في تلك السنة التي ذهبت فيها من الزرقاء إلى القدس، كنت قد أنهيت الصف الثاني الثانوي، وعقدت العزم على دراسة السنة الأخيرة في الكلية الإبراهيمية.. "طقت" الفكرة في بالي، بعد أن نجح أحد أولاد صفي (هو الآن أصلع تماماً) في إقناع أمه أولاً وأبيه ثانياً بوسائل منطقية ووسائل عاطفية ووسائل شيطانية.. وعندما أردت أن أقنع أمي، حاولت أن تثنيني عن التفكير المبكر في الغربة (المسافة بين عمان والقدس 90 كم)، وعندما خاطبتها بعبارة: أمي الحنونة"، نطت دمعتان من عينيها، ثم أعلنت من غير مواربة، أنها ستقوم بمحاصرة أبي بالحجج والبراهين، وأنها ستقنعه بأن "الولد" إذا لم يدرس في القدس، قد يفعل بنفسه شيئاً، في محاولة منها للإيحاء له بأنني مزمع على انتحار وشيك، إما بقطع شرايين يدي، أو ازدراد علبة دواء تتضمن أقراصاً لا حصر لها! واستغرق إقناع الوالد، أطال الله بعمره، أسبوعاً، وبعد ذلك أعلنت الوالدة أنها ستسافر معي للاطمئنان على استقرار أحوالي، ثم تعود أدراجها. وكانت رحلة نادرة الحدوث، فقد تبرعت جدتي رحمة الله عليها بسريرها الخاص، (أغلب الظن أنه من مخلفات الجيش البريطاني)، وحملنا فرشة ومخدتين وبابور كاز وقارورة زيت وطنجرة محشي باذنجان بصلصة البندورة وشبشباً ومكنسة قش ومضخة صغيرة لرش مبيد حشري وراديو ترانزستور وثلاث بطانيات وشرشفاً وليفة حمام وصابونة "النعامة" وبعض الأدوات والقرطاسيات المنوعة. وضعنا العفش المذكور في مؤخرة سيارة أجرة أولدزموبيل من طراز 1946، وسافرنا من الزرقاء إلى عمان (25 كم)، ثم تحولنا إلى سفريات البتراء، ونقلنا العفش إلى سيارة ثانية (دودج من طراز 1949)، وعلى مقربة من دير قرنطل، اختل توازن السيارة، وابتعدت عن الإسفلت، وراحت تتخبط في الأرض الترابية دون أن تنقلب. تلت أمي صلوات طويلة، ثم هبطنا إلى الخارج، في محاولة منا للتأكد من أننا ما نزال على ذمة الدنيا، وتبين لنا أن السرير الذي كان قابعاً فوق قفص السيارة قد تناثر في الحقول، وتبين لنا أيضاً أن العجل الأيسر الخلفي للسيارة قد انكسر، وتدحرج مثل صحن طائر في أجواء الفضاء. وبمعونة السائق انتقلنا إلى سيارة أخرى، بعد أن لملمنا أشلاء السرير، ونقلنا العفش إلى مؤخرة السيارة الثانية.. كنا نتصبب عرقاً، وفي حالة توتر عصبي قل نظيرها.. لكن رؤية القدس- قلب الدنيا- وهي تتباهى بزينتها وتاريخها وحضارتها، أدخل إلى النفوس سكينة لا يدانيها شيء إلا الخشوع والتبتل! وبعد مرور عام من الجد والرعونة فوق أرصفة القدس العتيقة وبواباتها المضمخة بالمجد، أتقنت الطبخ مثل أولاد الحركة الكشفية، وتعرفت على بائع الصحف "كركر"، الذي كان يهتف معلناً عن جرائده: - كركر يتكلم وأشكول يتألم! وتعرفت على "ليندون جونسون"، وهو رجل مختل، لكنه يتصرف في مشيته مثل الرؤساء الأميركيين. ودخلت إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومسجد عمر، واختلطت روحي ببوابة مندلبوم وحارة النصارى وخان الزيت والسور القديم وبستان الزيتون وجبل المكبر. ترى، هل يمكن للمرء أن يسلخ ذكريات قلب الدنيا من عقله أو من وجدانه، مهما امتدت به فسحة العمر؟
في تلك السنة التي ذهبت فيها من الزرقاء إلى القدس، كنت قد أنهيت الصف الثاني الثانوي، وعقدت العزم على دراسة السنة الأخيرة في الكلية الإبراهيمية.. "طقت" الفكرة في بالي، بعد أن نجح أحد أولاد صفي (هو الآن أصلع تماماً) في إقناع أمه أولاً وأبيه ثانياً بوسائل منطقية ووسائل عاطفية ووسائل شيطانية.. وعندما أردت أن أقنع أمي، حاولت أن تثنيني عن التفكير المبكر في الغربة (المسافة بين عمان والقدس 90 كم)، وعندما خاطبتها بعبارة: أمي الحنونة"، نطت دمعتان من عينيها، ثم أعلنت من غير مواربة، أنها ستقوم بمحاصرة أبي بالحجج والبراهين، وأنها ستقنعه بأن "الولد" إذا لم يدرس في القدس، قد يفعل بنفسه شيئاً، في محاولة منها للإيحاء له بأنني مزمع على انتحار وشيك، إما بقطع شرايين يدي، أو ازدراد علبة دواء تتضمن أقراصاً لا حصر لها!
