في هذه القرية كثير من الشبه بالبلدان التي صُنفت خارج دول العالم المتحضر. الحياة فيها تبتعد كثيراً عن رفاه هذه الأيام، ومن حسن حظ أهالي القرية عدم وجود مختار فيها، لكن الجانب الأسوأ كان ذلك البائع ذا العينين الزرقاوين، الذي كان أخطر، وعلى الرغم من استغراب أهل القرية له بسبب شعره الأصفر، وعينيه الزرقاوين، فإنه كان دائماً يتباهى بأصله وتفوق عرقه على أهل القرية. القرويون الذين عرفوه عن قرب يرون أنه كان ذكياً، يغلب الخبث على تصرفاته، وهذا ماجرّ القرية فيما بعد إلى وضع تعيس، كان لابد من مجيئه في يوم من الأيام. فالبائع كان يلبي حاجات أهل القرية جميعها، بدءاً من الخيطان، والآلات الزراعية، وصولاً إلى السجائر المستوردة، وبعض أنواع من الحلوى كان يجلبها من المدينة.. كان، كما يدعي، يعطف عليهم: - حرام إنهم فقراء معدمون. لذلك لم يكن يرفض أي طلب يطلبونه، ولم يستعجل أياً منهم في دفع ماعليه من ديون، فهو ينتظر سداد الدين شهراً، موسماً.. ليست مشكلة بالنسبة إليه. أما إدخال ما أسماه "التكنولوجيا" إلى القرية. فقد كان له أثر كبير على القرويين المساكين، فقد أصبح كثيرٌ منهم يمتنعون عن الذهاب إلى حقولهم، ويفضلون الاستماع إلى المذياع... ومع كل مايقدمه لهؤلاء من خدمات، فإنهم لم يبادلوه محبته "المزعومة" فهو بنظرهم المرابي الذي يثرى بالربا، وهذا حرام في عرفهم، لكن ما العمل طالما أنهم مجبرون على الاستدانة؟! وهو برأيهم لص كبير يربح مبالغ كبيرة يسرقها من عرقهم وكدهم اليومي. وجميع أهل القرية يعدونه أسوأ إنسان في العالم، لأنه يرغمهم على بيع أراضيهم لقاء سندات تستوجب التسديد في أوقات محددة، أما إذا لم يكن لدى أحدهم أرض فلدى التاجر وسائل أخرى أفضل وأجمل في رأيه طبعاً، وهذا ما أجبر ثلاث فتيات من القرية على الخدمة في بيته ليلاً ونهاراً سداداً لدين آبائهن، ولا أحد يدري أية حياة تلك التي كان يعيشها وحده مع الصبايا الثلاث في بيت واحد وأكبرهن لم تتجاوز السابعة عشرة. أما أهل القرية فقد كانوا يلوكون الأقاويل عما يحدث في ذلك البيت، وعن حياة لاأحد يعلم كيف يحياها ذلك الداهية. كل هذا لم يحرك أهل القرية، ولم يدفعهم إلاّ إلى الشكوى "وهي لغير الله مذلة" ولم يزدهم ذلك إلا خنوعاً. أما بعد تلك الحادثة، والتي اعتبرها بعض العقلاء "من المصائب التي لا تخلو من فوائد" فقد سارت الأمور في طريق لم يكن حتى أكثر المتفائلين في القرية يتوقعون أن تسير فيها... [إضاءة تفتح تدريجياً على قاعة كبيرة، تركيز على شاب في منتصف العمر يتحدث بجرأة، وبينما تخفت أصوات كل من في القاعة، وتركز الإضاءة على وجه الشاب، يرتفع صوته...]. * خالد: "صغاراً كنا.. نطلع من البحر إلى تلك الجزيرة، ونبني فيها بيوتاً من الأخشاب التي يقذفها البحر إلى الشاطئ، نسقف تلك البيوت بأعواد من القصب نقتلعها من ضفة الساقية شرقي القرية، كانت الجزيرة قريبةً جداً من الشاطئ: ضربة يد، اثنتان، ثلاث، أربع، ونصلها سباحة. كنا نصطاد السمك بطرق بسيطة تعلمناها من أصدقائنا الأكبر سناً، طرق بدائية، لكنها كانت تثمر، وكمية الأسماك التي كنا نصطادها كانت تكفي لوجبة غذاء ماتزال نكهتها في الفم... صغاراً كنا... ولم نكن نعرف الهم والعرق، والكد من أجل اللقمة، ولم نشارك الأهل تعبهم عندما يعودون عند الغروب، أو عند الفجر من الصيد، دليلهم في عودتهم تلك الجزيرة التي أصبحت منارة لمراكب الصيد التائهة. صغاراً كنا..، ولم نكن نفهم أن يعود المركب وقد فقد أحد فرسانه، أو يعود ومعه غرقى يدفنون على التلة القريبة من الجزيرة، لتبقى أجسادهم قريبة من البحر، وأرواحهم تطوف مستقبلة المراكب ومودعة، كان أهل القرية يدفنونهم على التلة ليرتاحوا على موسيقا أمواج البحر وهم يغادرون في رحلتهم الأبدية. صغاراً كنا.. وفجأة: اختفت صورة الجزيرة، أُجبرت المراكب على تغيير مرفئها، سُورت المنطقة كلها، لم نعد نستطيع الذهاب إلى المقبرة ولا إلى الجزيرة فقد أصبحت كما قيل لنا فيما بعد -ملكية خاصة- وماذا يعني ذلك؟! عبارة صعبة الفهم على أولاد في مثل عمرنا. جسر متحرك ربط الجزيرة باليابسة، كان يتأرجح بفعل حركة الموج، عندها كنا نتمنى، ونبتهل من بعيد كي يقع الجسر في البحر لتفصل الجزيرة عن الشاطئ، ثانية. لكن. - قف، ممنوع. كلمات لم نكن نفهمها... - لا تقترب.. عبارة لم تكن في قاموسنا الصبياني. - ابتعد وإلا أطلقنا النار. مفردات وجمل جديدة دخلت إلى قريتنا البحرية الهادئة، وكذلك دخل بعض الناس، والمعدات، والمحركات التي أسهمت ببناء الهرم الكبير "قصر السيد" ثم اختفت، أما العصي الخشبية الجميلة- هكذا كنا نراها- والتي كانت تتدلى من أكتاف الحراس الذين زُرعوا حول الجزيرة، فقد عرفناها فيما بعد، وعلمنا أنها بنادق تطلق النار، وتستخدم للقتل، ولماذا؟! صغاراً كنا.. وفجأة.. أصدر الأهل أوامرهم: - لاتقتربوا من الجزيرة، أبقوا بالقرب من القرية وبيوتها، العبوا عند الجون