية وهي تقترب من العملاق، وتشده من كتفه وترجوه أن يكفّ عن ضرب الرجل، فدفعها بيده دون أن يلتفت إليها فسقطت على الأرض. وكان أصحابه قد قفزوا من الأسفل إلى الرصيف وتجمعوا حول الضحيّة، وزعيمهم يمعن في ضربه. ولما أيقنوا أنه أدّبه، ولم يتدخل أحد، سحبوا الضارب بعيداً عن ضحيته، وقفزوا عائدين من حيث أتوا، تاركين ضحيتهم مكوماً على الرصيف، مدمىً في أكثر من موضع. عند ذاك تحركتُ من مكاني، واقتربتُ أنا والفتاة الفرنسية من الرجل، ورفعناه وقدناه بصعوبة نحو الخارج، ولم انتبه إلى صديقي علي، ونحن نغادر الرصيف، لنخرج إلى البرد الشديد الذي لايقاوم. وطلبتُ أنا والفتاة من الجزائري أن نأخذه إلى المستشفى لإسعافه، ولكنه رفض بشدة، فعرفنا أنه لايملك إقامة نظامية، فأوقفنا له «تاكسي» يحمله إلى حيث يعالج جروحه بنفسه. وعدنا، من جديد، نتتظر (المترو) وكان الرصيف المقابل خالياً.
وتلك ليلة لم أنسها، كان الاحساس بالذل والخجل والقهر يتآكلني حتى الصباح، وكنت افكر بصديقي علي الذي رأى في يومه الأول وجوهاً مختلفة من باريس، وتنتظره وجوه سيكتشفها شيئاً فشيئاً.