واستغرق إقناع الوالد، أطال الله بعمره، أسبوعاً، وبعد ذلك أعلنت الوالدة أنها ستسافر معي للاطمئنان على استقرار أحوالي، ثم تعود أدراجها. وكانت رحلة نادرة الحدوث، فقد تبرعت جدتي رحمة الله عليها بسريرها الخاص، (أغلب الظن أنه من مخلفات الجيش البريطاني)، وحملنا فرشة ومخدتين وبابور كاز وقارورة زيت وطنجرة محشي باذنجان بصلصة البندورة وشبشباً ومكنسة قش ومضخة صغيرة لرش مبيد حشري وراديو ترانزستور وثلاث بطانيات وشرشفاً وليفة حمام وصابونة "النعامة" وبعض الأدوات والقرطاسيات المنوعة. وضعنا العفش المذكور في مؤخرة سيارة أجرة أولدزموبيل من طراز 1946، وسافرنا من الزرقاء إلى عمان (25 كم)، ثم تحولنا إلى سفريات البتراء، ونقلنا العفش إلى سيارة ثانية (دودج من طراز 1949)، وعلى مقربة من دير قرنطل، اختل توازن السيارة، وابتعدت عن الإسفلت، وراحت تتخبط في الأرض الترابية دون أن تنقلب. تلت أمي صلوات طويلة، ثم هبطنا إلى الخارج، في محاولة منا للتأكد من أننا ما نزال على ذمة الدنيا، وتبين لنا أن السرير الذي كان قابعاً فوق قفص السيارة قد تناثر في الحقول، وتبين لنا أيضاً أن العجل الأيسر الخلفي للسيارة قد انكسر، وتدحرج مثل صحن طائر في أجواء الفضاء. وبمعونة السائق انتقلنا إلى سيارة أخرى، بعد أن لملمنا أشلاء السرير، ونقلنا العفش إلى مؤخرة السيارة الثانية.. كنا نتصبب عرقاً، وفي حالة توتر عصبي قل نظيرها.. لكن رؤية القدس- قلب الدنيا- وهي تتباهى بزينتها وتاريخها وحضارتها، أدخل إلى النفوس سكينة لا يدانيها شيء إلا الخشوع والتبتل!
وبعد مرور عام من الجد والرعونة فوق أرصفة القدس العتيقة وبواباتها المضمخة بالمجد، أتقنت الطبخ مثل أولاد الحركة الكشفية، وتعرفت على بائع الصحف "كركر"، الذي كان يهتف معلناً عن جرائده:
- كركر يتكلم وأشكول يتألم!
وتعرفت على "ليندون جونسون"، وهو رجل مختل، لكنه يتصرف في مشيته مثل الرؤساء الأميركيين. ودخلت إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومسجد عمر، واختلطت روحي ببوابة مندلبوم وحارة النصارى وخان الزيت والسور القديم وبستان الزيتون وجبل المكبر.
ترى، هل يمكن للمرء أن يسلخ ذكريات قلب الدنيا من عقله أو من وجدانه، مهما امتدت به فسحة العمر؟