الشمالي فلا حراس هناك، ابتعدوا عن البحر.. لماذا؟!... صغاراً كنا.. حدث هذا منذ عشر سنوات، ثم .... ابتعدت الجزيرة، تغيرت، في البداية بنيت حجرة واحدة للحراس، ثم حجرة أكبر، وبدأت حركة من نوع آخر، ثم ظهر القصر، ومع كل يوم كان يرتفع أكثر، ويجثم من البعيد على بيوتنا الواطئة، كبر القصر، وكبرت مهمات حراسه وسيده، حتى وصلت الأمور إلى لقمتنا اليومية، وبعدها إلى حياتنا، إنهم لا يريدون لنا أن نعيش". / قطع/ [ضجيج يبدأ مع انتهاء خالد من الكلام، تنتقل الإضاءة إلى السيد وهو يستعد للكلام وسط الضجيج الذي يحاول خنق صوته]. * السيد: "هؤلاء الحقيرون عاشوا أجراء عند أبي -الله يرحمه- وكان يستورد كل المستلزمات ليطور حياتهم ويؤويهم في بيوت حديثة عوضاً عن بيوتهم الطينية القذرة، أجل أبي هو التاجر الوحيد في القرية. مات أبي دون أن يستوفي ديونه منهم، ماذا تريدون مني أن أفعل؟! آه؟! هل أسامحهم بتلك الديون؟! وروح أبي، هل ترتاح إذا فعلت ذلك، لا، أنا لن أفعلها...إني أشمئز من منظرهم، إنهم لا يستحقون أن يعيشوا إلا مثل دوابهم، إنهم قذرون في كل شيء: لباسهم، طعامهم، كلامهم، إنهم لا يخجلون من التفوه بالكلمات القذرة، ويسمّون الأشياء بأسمائها دون حياء، وهذا ماجعلني أهرب منهم ومن قريتهم اللعينة، وأبني بيتاً على هذه الجزيرة بعد عودتي من أو...رو....بة، ونيلي شهادة الدكتور...را...ة، فأنا لا أريد أن أفقد جذوري، وأبتعد عن أرضي. ماذا فعلت؟ آه؟ بنيت بيتاً متواضعاً بسيطاً، طابقاً للخدمة، وآخر لي ولزوجتي وابنتي، نحن عائلة نموذجية، أبي لم يترك من أثر بعده سواي... [همهمات، وشتائم، صادرة عن الجمهور، تلعن ساعة مولده، وساعة رؤيته في القرية الثانية]. * يتابع السيد: زوجتي أجنبية أحضرتها من أو...رو...بة ألا نستحق أن نعيش في بيت متواضع، بيت دراويش يعني، كهذا الذي بنيته بعرق جبيني. آه.؟ لماذا قمت بذلك؟! هل تنكرون على حياتي؟ أريد أن أحسّن وضعي، وأمنع هذه الشرذمة الحقيرة من الهجوم على بيتي. إنه دفاع مشروع عن النفس. وحق الإنسان، كما تعرفون، في الدفاع عن نفسه لا تحده قوانين وأنظمة، أم أنا غلطان؟ آ...؟" [يهمس السيد بأذن أحد الذين يجلسون إلى جانبه، بينما يتواصل الهمس في أرجاء القاعة، خاصة عندما يبدأ الآخر حديثه بلكنة أجنبية واضحة...] * كبير الحراس: "كلفني السيد بالبحث عن مجموعة من الرجال لحماية القصر الكبير الذي كان حلم حياته، كما قال لي. أنا لا أعرف أهل القرية، ولا أعرف السيد إلا بالمصادفة، كنت أعيش في بلدي حياة مرح ولهو، وأعمل في نادٍ ليلي، أسهر حتى الصباح مع زبائن من كافة الأجناس. عندما أتى هذا الرجل إلى الملهى، تحدثنا عن النساء والخمر وعن المقامرة أعجبت به كثيراً، فهو كريم، وعنده الكثير من النقود، ولا يكترث فهو ينفق بلا حساب. يومها قضينا سهرة مع فتاة طويلة، شقراء، الشعر، ذات عينين خضراوين رائعتين. كان يعرف بعض الكلمات التي ساعدتنا على الحوار، لم يكن يتقن لغتنا، وعندما كان يعجز، كان يلجأ إلى الإشارة، وأحياناً إلى لغته بكلمات يشدد على مخارج حروفها، عرفت فيما بعد أنها شتائم، فقد كانت أول كلمات من لغته أتعلمها، ومنه شخصياً. تكررت سهراتنا، وتنوعت الفتيات، بانتظار اكتمال مجموعة العمل. عندما اخترت الرجال حرصت على انتقائهم من النوع الذي شبع من السهر والنساء وعنده الرغبة في تجربة جديدة، وحياة جديدة مع السيد وجزيرته: (الحلم). اجتمع الرجال، وأبحرنا إلى هنا في مركب جديد، وأحضر السيد معه الصبية الشقراء الطويلة ذات العينين الخضراوين الرائعتين، التي هي زوجته. - نعم سيدي.. زوجته الحالية. قدمنا معاً إلى هذا المكان، ومانزال معاً من يومها، كان السيد، ومايزال، الآمر الناهي، يوجهنا في كل مانقوم به من أعمال. وإذا حدث واستخدمنا القوة ضد بعض الناس فهذا يكون من أجل الحفاظ على أمننا وحدودنا المعقولة الآمنة. إنه دفاع مشروع عن النفس، وإلا سيقتلنا هؤلاء الهمج حتماً... أليس كذلك ياسيدي؟ [محاولة للبكاء غير موفقة من قبل كبير الحراس، يربت السيد في أثنائها على كتفي كبير الحراس، ويجلسه بجانبه مواسياً..]. [صوت جاف وقاس يقطع المشهد، يلتفت الجميع: شيخ وقور يرتدي ثياب الصيادين، ويتكئ على عصا، جسده مشدود كالألف]. * شيخ الصيادين: " السماء غاضبة علينا، والأرض لم تعد تكفي، جفّت الينابيع، وابتعدت السماء عن الأرض، وماكان من الحيوانات على وشك النفوق، كنا نذبحه، ونوزع لحمه على أهل القرية جميعاً، كنا نتعاون من أجل البقاء على قيد الحياة، أما البائع فقد كان غاضباً لأن أهل القرية لم يستطيعوا سداد ديونهم المتراكمة، والتي تضخمت بسبب الفوائد الباهظة. ومع ذلك لم يفقد أمله، بل استمر ببيع المواد التموينية لبعض الأهالي استكمالاً لثمن أرضهم.. وباختصار فقد التهم الأرض الزراعية كلها، وأصبحت بحكم قانونه الذي لانستطيع حياله شيئاً، ملكه الخاص. لم يكن أمامنا إلى البحر، الجهة الوحيدة المفتوحة، وهذا