- إلى الذين تضمخت شفاههم بتراب الوطن العسلي. ما الذي جعله يخرج من جلده، ويختبئ تحت جلدٍ آخر؟ هل هو جدْب حزيران؟ أم أن هناك أسباباً أخرى.؟ في البداية اتكأ على حافة الحياة، ثم هبط إلى قبر صنعه بنفسه، انتقاماً من ضعفه، وعدم جدوى حياته، كما توهم، لكنه قرر فيما بعد أنه أخطأ عندما بدأت الأرض تدفع به من رحمها، الأرض التي احتضنته أثناء العاصفة، قذفت به مع بداية "نيسان، أقسى الشهور". كان اللوز قد أزهر، وانتشرت رائحة الدراق في دروب قريته المنسية بعيداً. حينها خرج من حفرته، كان يحتضن سلاحاً، يطلق الحمم باتجاه الذين سلبوه أرضه، لكن كيف حدث ذلك؟ إليكم البداية: كانت الرياح تزرع الرعب، وتضرب الغابة بسادية قاتلة، وكانت الأشجار تصدر أنيناً موجعاً، يبدو كرجع صدى لصفير الرياح. خيوط الماء صارت رماحاً، انزرعت بين سيقان الغابة المتوجعة، وبدأت تحفر عميقاً في رحم الأرض. "سليمان" الذي غادر بيته منذ وقت قريب، أضاع طريق العودة. مخالب السماء تنغرز في أنحاء جسده. الأشجار فقدت خضرتها، وأصبحت عارية بعد أن اغتصبتها خيوط الماء والريح القاسية. حاول أن يفهم ماجرى: - كيف لعاصفة كهذه أن تحدث في حزيران؟!.... ضاع في الطوفان، بحث عن ملجأ، سقط بعد أن تلاشت قوته، ارتطم بحجر كبير، احتضن الحجر كي يحمي جسده من البلل، غاب في نوم عميق، بينما لحافه المنسوج من وابل المطر يلسع ظهره ومؤخرة رأسه، والرعد يضرب بلا رحمة: - لكنك حزيران: من أين أتيت بهذه العاصفة؟ [ تذكر سليمان زمناً آخر مضى منذ سنوات، بدأ هذا الزمن يتسلل إلى عقله مخترقاً العاصفة والبلل: الرمال الحارة تلفظ الشمس من بين ذراتها، وتطلق ناراً تحيط به من كل مكان... نارٌ تقذف من أمام وفي ظهره نارْ... سماءٌ تصب نارها على رأسه. وتُطلع من أقدامه ناراً الخدر يسيطر على أطرافه، ورأسه، شفتاه تيبتسا عطشاً، والسماء تتسع فوقه، وتدور].. - يجب أن أستيقظ، أنا أحلم، آن للعاصفة أن تنتهي من رأسي، استجمع الباقي من قواه، نهض بسرعة، نبضات قلبه تتسابق، وتضرب صدره بعنف، عيناه مازالتا مغمضتين: - لا يمكن أن أتحمل أكثر... - بدأ يفتح عينيه بهدوء، بقايا الكابوس تجثم فوقه، وتتصارع مع دقات قلبه المتسارعة، فتح عينيه أكثر: أحجارٌ مبعثرة، أغلبها مستطيلة الشكل، لم يستطع تمييزها في البدء، اكتشف أنها متشابهة جداً فيما بينها.. إنها مقبرة المدينة. [شاهد عيان أكد أن الحجر الذي احتضنه سليمان، في تلك الليلة، العاصفة لم تكن سوى شاهدة قبر لرجل استشهد على أيدي غزاة دُحروا منذ مئات السنين، وكان قد كتم أنفاسهم لسنين عديدة، وجابههم مع مجموعة من "الفداوية" وطردهم من البلاد، كما قيل فيما بعد]. حركات سليمان لم تعد كالسباق، لم يعد يخشى المقبرة التي صارت جزءاً منه، كان يشعل النار مساءً قرب سورها الحجري الضيق كي تزود جسده بالدفء، ويهتدي التائهون بنورها... نهض بتثاقل، تفحص المكان الذي أناره الفجر.. رأى المدينة تتحرك خلف السور الحجري، مدينته الهادئة تحركت للمرة الاولى، إنها تمضي بعجائزها وبراعمها، تندفع بأحجارها وعصّيها، مدينته التي تعودت أن تنام مع الشمس وتستيقظ معها، بدأت بخلع