أيها البطريق هل تريد أن تطير يوماً؟
ربما كنت تحلم بذلك في كل لحظة؟
ولكن ألم تفكر يوماً:
في أن جناحيك ليسا للتحليق أو الطيران؟
كتلة أسمنتية رطبة يمكن أن تسمى قبواً، جدرانٌ ملوثةٌ هي صورةٌ لعهود مختلفة تآكلت بفعل الزمن، وسقط منها في كل دور بعض الأوراق التي تستر عورتها.
إنه ذو وجه أسمر متطاول، وشاربين كثين، يتربع في ركن من أركان القبو، تلافيف دماغه اعتادها الجو هنا، وتفكيره قُيدَ بسلاسلٍ قاسية جعلت جسده كلعبة قماشية يلهو بها الأطفال في قريته.
هاهو يحاول الوقوف، يترنح، يسقطِ (صدى السقطة يفشل في تجاوز باب الزنزانة، ولذا يتجه نحو الكوة في أعلاها، ليلتقي دموع الخريف الأولى التي كانت تتسلل عبرها في زيارةٍ رسمية، هي الزيارة الأولى له بعد أن استضافته رطوبة المكان منذ أشهر خلت.
***
كان يجلس إلى كتبه المدرسية، وزوجته تعد له العشاء، الطلاب يزدحمون في رأسه وذاكرته بخوف، لعلهم يخشون شيئاً مجهولاً، لماذا يتغلغلون في وقته صوراً ملطخة بنزيف همومه اليومية؟ أسئلة وأسماء كثيرة تنخر ذاكرته، يرددها على مسامع الطلاب، وهم بدورهم يرددونها بتلقائية، لكن جانباً آخر من الذاكرة كان يشهد حركةً غير مألوفة جعلت الماضي يتقيأ أسماء كثيرة، والهموم اليومية تطغى على عظمة أسمائها، كم نساوم في زمن يتسرب من بين أصابعنا دون أن يلتفت إلينا؟!..
يرفض العشاء، يتسلل إلى الفراش، يتصرف عكس زوجته تماماً، فهو مشغول بشجرة التوت العجوز التي يلفها الظلام، ولا تتوقف عن قرع نافذته وكأنها تذكره بعجزه... السماء الشتائية الغاضبة تتصارع مع الغيوم محدثة ضجة أقلقته تلك الليلة، وأبعدت النوم من عينيه.
الصباح زهرة لوز تبشر بربيع زاه. الشارع طويل. وثمة قمامة تشوه المنظر، وبراعم برية تحاول التفتح لتعلن أن الربيع قادم، لكن أحجاراً بأحجام مختلفة تحول دون تفتحها، متحدية مشاعر الطبيعة بعنادها.
تقوده الطريق إلى المدينة المزدحمة، الفتيان يتزينون بسلاسل من الذهب. يتلوون جماعات في شوارعها، رؤوسهم تحمل أشكالاً وألواناً مختلفة من الشعر، لكنها لا تحمل شيئاً في داخلها، مظاهر التسول تطارده، يعجب بتلك الطريقة المسرحية في إبراز الحاجة، وبقدرة هؤلاء المتسولين على إتقانها، هاهو صديقه المجنون جاء ضاحكاً، يبغي الحصول على ثمن "بطحة". إنه يعرف هؤلاء جيداً بعد أن حفظ تقاطيع وجوههم، واعتاد رائحة أجسادهم النتنة.
عربة تتوقف..
- أهذا هو؟
- (صوت نسائي باكٍ من داخل السيارة) أجل...
- (هو لا يعرف الصوت ولا الوجه، ولا أي وجه من وجوه الذين يحيطون به)، أنا؟!
- شرِّف..
- ألقى نظرة تفحص حوله. لابد من ذلك، شرَّف دون مقاومة.
- أيها السافل، إنها فتاة بريئة، ومسكينة.
- وماذا فعلت أنا؟
- يجب أن تتزوجها، إنه الحل الوحيد.
سطعت أمام عينيه صورة شجرة التوت العجوز، التي لا تعرف شيئاً عن الموسيقا لكنها لا تتوقف عن قرع نافذته.
- (ضحك بصوتٍ عالٍ) لكن؟!
- اخرس.
خرِسَ فوراً إثر لكمة حطمت الكلمات في فمه، وألقت به ظهراً في العربة.
شمس الربيع الدافئة توارت خجلاً خلف غيمة ثلجية، محاولة لملمة خيوطها، عازمة الرحيل إلى مدينة أخرى خلف البحر. المدينة، بحركتها، أوساخها المتراكمة، شبانها الجوف، متسوليها، ومجانينها، وقفت مكتوفة الأيدي تتابع خيوط الشمس المغادرة.
عيادة الطبيب المختص تطل على الطريق الممتد على طول الشاطئ، أشعة الشمس ترتسم على صفحة المياه، تصبغها بالأحمر الأرجواني، تطبع على خدها قبلة الوداع قبل رحيلها، والمصابيح المزروعة على جانبي الطريق ترسل ضوءها الواهن في محاولة لاختراق الضباب المنتشر في الجو.
- سيدتي (قالها الطبيب بتأثر)، زوجك تعرض لصدمة، إنه طائر. /
- لا يستطيع الطيران (أكملت الزوجة)، مسترجعة أيامها معه.
ذرفت دمعتين، ربما أكثر، وهي تسير على شاطئ البحر، تودع الشمس الراحلة إلى نهار مدينة أخرى، بينما سيارات محملة بحقائب مختلفة تغادر المدينة أيضاً.
القبو، ثانية، يترنح ثم يسقط، قرع الطبول يزداد في صدره وأذنيه، تيار الحياة الواصل إلى صدره ينقطع للحظات، يتمدد على الأرض الباردة، ومن بعيد يتناهى إلى سمعه صياح ديك يعلن تلاشي الليل، في هذا الوقت أخذت خيوط الفجر تتسلل بإضاءاتها مخترقة شبحية المكان.
هو، الطائر الجميل، يحرك يديه نحو الأعلى، يحاول الطيران، الحركة تبدو بطيئة في البداية، تتسارع، تتطاول يداه متجهة إلى كوة الضوء، حيث تعانق دموع الخريف التي تنغرس في كل مكان باحثةً عن ربيعٍ ما.