ماجعلنا نتجه إلى صيد السمك لنقتات به، أو نبادله ببعض المواد الضرورية لنا من سوق المدينة. أيام كثيرة كانت تمر على بعض الأسر دون طعام، والصيد لم يعد يكفي. كنا نركب البحر في الصباح: مراكب صغيرة تهتدي في طريق عودتها بالجزيرة. كانت منارتنا، وكانت الشيء الوحيد الذي يدلنا على موقع القرية، لم تكن أوضاعنا قد وصلت إلى هذه الدرجة من السوء، كان ذلك منذ سنوات، وقبل أن تغلق الجهة الأخيرة في وجوهنا، وقبل أن يبدأ هذا السيد "ابن التاجر" بإشادة قصره الضخم على الجزيرة، ومن ثم يحيطه بالحراس من كل جانب، حتى من جهة البحر، إذ أن الاهتمام بالأمن والسلامة أصبحت من الضرورات الهامة بالنسبة لسيد الجزيرة، أما في ذلك اليوم اللعين- اللّه يذكره ولا يعيده-...". [استراحة نسمع بعدها كلام زوجة السيد، وبينما تستعد الزوجة، سنستغل الفرصة لإعطائكم لمحة عن الجزيرة في وضعها الحالي.]. قصر مخروطي الشكل، مزخرف بالخشب، منعزل تماماً، يبدو من جميع الجهات بلا تضاريس، ماعدا الجهة الشرقية حيث تطل نافذة ضيقة من الأعلى، يمكن من خلالها مراقبة القرية، والحراس، والجسر الخشبي المتحرك، النافذة لغرفة نوم السيد، وحيداً ينام فيها، بينما تعيش زوجته في غرفة مقابلة.. عندما يغيب السيد، كان يحلو للزوجة أن ترتمي في أحضان الحراس ذوي العضلات المفتولة، كانت تنام مع كل واحد منهم بدوره، لكنها ما إن تسمع حركة ما في القصر، ويمكن أن تكون من إحدى القطط الكثيرة التي تعيش فيه، أو تنتبه إلى أن الأمور قد تفاقمت، حتى ترتد عن النافذة، وتلوم نفسها على هذه الأفكار. عندها تعود إلى غرفتها الباردة. وقططها، وحياتها اليومية البائسة.... هذه هي الجزيرة المنعزلة عن العالم الخارجي تماماً، وهي [لكنة غريبة، قريبة الشبه بلكنة كبير الحراس...] - الزوجة: "مضت سنوات على زواجنا، كنت أعيش حياة مختلفة في بلدي قبل أن أوافق على الزواج منه، والقدوم إلى بلادكم. ظننت في البداية أن الحب هو الذي يربط بيننا، لكن ذلك الوهم تلاشى بعد مجيء طفلتنا الوحيدة إلى الحياة، إذ تركني معها، وصار يغيب في مركبه بحجة الصيد ساعات طويلة وأياماً عديدة، ولم يكن يسمح لي بالسؤال عن غيابه، كانت الوحدة تنهشني، فأنا لا أستطيع مغادرة القصر لأي سبب كان، كانت طفلتي تخفف من آلام وحدتي قبل أن تنتقل إلى مدرسة داخلية في أوروبة، كنت أعيش وحيدة في هذا القصر اللعين، ألا يحق لي أن أختلس النظر من وراء الستائر إلى الحراس وهم يتجولون عند الجسر؟! ألست إنساناً؟! كيف أعيش وحيدة في سجن جميل ومترف يسمونه قصراً؟! أسئلة كثيرة كانت تزدحم في رأسي... أحياناً عندما كنت أرى فلاحة متسخة الثياب، تتجول حرة حول الحقول، كنت أحسدها على حياتها، وأتمنى لو كنت مكانها بفقرها وقذارتها، وثيابها ذات الألوان المتناقضة الباهتة، وكم كنت أتمنى لو يرضى بي أي فلاح لأرتمي بين ذراعيه، ربما أشعر بالأمان! وربما بالحياة؟!... [نظرة غضب من سيد القصر.. تمتمات بينه وبين كبير الحراس]. -...... [لم تسمع الزوجة، ربما لضعف في سمعها، أو ربما كان الضعف في مدى فهمها للغة...]. -آه... ماذا دار في القرية؟! هذا الموضوع، صدقوني،لا أعرف عنه شيئاً، فقد عرفتم وضعي تماماً، لم أكن أعرف شيئاً عن الأحداث، وزوجي لم يكن يخبرني بشيء، ولا أحد يستطيع أن يتحدث إلى...". /قطع/ صياد سمك "أخي... أنا أخبركم بما حدث... [محاولات من بعضهم لإسكاته، لكنه يستمر، يشجعه على ذلك السكوت الذي قوبل به تدخله...]... ياسيدي... والله في تلك الليلة لم أذق الطعام، منعني الحراس من بيع أسماكي التي اصطدتها، ثم رموها في البحر ثانية، وبدؤوا بركلي، وضربي بأعقاب بنادقهم، حتى أصبحت على وشك الموت.. أما عندما مات"الحنش" فلم أعد أرى سوى أعقاب البنادق وهي تضرب رأسه، لم يأبهوا لصراخه العالي، ولا لتوسلاته، وهو الذي لم يتوسل في حياته، عندها تظاهرت بالموت، ريثما يذهب الحراس..". /قطع ... تدخل بسيط/ [الحنش ذو رأس لولبي قريب الشبه برأس الثعبان، كان الجميع يخافون نظرة عينيه المرعبة حينما يتعرض لأية إثارة، ومع ذلك كان له قلب طفل، فهو لا يؤذي أحداً، لكن تلك الرصاصة شوهت رأسه، وبكاه الجميع دون استثناء...]. [يستجمع الصياد قواه، ويتابع رواية الحدث، وكأنه يبعث من موت بعيد]... "عندما بدأوا بإطلاق النار، دون تمييز، بدأت رصاصاتهم العمياء تحصد الناس، والقتلى يتساقطون، دون أية قدرة لأحد على الهرب. قلوبهم قدّت من حجرٍ ياسيدي.. ولم يكن هناك أي سبب يدعوهم إلى ذلك... ولم يخطر ببالنا أنهم قد يفعلون هذا الشيء. ماذنبنا؟! ماذنب الصبايا اللواتي قتلن. /صمت/ [تخترق الصمت عَجوزٌ لم يكن أحد يتوقع رؤيتها، ويقال إن عمرها قد تجاوز المائة...]