الحب هو أن نرحل إلى المستحيل، ونعود في يوم آخر إلى الحياة.
- أن نحب يعني أن نترك ذكرياتنا تسير مع أهوائنا، حتى تنتهي تلك التي نسميها: الحياة.
كانا يتبادلان الكلمات عبر المسافات الطويلة، الجبل الذي شهد ذكرياتهما مايزال يرنو من الأعلى إلى الساقية التي تغسل ذكرياتهما لتعود صافية مدهشة.
بعد أن غادرها إلى البعيد، ظن أنه عائد إليها ذات يوم، ولن يعيقه عن ذلك أي شيء، كان حب الحياة يغمرهما، لكنه لم يفطن لما يمكن أن يحدث، وماحدث كان آخر ماتتوقعه.. والبداية كانت مع كلماته إليها بعد أن سافر بعيداً:
* إليكِ:
أن نحب، يعني أن يصبح العالم أجمل، ونسافر في ثنايا الغيم، نصنع مراكب ورقية تحلم بالمستقبل، تسير في ساقية تتسرب من بين أصابع جدنا العجوز الخشنة، وجدُّنا الجاثم بارتياح منذ آلاف السنين يمدد ساقيه باسترخاء، يحتضن ابنته المنهكة، قريتنا الدافئة، الراكضة مع الزمن، وأنتِ مازلت تتوقدين، وتتراقصين لهباً يدفء برد الغربة، وبرد القلب، لكن ماذا بقي من كل ذلك؟ هل مازلت تذكرين؟...
** أيها البعيد القريب:
كنتَ الجدولَ المنساب من أصابع جدنا العجوز، تُنبِتُ براعم القلب المتيبسة، توقظ آلاف العصافير في الصدر الخريفي، تسقي الأشجار البرية النابتة بين شراييني، وتُطلع الزهر متمايلاً من دفلة النهر المنسي.
الجرة التي كانت تطعمنا أشهى اللقمات لم تتحمل فراق أمك العجوز، تبعتها لتختلط معها في بداية التكوين الجديد بين الإنسان والفخار، أشجار الصفصاف التي كانت تراقص النهر، رمت أوراقها، رحلت تلك الأوراق بعيداً مع المياه المتدفقة تدفُقَ نبض القلب، تيبس القلب، جف الصدر، اهترأت العظام، ومع رحيلك، تبعتكَ آخر نسمات الصيف.
* أيتها الغالية:
كل يوم تغرز الغربة خنجراً جديداً بين أضلعي، وأنتِ تسحبين ذلك الخنجر لأتألم أكثر، أموت وأحيا، فتقتليني من جديد، لأحيا وأراكِ حبيبتي من جديد، فأنت مازلت قوس قزح يلون لوحة حياتي الباهتة.
أمس رأيتك وأنا أسير في طريق غطته أشجار متوحشة، كان الغار يطلع من بينها، ويغطي بحبيباته الجميلة الشوكَ البارز من هذه الأشجار، وبينما كنتِ تحاولين الخروج من هذه الأشجار، كان النبات الشائك يفتك بجسدكِ اليافع، اقتربت منك، مددت ذراعي لمساعدتكِ، لكنك اختفيتِ، وضحكة مدوية ترافق هربك، بينما سقطت أنا في النبات الشائك، تابعت الضحك بصوتٍ مرتفع، وتابع النبات الشائك نهشي بأسنانه الحادة. لملمت دمائي، ضمختها بقليل من مياه الساقية، وانطلقت أتسلق رأس جدنا العجوز لأرتاح على كتفيه، وأراقب من هناك ابنته الجميلة، علني أعثر عليك في قريتنا الدافئة، فأنا أشعر بالبرد يملأ صدري، والحياة تهرب منه.
*** أموت اشتياقاً:
أكتب كلماتي إليكَ وأنا أجلسَ على كتفِ جدنا العجوز، وأمد النظر إلى رأسه لعلي أراكِ، لكن بلا جدوى، شاخ الجد، ابيض شعره، ملأت التجاعيد وجهه وزحفت على رقبته، تناثرت أجزاء من رأسه بسبب قسوة الريح، والمطر والإنسان.
أبحث عنكَ، لا أجدكَ في أي مكان، "أنا أحبكَ" كلمة عشتها في كل لحظة من اللحظات التي أمضيناها سوية، مع أني لم أقلها لك من قبل، لقد عشتها مواويل عشق يومية أبدعت لوحات ربيعية رائعة لم تستطع رؤيتها. هل مازلت غبياً؟ لماذا أرسلتَ زهرة النرجس تلك في رسالتك السابقة؟ لقد يبست...
أنا بشوقٍ كبيرٍ إليك. يكفيني الآن أن أرى كلماتك تجسد حبنا. لا تدع الحياة تفلت من يديك.
*"...... ......."
** يامن أحب أكثر من نفسي:
أنا الآن في الخيمة التي اعتدنا البقاء فيها وحدنا على سطح البيت، أسهر وحيدة مع السماء، الغيوم تهرب باتجاه الجنوب، لم تغطّ السماء كلها، أرى من خلالها القمر يطارد نجمة وحيدة مضيئة لا يصل إليها، يلّون رأس جدنا الأشيب بمزيد من لونه الفضي.. يرعبني هذا اللون، كأن جدنا على وشك الموت... زهرة النرجس ماتت، وأنا أنتظر الحياة، معك فقط.
** أيها الحبيب:
قررت أن أغرس شجرة نخيل بين أصابع جدنا العجوز، لترتفع وتغطي كتفيه، لكني أنتظرك كي نزرعها سوية. أجبني.. أنا مازلت بانتظاركِ...لا... لستَ غبياً، كنت أداعبكَ فقط أرجوكَ أجبني ولو بكلمة واحدة.
*** الجد العجوز.
كان الجد العجوز يرقب الكلمات المتبادلة، يزداد حزنه يوماً بعد يوم يتطلع إلى ابنته الدافئة فيراها تتغير كل يوم. حركة غريبة تجري في القرية.. سيارة بيضاء.. صندوق خشبي.. حشد يكبر... الحشد يذوب.. يُزرع الصندوق الخشبي في يوم واحد مع شجرة نخيل بين أصابع الجد العجوز.. حفرة أخرى كانت تنتظر... بضع قطرات دافئة كانت تتدحرج...