. * العجوز: "الله وكيلك ياسيدي قتلوا زوجة ابني أمام عيني، وقتها لم أكن قد سمعت بعد بمقتل ابني قرب الجزيرة، فقد كان يصطاد.. جردوها من ثيابها بسكاكينهم، قطعة، قطعة، وهم يطوقونها، ويلهون بتعذيبها، وعندما كنت أقترب كانوا يضربونني بأعقاب بنادقهم فأفقد الوعي لدقائق، أعود بعدها فأرى اللعبة مستمرة. بعد أن انتهوا من تعريتها اغتصبوها جميعاً كالوحوش. لا. الوحوش لا يمكن أن تفعل ذلك، كانوا يقهقهون، ويتكلمون بأصوات مرتفعة لا أفهم منها شيئاً، قبل أن تخمد أنفاس الصبية، وتذهب بلا عودة.. صبية ياعيني.. منذ شهر فقط عندما تزوجها ابني عاد الربيع إلى حياتي، عادت الحياة إلى صدري اليابس وأنا أراهما معاً كل يوم، كانا يملآن قلبي وعيني بالسعادة، وكنت أرى الحياة في كل يوم أجمل من الأمس، أما الآن فقد أغلقت عينيّ عليهما لأخبئهما، لم أعد أرى شيئاً إلا هاتين الزهرتين، أنا لا أرى أياً منكم..". [تتوقف العجوز منعاً لسقوط دمعة من عينيها اللتين فقدتا النظر. تحرك رأسها يميناً ويساراً، محاولة إبعاد تلك الصورة القاسية كي تستمر بحديثها...]. "عشت دهري ولم أتلق إهانة من أحد، لماذا كل هذا العذاب دفعة واحدة؟! ما الذي حدث للدنيا ياناس؟! ألم يكفه أنه يعيش في قصر كبير بناه من سرقة أهل القرية، بينما نعيش مع دوابنا في كوخ واحد؟؟ ماذا يريد أكثر من ذلك؟! أما من عدل؟! أما من عدل؟!... [تتوقف ثانية تحاشياً للبكاء...] ثقتي بالله كبيرة... ثقتي بالله كبيرة"... / قطع/ [باسم. طفل في السادسة من عمره]. - ماما.. أنا جائع.. أين أنتِ؟! / قطع/ [همهمات.... أصوات متنافرة المعاني.. ضربة مطرقة... ذهول كبير.. ضجة وسط القاعة.. تزداد الضجة... يقطعها خالد]. * خالد: "ماحدث شيء طبيعي ياسيدي.. صمتكم لن يعيد إلينا الذين قُتلوا، ولن يعيد إلينا ماسُرق منا.. نحن لا نتهم أحداً.. ماذا تريدون منا أكثر من ذلك؟ آه..." [صوت غليظ يعلن انتهاء الكلام.. صمت كامل.. تُلم الإضاءة تدريجياً عن القاعة... ظلام]... * الجذر: ضوء بحجم رأس الدبوس يكبر مع اقترابه من مجال الرؤية، وشيئاً فشيئاً نراه مشعلاً وسط كوخ كبير، يتراقص لهيبه ببطء، وينشر بشكل تدريجي ضوءاً شاحباً لا يلبث أن يتوضح أكثر. - ألم أقل لكم لن ينصفنا أحد؟.. بدأ خالد الكلام وسط جموع الصيادين.. وتابع: - ماحدث بالأمس سيحدث كل يوم إذا لم نتصرف كرجل واحد، ونتخلص من السيد وحراسه. قلنا: "يا أبا أحمد: لا تبع السمك للسيد." لم يسمع أبو أحمد الكلام. "ياحنش: عناد رأسك لن يفيد"... لا يريد الحنش، لا، ويتحداهم وحيداً دون سلاح. "يا أبا مروان: هؤلاء الناس لا يؤتمنون". لا يصدقنا الرجل. / أبو مروان يبكي بصوت مرتفع/ يتابع خالد: - من منكم يعرف أين ذهبوا بابنته؟ لقد كانت من أجمل بنات القرية. وباسم، أين اختفت أمه، والذين قُتلوا أيذهب دمهم هدراً؟! / صمت طويل/ حشد الصيادين يكبر، يدخل شيخ الصيادين وقد كبر كثيراً خلال أيام قليلة، لغط، حديث من كل جانب.. - اهدؤوا يا أبنائي، يجب أن نعالج الأمور بروية. قالها الشيخ وهو يتوسط الخيمة الكبيرة. - لم تعد الروية تنفع ياجدي... قاطعه خالد، وتابع: مايحدث في هذه القرية أكثر فظاعةً من أن يتحمله إنسان، وهانحن لا أحد يكترث بنا، ماذا تريدنا أن نفعل؟! قال الشيخ: - أنا معكم يابني، لكن يجب أن نتصرف دون انفعال، فالأمور لا تحل إلا بالروية. - والذين ماتوا ياعمي، ماذا نفعل من أجلهم؟! قال أبو مروان بحشرجة. - وأمي ياجدي؟!. سأل باسم. - أرجوكم اهدؤوا جميعاً كي نتصرف بشكل سليم، وإلا سارت الأمور عكس مانريد... باسم، خالد، شيخ الصيادين، عيون التقت بتساؤلات كثيرة، لكن عينا خالد، وعندما لمحت الحزن الدفين في عيني باسم، تحولتا إلى جمرتين قاسيتين ملتهبتين... النار في المشعل المثبت على عمود الخيمة كانت تتراقص وتتأرجح بين الانطفاء والتوهج، صمت قصير لف الجميع وهم ينتظرون حدثاً لا يعرفونه على وجه التحديد. تطلع خالد ثانية في عيني باسم، اقترب من المشعل، صار الصمت أثقل، تطلع خالد إلى عيون المحيطين به وهو ينتزع المشعل من مكانه، بادله الجميع نظرة تحدٍ يتوهج فيها ألف مشعل، أحضر المشعل، اقترب من شيخ الصيادين: - باركه ياجدي.. قال خالد.. رفع الشيخ يده بقدسية. تناول من جيبه منديلاً مطرزاً. لفه أشعله من شعلة خالد، رفعه إلى الأعلى. عيناه تدعوان الجميع إلى الاقتراب. اقتربوا منه، وكل يحمل مشعلاً، ثمة بريق أضاء الخيمة وكأنه البرق، رغم أن السماء صاحية، والقمر يلعب مع النجوم فوق القرية، تحرك الجميع، كل واحد يريد أن يصل أولاً، كل منهم يريد أن يتلقى الرصاصة الأولى من حراس السيد،' وجّه خالدٌ بعض الشبان إلى قطع أشجارٍ حورٍ طويلة لتساعدهم في الوصول إلى الجزيرة. إضاءة المشاعل انعكست على القصر من مسافة بعيدة، التفت في داخله إلى الجموع الزاحفة برعب، استمر الزحف، أمسك باسم برداء خالد دون أن يراه أحد، والشيخ في وسط الحشد يكرر: - دعونا نتصرف بروية يا أبنائي... الحشد كان يفهم هذه العبارة، وكان ينطلق بسرعة وجنون أكبر باتجاه القصر ويكبر الحشد، وتزداد خطوات -شيخ الصيادين- اتساعاً، بينما يده تشد بقوة على قبضة خالد، والناس من خلفهم يتابعون الزحف...
في هذه القرية كثير من الشبه بالبلدان التي صُنفت خارج دول العالم المتحضر. الحياة فيها تبتعد كثيراً عن رفاه هذه الأيام، ومن حسن حظ أهالي القرية عدم وجود مختار فيها، لكن الجانب الأسوأ كان ذلك البائع ذا العينين الزرقاوين، الذي كان أخطر، وعلى الرغم من استغراب أهل القرية له بسبب شعره الأصفر، وعينيه الزرقاوين، فإنه كان دائماً يتباهى بأصله وتفوق عرقه على أهل القرية.
القرويون الذين عرفوه عن قرب يرون أنه كان ذكياً، يغلب الخبث على تصرفاته، وهذا ماجرّ القرية فيما بعد إلى وضع تعيس، كان لابد من مجيئه في يوم من الأيام. فالبائع كان يلبي حاجات أهل القرية جميعها، بدءاً من الخيطان، والآلات الزراعية، وصولاً إلى السجائر المستوردة، وبعض أنواع من الحلوى كان يجلبها من المدينة.. كان، كما يدعي، يعطف عليهم:
- حرام إنهم فقراء معدمون.
لذلك لم يكن يرفض أي طلب يطلبونه، ولم يستعجل أياً منهم في دفع ماعليه من ديون، فهو ينتظر سداد الدين شهراً، موسماً.. ليست مشكلة بالنسبة إليه.
أما إدخال ما أسماه "التكنولوجيا" إلى القرية. فقد كان له أثر كبير على القرويين المساكين، فقد أصبح كثيرٌ منهم يمتنعون عن الذهاب إلى حقولهم، ويفضلون الاستماع إلى المذياع...
ومع كل مايقدمه لهؤلاء من خدمات، فإنهم لم يبادلوه محبته "المزعومة" فهو بنظرهم المرابي الذي يثرى بالربا، وهذا حرام في عرفهم، لكن ما العمل طالما أنهم مجبرون على الاستدانة؟! وهو برأيهم لص كبير يربح مبالغ كبيرة يسرقها من عرقهم وكدهم اليومي. وجميع أهل القرية يعدونه أسوأ إنسان في العالم، لأنه يرغمهم على بيع أراضيهم لقاء سندات تستوجب التسديد في أوقات محددة، أما إذا لم يكن لدى أحدهم أرض فلدى التاجر وسائل أخرى أفضل وأجمل في رأيه طبعاً، وهذا ما أجبر ثلاث فتيات من القرية على الخدمة في بيته ليلاً ونهاراً سداداً لدين آبائهن، ولا أحد يدري أية حياة تلك التي كان يعيشها وحده مع الصبايا الثلاث في بيت واحد وأكبرهن لم تتجاوز السابعة عشرة. أما أهل القرية فقد كانوا يلوكون الأقاويل عما يحدث في ذلك البيت، وعن حياة لاأحد يعلم كيف يحياها ذلك الداهية.
كل هذا لم يحرك أهل القرية، ولم يدفعهم إلاّ إلى الشكوى "وهي لغير الله مذلة" ولم يزدهم ذلك إلا خنوعاً. أما بعد تلك الحادثة، والتي اعتبرها بعض العقلاء "من المصائب التي لا تخلو من فوائد" فقد سارت الأمور في طريق لم يكن حتى أكثر المتفائلين في القرية يتوقعون أن تسير فيها...
[إضاءة تفتح تدريجياً على قاعة كبيرة، تركيز على شاب في منتصف العمر يتحدث بجرأة، وبينما تخفت أصوات كل من في القاعة، وتركز الإضاءة على وجه الشاب، يرتفع صوته...].
* خالد:
"صغاراً كنا.. نطلع من البحر إلى تلك الجزيرة، ونبني فيها بيوتاً من الأخشاب التي يقذفها البحر إلى الشاطئ، نسقف تلك البيوت بأعواد من القصب نقتلعها من ضفة الساقية شرقي القرية، كانت الجزيرة قريبةً جداً من الشاطئ:
ضربة يد، اثنتان، ثلاث، أربع، ونصلها سباحة.
كنا نصطاد السمك بطرق بسيطة تعلمناها من أصدقائنا الأكبر سناً، طرق بدائية، لكنها كانت تثمر، وكمية الأسماك التي كنا نصطادها كانت تكفي لوجبة غذاء ماتزال نكهتها في الفم...
صغاراً كنا... ولم نكن نعرف الهم والعرق، والكد من أجل اللقمة، ولم نشارك الأهل تعبهم عندما يعودون عند الغروب، أو عند الفجر من الصيد، دليلهم في عودتهم تلك الجزيرة التي أصبحت منارة لمراكب الصيد التائهة.
صغاراً كنا..، ولم نكن نفهم أن يعود المركب وقد فقد أحد فرسانه، أو يعود ومعه غرقى يدفنون على التلة القريبة من الجزيرة، لتبقى أجسادهم قريبة من البحر، وأرواحهم تطوف مستقبلة المراكب ومودعة، كان أهل القرية يدفنونهم على التلة ليرتاحوا على موسيقا أمواج البحر وهم يغادرون في رحلتهم الأبدية.
صغاراً كنا.. وفجأة: اختفت صورة الجزيرة، أُجبرت المراكب على تغيير مرفئها، سُورت المنطقة كلها، لم نعد نستطيع الذهاب إلى المقبرة ولا إلى الجزيرة فقد أصبحت كما قيل لنا فيما بعد -ملكية خاصة- وماذا يعني ذلك؟! عبارة صعبة الفهم على أولاد في مثل عمرنا. جسر متحرك ربط الجزيرة باليابسة، كان يتأرجح بفعل حركة الموج، عندها كنا نتمنى، ونبتهل من بعيد كي يقع الجسر في البحر لتفصل الجزيرة عن الشاطئ، ثانية. لكن.
- قف، ممنوع.
كلمات لم نكن نفهمها...
- لا تقترب..
عبارة لم تكن في قاموسنا الصبياني.
- ابتعد وإلا أطلقنا النار.
مفردات وجمل جديدة دخلت إلى قريتنا البحرية الهادئة، وكذلك دخل بعض الناس، والمعدات، والمحركات التي أسهمت ببناء الهرم الكبير "قصر السيد" ثم اختفت، أما العصي الخشبية الجميلة- هكذا كنا نراها- والتي كانت تتدلى من أكتاف الحراس الذين زُرعوا حول الجزيرة، فقد عرفناها فيما بعد، وعلمنا أنها بنادق تطلق النار، وتستخدم للقتل، ولماذا؟!
صغاراً كنا.. وفجأة.. أصدر الأهل أوامرهم:
- لاتقتربوا من الجزيرة، أبقوا بالقرب من القرية وبيوتها، العبوا عند الجون الشمالي فلا حراس هناك، ابتعدوا عن البحر.. لماذا؟!...
صغاراً كنا.. حدث هذا منذ عشر سنوات، ثم .... ابتعدت الجزيرة، تغيرت، في البداية بنيت حجرة واحدة للحراس، ثم حجرة أكبر، وبدأت حركة من نوع آخر، ثم ظهر القصر، ومع كل يوم كان يرتفع أكثر، ويجثم من البعيد على بيوتنا الواطئة، كبر القصر، وكبرت مهمات حراسه وسيده، حتى وصلت الأمور إلى لقمتنا اليومية، وبعدها إلى حياتنا، إنهم لا يريدون لنا أن نعيش".
/ قطع/
[ضجيج يبدأ مع انتهاء خالد من الكلام، تنتقل الإضاءة إلى السيد وهو يستعد للكلام وسط الضجيج الذي يحاول خنق صوته].
* السيد:
"هؤلاء الحقيرون عاشوا أجراء عند أبي -الله يرحمه- وكان يستورد كل المستلزمات ليطور حياتهم ويؤويهم في بيوت حديثة عوضاً عن بيوتهم الطينية القذرة، أجل أبي هو التاجر الوحيد في القرية. مات أبي دون أن يستوفي ديونه منهم، ماذا تريدون مني أن أفعل؟! آه؟! هل أسامحهم بتلك الديون؟! وروح أبي، هل ترتاح إذا فعلت ذلك، لا، أنا لن أفعلها...إني أشمئز من منظرهم، إنهم لا يستحقون أن يعيشوا إلا مثل دوابهم، إنهم قذرون في كل شيء: لباسهم، طعامهم، كلامهم، إنهم لا يخجلون من التفوه بالكلمات القذرة، ويسمّون الأشياء بأسمائها دون حياء، وهذا ماجعلني أهرب منهم ومن قريتهم اللعينة، وأبني بيتاً على هذه الجزيرة بعد عودتي من أو...رو....بة، ونيلي شهادة الدكتور...را...ة، فأنا لا أريد أن أفقد جذوري، وأبتعد عن أرضي.
ماذا فعلت؟ آه؟ بنيت بيتاً متواضعاً بسيطاً، طابقاً للخدمة، وآخر لي ولزوجتي وابنتي، نحن عائلة نموذجية، أبي لم يترك من أثر بعده سواي...
[همهمات، وشتائم، صادرة عن الجمهور، تلعن ساعة مولده، وساعة رؤيته في القرية الثانية].
* يتابع السيد:
زوجتي أجنبية أحضرتها من أو...رو...بة ألا نستحق أن نعيش في بيت متواضع، بيت دراويش يعني، كهذا الذي بنيته بعرق جبيني.
آه.؟ لماذا قمت بذلك؟!
هل تنكرون على حياتي؟ أريد أن أحسّن وضعي، وأمنع هذه الشرذمة الحقيرة من الهجوم على بيتي. إنه دفاع مشروع عن النفس. وحق الإنسان، كما تعرفون، في الدفاع عن نفسه لا تحده قوانين وأنظمة، أم أنا غلطان؟ آ...؟"
[يهمس السيد بأذن أحد الذين يجلسون إلى جانبه، بينما يتواصل الهمس في أرجاء القاعة، خاصة عندما يبدأ الآخر حديثه بلكنة أجنبية واضحة...]
* كبير الحراس:
"كلفني السيد بالبحث عن مجموعة من الرجال لحماية القصر الكبير الذي كان حلم حياته، كما قال لي. أنا لا أعرف أهل القرية، ولا أعرف السيد إلا بالمصادفة، كنت أعيش في بلدي حياة مرح ولهو، وأعمل في نادٍ ليلي، أسهر حتى الصباح مع زبائن من كافة الأجناس.
عندما أتى هذا الرجل إلى الملهى، تحدثنا عن النساء والخمر وعن المقامرة أعجبت به كثيراً، فهو كريم، وعنده الكثير من النقود، ولا يكترث فهو ينفق بلا حساب. يومها قضينا سهرة مع فتاة طويلة، شقراء، الشعر، ذات عينين خضراوين رائعتين. كان يعرف بعض الكلمات التي ساعدتنا على الحوار، لم يكن يتقن لغتنا، وعندما كان يعجز، كان يلجأ إلى الإشارة، وأحياناً إلى لغته بكلمات يشدد على مخارج حروفها، عرفت فيما بعد أنها شتائم، فقد كانت أول كلمات من لغته أتعلمها، ومنه شخصياً. تكررت سهراتنا، وتنوعت الفتيات، بانتظار اكتمال مجموعة العمل. عندما اخترت الرجال حرصت على انتقائهم من النوع الذي شبع من السهر والنساء وعنده الرغبة في تجربة جديدة، وحياة جديدة مع السيد وجزيرته: (الحلم). اجتمع الرجال، وأبحرنا إلى هنا في مركب جديد، وأحضر السيد معه الصبية الشقراء الطويلة ذات العينين الخضراوين الرائعتين، التي هي زوجته.
- نعم سيدي.. زوجته الحالية.
قدمنا معاً إلى هذا المكان، ومانزال معاً من يومها، كان السيد، ومايزال، الآمر الناهي، يوجهنا في كل مانقوم به من أعمال. وإذا حدث واستخدمنا القوة ضد بعض الناس فهذا يكون من أجل الحفاظ على أمننا وحدودنا المعقولة الآمنة. إنه دفاع مشروع عن النفس، وإلا سيقتلنا هؤلاء الهمج حتماً... أليس كذلك ياسيدي؟
[محاولة للبكاء غير موفقة من قبل كبير الحراس، يربت السيد في أثنائها على كتفي كبير الحراس، ويجلسه بجانبه مواسياً..].
[صوت جاف وقاس يقطع المشهد، يلتفت الجميع: شيخ وقور يرتدي ثياب الصيادين، ويتكئ على عصا، جسده مشدود كالألف].
* شيخ الصيادين:
" السماء غاضبة علينا، والأرض لم تعد تكفي، جفّت الينابيع، وابتعدت السماء عن الأرض، وماكان من الحيوانات على وشك النفوق، كنا نذبحه، ونوزع لحمه على أهل القرية جميعاً، كنا نتعاون من أجل البقاء على قيد الحياة، أما البائع فقد كان غاضباً لأن أهل القرية لم يستطيعوا سداد ديونهم المتراكمة، والتي تضخمت بسبب الفوائد الباهظة. ومع ذلك لم يفقد أمله، بل استمر ببيع المواد التموينية لبعض الأهالي استكمالاً لثمن أرضهم.. وباختصار فقد التهم الأرض الزراعية كلها، وأصبحت بحكم قانونه الذي لانستطيع حياله شيئاً، ملكه الخاص.
لم يكن أمامنا إلى البحر، الجهة الوحيدة المفتوحة، وهذا ماجعلنا نتجه إلى صيد السمك لنقتات به، أو نبادله ببعض المواد الضرورية لنا من سوق المدينة. أيام كثيرة كانت تمر على بعض الأسر دون طعام، والصيد لم يعد يكفي. كنا نركب البحر في الصباح: مراكب صغيرة تهتدي في طريق عودتها بالجزيرة. كانت منارتنا، وكانت الشيء الوحيد الذي يدلنا على موقع القرية، لم تكن أوضاعنا قد وصلت إلى هذه الدرجة من السوء، كان ذلك منذ سنوات، وقبل أن تغلق الجهة الأخيرة في وجوهنا، وقبل أن يبدأ هذا السيد "ابن التاجر" بإشادة قصره الضخم على الجزيرة، ومن ثم يحيطه بالحراس من كل جانب، حتى من جهة البحر، إذ أن الاهتمام بالأمن والسلامة أصبحت من الضرورات الهامة بالنسبة لسيد الجزيرة، أما في ذلك اليوم اللعين- اللّه يذكره ولا يعيده-...".
[استراحة نسمع بعدها كلام زوجة السيد، وبينما تستعد الزوجة، سنستغل الفرصة لإعطائكم لمحة عن الجزيرة في وضعها الحالي.].
قصر مخروطي الشكل، مزخرف بالخشب، منعزل تماماً، يبدو من جميع الجهات بلا تضاريس، ماعدا الجهة الشرقية حيث تطل نافذة ضيقة من الأعلى، يمكن من خلالها مراقبة القرية، والحراس، والجسر الخشبي المتحرك، النافذة لغرفة نوم السيد، وحيداً ينام فيها، بينما تعيش زوجته في غرفة مقابلة.. عندما يغيب السيد، كان يحلو للزوجة أن ترتمي في أحضان الحراس ذوي العضلات المفتولة، كانت تنام مع كل واحد منهم بدوره، لكنها ما إن تسمع حركة ما في القصر، ويمكن أن تكون من إحدى القطط الكثيرة التي تعيش فيه، أو تنتبه إلى أن الأمور قد تفاقمت، حتى ترتد عن النافذة، وتلوم نفسها على هذه الأفكار. عندها تعود إلى غرفتها الباردة. وقططها، وحياتها اليومية البائسة.... هذه هي الجزيرة المنعزلة عن العالم الخارجي تماماً، وهي
[لكنة غريبة، قريبة الشبه بلكنة كبير الحراس...]
- الزوجة:
"مضت سنوات على زواجنا، كنت أعيش حياة مختلفة في بلدي قبل أن أوافق على الزواج منه، والقدوم إلى بلادكم. ظننت في البداية أن الحب هو الذي يربط بيننا، لكن ذلك الوهم تلاشى بعد مجيء طفلتنا الوحيدة إلى الحياة، إذ تركني معها، وصار يغيب في مركبه بحجة الصيد ساعات طويلة وأياماً عديدة، ولم يكن يسمح لي بالسؤال عن غيابه، كانت الوحدة تنهشني، فأنا لا أستطيع مغادرة القصر لأي سبب كان، كانت طفلتي تخفف من آلام وحدتي قبل أن تنتقل إلى مدرسة داخلية في أوروبة، كنت أعيش وحيدة في هذا القصر اللعين، ألا يحق لي أن أختلس النظر من وراء الستائر إلى الحراس وهم يتجولون عند الجسر؟! ألست إنساناً؟! كيف أعيش وحيدة في سجن جميل ومترف يسمونه قصراً؟! أسئلة كثيرة كانت تزدحم في رأسي...
أحياناً عندما كنت أرى فلاحة متسخة الثياب، تتجول حرة حول الحقول، كنت أحسدها على حياتها، وأتمنى لو كنت مكانها بفقرها وقذارتها، وثيابها ذات الألوان المتناقضة الباهتة، وكم كنت أتمنى لو يرضى بي أي فلاح لأرتمي بين ذراعيه، ربما أشعر بالأمان! وربما بالحياة؟!...
[نظرة غضب من سيد القصر.. تمتمات بينه وبين كبير الحراس].
-......
[لم تسمع الزوجة، ربما لضعف في سمعها، أو ربما كان الضعف في مدى فهمها للغة...].
-آه... ماذا دار في القرية؟! هذا الموضوع، صدقوني،لا أعرف عنه شيئاً، فقد عرفتم وضعي تماماً،
لم أكن أعرف شيئاً عن الأحداث، وزوجي لم يكن يخبرني بشيء، ولا أحد يستطيع أن يتحدث إلى...".
/قطع/
صياد سمك
"أخي... أنا أخبركم بما حدث...
[محاولات من بعضهم لإسكاته، لكنه يستمر، يشجعه على ذلك السكوت الذي قوبل به تدخله...]...
ياسيدي... والله في تلك الليلة لم أذق الطعام، منعني الحراس من بيع أسماكي التي اصطدتها، ثم رموها في البحر ثانية، وبدؤوا بركلي، وضربي بأعقاب بنادقهم، حتى أصبحت على وشك الموت.. أما عندما مات"الحنش" فلم أعد أرى سوى أعقاب البنادق وهي تضرب رأسه، لم يأبهوا لصراخه العالي، ولا لتوسلاته، وهو الذي لم يتوسل في حياته، عندها تظاهرت بالموت، ريثما يذهب الحراس..".
/قطع ... تدخل بسيط/
[الحنش ذو رأس لولبي قريب الشبه برأس الثعبان، كان الجميع يخافون نظرة عينيه المرعبة حينما يتعرض لأية إثارة، ومع ذلك كان له قلب طفل، فهو لا يؤذي أحداً، لكن تلك الرصاصة شوهت رأسه، وبكاه الجميع دون استثناء...].
[يستجمع الصياد قواه، ويتابع رواية الحدث، وكأنه يبعث من موت بعيد]...
"عندما بدأوا بإطلاق النار، دون تمييز، بدأت رصاصاتهم العمياء تحصد الناس، والقتلى يتساقطون، دون أية قدرة لأحد على الهرب.
قلوبهم قدّت من حجرٍ ياسيدي.. ولم يكن هناك أي سبب يدعوهم إلى ذلك... ولم يخطر ببالنا أنهم قد يفعلون هذا الشيء. ماذنبنا؟! ماذنب الصبايا اللواتي قتلن.
/صمت/
[تخترق الصمت عَجوزٌ لم يكن أحد يتوقع رؤيتها، ويقال إن عمرها قد تجاوز المائة...].
* العجوز:
"الله وكيلك ياسيدي قتلوا زوجة ابني أمام عيني، وقتها لم أكن قد سمعت بعد بمقتل ابني قرب الجزيرة، فقد كان يصطاد.. جردوها من ثيابها بسكاكينهم، قطعة، قطعة، وهم يطوقونها، ويلهون بتعذيبها، وعندما كنت أقترب كانوا يضربونني بأعقاب بنادقهم فأفقد الوعي لدقائق، أعود بعدها فأرى اللعبة مستمرة. بعد أن انتهوا من تعريتها اغتصبوها جميعاً كالوحوش. لا. الوحوش لا يمكن أن تفعل ذلك، كانوا يقهقهون، ويتكلمون بأصوات مرتفعة لا أفهم منها شيئاً، قبل أن تخمد أنفاس الصبية، وتذهب بلا عودة.. صبية ياعيني.. منذ شهر فقط عندما تزوجها ابني عاد الربيع إلى حياتي، عادت الحياة إلى صدري اليابس وأنا أراهما معاً كل يوم، كانا يملآن قلبي وعيني بالسعادة، وكنت أرى الحياة في كل يوم أجمل من الأمس، أما الآن فقد أغلقت عينيّ عليهما لأخبئهما، لم أعد أرى شيئاً إلا هاتين الزهرتين، أنا لا أرى أياً منكم..".
[تتوقف العجوز منعاً لسقوط دمعة من عينيها اللتين فقدتا النظر. تحرك رأسها يميناً ويساراً، محاولة إبعاد تلك الصورة القاسية كي تستمر بحديثها...].
"عشت دهري ولم أتلق إهانة من أحد، لماذا كل هذا العذاب دفعة واحدة؟! ما الذي حدث للدنيا ياناس؟! ألم يكفه أنه يعيش في قصر كبير بناه من سرقة أهل القرية، بينما نعيش مع دوابنا في كوخ واحد؟؟ ماذا يريد أكثر من ذلك؟! أما من عدل؟! أما من عدل؟!...
[تتوقف ثانية تحاشياً للبكاء...]
ثقتي بالله كبيرة... ثقتي بالله كبيرة"...
[باسم. طفل في السادسة من عمره].
- ماما.. أنا جائع.. أين أنتِ؟!
[همهمات.... أصوات متنافرة المعاني.. ضربة مطرقة... ذهول كبير.. ضجة وسط القاعة.. تزداد الضجة... يقطعها خالد].
"ماحدث شيء طبيعي ياسيدي.. صمتكم لن يعيد إلينا الذين قُتلوا، ولن يعيد إلينا ماسُرق منا.. نحن لا نتهم أحداً.. ماذا تريدون منا أكثر من ذلك؟ آه..."
[صوت غليظ يعلن انتهاء الكلام.. صمت كامل.. تُلم الإضاءة تدريجياً عن القاعة... ظلام]...
* الجذر:
ضوء بحجم رأس الدبوس يكبر مع اقترابه من مجال الرؤية، وشيئاً فشيئاً نراه مشعلاً وسط كوخ كبير، يتراقص لهيبه ببطء، وينشر بشكل تدريجي ضوءاً شاحباً لا يلبث أن يتوضح أكثر.
- ألم أقل لكم لن ينصفنا أحد؟..
بدأ خالد الكلام وسط جموع الصيادين.. وتابع:
- ماحدث بالأمس سيحدث كل يوم إذا لم نتصرف كرجل واحد، ونتخلص من السيد وحراسه.
قلنا: "يا أبا أحمد: لا تبع السمك للسيد." لم يسمع أبو أحمد الكلام.
"ياحنش: عناد رأسك لن يفيد"... لا يريد الحنش، لا، ويتحداهم وحيداً دون سلاح.
"يا أبا مروان: هؤلاء الناس لا يؤتمنون". لا يصدقنا الرجل.
/ أبو مروان يبكي بصوت مرتفع/
يتابع خالد:
- من منكم يعرف أين ذهبوا بابنته؟ لقد كانت من أجمل بنات القرية. وباسم، أين اختفت أمه، والذين قُتلوا أيذهب دمهم هدراً؟!
/ صمت طويل/
حشد الصيادين يكبر، يدخل شيخ الصيادين وقد كبر كثيراً خلال أيام قليلة، لغط، حديث من كل جانب..
- اهدؤوا يا أبنائي، يجب أن نعالج الأمور بروية.
قالها الشيخ وهو يتوسط الخيمة الكبيرة.
- لم تعد الروية تنفع ياجدي...
قاطعه خالد، وتابع: مايحدث في هذه القرية أكثر فظاعةً من أن يتحمله إنسان، وهانحن لا أحد يكترث بنا، ماذا تريدنا أن نفعل؟!
قال الشيخ:
- أنا معكم يابني، لكن يجب أن نتصرف دون انفعال، فالأمور لا تحل إلا بالروية.
- والذين ماتوا ياعمي، ماذا نفعل من أجلهم؟! قال أبو مروان بحشرجة.
- وأمي ياجدي؟!. سأل باسم.
- أرجوكم اهدؤوا جميعاً كي نتصرف بشكل سليم، وإلا سارت الأمور عكس مانريد...
باسم، خالد، شيخ الصيادين، عيون التقت بتساؤلات كثيرة، لكن عينا خالد، وعندما لمحت الحزن الدفين في عيني باسم، تحولتا إلى جمرتين قاسيتين ملتهبتين...
النار في المشعل المثبت على عمود الخيمة كانت تتراقص وتتأرجح بين الانطفاء والتوهج، صمت قصير لف الجميع وهم ينتظرون حدثاً لا يعرفونه على وجه التحديد. تطلع خالد ثانية في عيني باسم، اقترب من المشعل، صار الصمت أثقل، تطلع خالد إلى عيون المحيطين به وهو ينتزع المشعل من مكانه، بادله الجميع نظرة تحدٍ يتوهج فيها ألف مشعل، أحضر المشعل، اقترب من شيخ الصيادين:
- باركه ياجدي.. قال خالد..
رفع الشيخ يده بقدسية. تناول من جيبه منديلاً مطرزاً. لفه أشعله من شعلة خالد، رفعه إلى الأعلى. عيناه تدعوان الجميع إلى الاقتراب. اقتربوا منه، وكل يحمل مشعلاً، ثمة بريق أضاء الخيمة وكأنه البرق، رغم أن السماء صاحية، والقمر يلعب مع النجوم فوق القرية، تحرك الجميع، كل واحد يريد أن يصل أولاً، كل منهم يريد أن يتلقى الرصاصة الأولى من حراس السيد،' وجّه خالدٌ بعض الشبان إلى قطع أشجارٍ حورٍ طويلة لتساعدهم في الوصول إلى الجزيرة.
إضاءة المشاعل انعكست على القصر من مسافة بعيدة، التفت في داخله إلى الجموع الزاحفة برعب، استمر الزحف، أمسك باسم برداء خالد دون أن يراه أحد، والشيخ في وسط الحشد يكرر:
- دعونا نتصرف بروية يا أبنائي...
الحشد كان يفهم هذه العبارة، وكان ينطلق بسرعة وجنون أكبر باتجاه القصر ويكبر الحشد، وتزداد خطوات -شيخ الصيادين- اتساعاً، بينما يده تشد بقوة على قبضة خالد، والناس من خلفهم يتابعون الزحف...