السواد الذي لونها، تزينت بالعزيمة، واندفعت إلى الأمام. اندفع سليمان خارج المقبرة، كروحٍ تعبةٍ لا تُرى اخترق السور الحجري، تبعته أرواح أخرى لبست أجساداً قوية مصممة. اقترب سليمان من الحشد، شق طريقه كنسر شامخ الرأس، تقدم أهل المدينة الذين تابعوا اندفاعهم بثقة أكبر. سليمان شاب في الثلاثين، خطواته ثابتة، عضلاته قوية، شعره أصبح جدائل كثيفة، شفتاه تيبستا قليلاً، وأحاطهما بياض ، كصخرة بحرية لسعتها أشعة الشمس، بعد أن ودعتها آخر الأمواج، يمينه تشد على السلاح الرابض فوق كتفه، اصبعه على الزناد. سار مع أهل المدينة، إلى الأفق الواسع، اخترق الحشدُ سراب الصحراء، نار الرمال كانت تئن تحت الأقدام الثابتة، والرمال تتراجع مع تقدم الخطوات، السماء كانت تضيء المكان باللهب الذي ملأ أرجاءها. من البعيد رأى سليمان البيت الذي غادره، خطوات قليلة تفصله عنه، تابع الحشد طريقه، المكان يصبح هادئاً شيئاً فشيئاً، تهدأ الحركة أكثر... سكون... ثم.. ضوء يحيل السماء إلى شعلة للمجد زرقاء.
-
إلى الذين تضمخت شفاههم بتراب الوطن العسلي.
ما الذي جعله يخرج من جلده، ويختبئ تحت جلدٍ آخر؟ هل هو جدْب حزيران؟ أم أن هناك أسباباً أخرى.؟
في البداية اتكأ على حافة الحياة، ثم هبط إلى قبر صنعه بنفسه، انتقاماً من ضعفه، وعدم جدوى حياته، كما توهم، لكنه قرر فيما بعد أنه أخطأ عندما بدأت الأرض تدفع به من رحمها، الأرض التي احتضنته أثناء العاصفة، قذفت به مع بداية "نيسان، أقسى الشهور". كان اللوز قد أزهر، وانتشرت رائحة الدراق في دروب قريته المنسية بعيداً. حينها خرج من حفرته، كان يحتضن سلاحاً، يطلق الحمم باتجاه الذين سلبوه أرضه، لكن كيف حدث ذلك؟ إليكم البداية:
كانت الرياح تزرع الرعب، وتضرب الغابة بسادية قاتلة، وكانت الأشجار تصدر أنيناً موجعاً، يبدو كرجع صدى لصفير الرياح. خيوط الماء صارت رماحاً، انزرعت بين سيقان الغابة المتوجعة، وبدأت تحفر عميقاً في رحم الأرض.
"سليمان" الذي غادر بيته منذ وقت قريب، أضاع طريق العودة. مخالب السماء تنغرز في أنحاء جسده. الأشجار فقدت خضرتها، وأصبحت عارية بعد أن اغتصبتها خيوط الماء والريح القاسية.
حاول أن يفهم ماجرى:
- كيف لعاصفة كهذه أن تحدث في حزيران؟!....
ضاع في الطوفان، بحث عن ملجأ، سقط بعد أن تلاشت قوته، ارتطم بحجر كبير، احتضن الحجر كي يحمي جسده من البلل، غاب في نوم عميق، بينما لحافه المنسوج من وابل المطر يلسع ظهره ومؤخرة رأسه، والرعد يضرب بلا رحمة:
- لكنك حزيران: من أين أتيت بهذه العاصفة؟
[ تذكر سليمان زمناً آخر مضى منذ سنوات، بدأ هذا الزمن يتسلل إلى عقله مخترقاً العاصفة والبلل:
الرمال الحارة تلفظ الشمس من بين ذراتها، وتطلق ناراً تحيط به من كل مكان...
نارٌ تقذف من أمام
وفي ظهره نارْ...
سماءٌ تصب نارها على رأسه.
وتُطلع من أقدامه ناراً
الخدر يسيطر على أطرافه، ورأسه، شفتاه تيبتسا عطشاً، والسماء تتسع فوقه، وتدور]..
- يجب أن أستيقظ، أنا أحلم، آن للعاصفة أن تنتهي من رأسي، استجمع الباقي من قواه، نهض بسرعة، نبضات قلبه تتسابق، وتضرب صدره بعنف، عيناه مازالتا مغمضتين:
- لا يمكن أن أتحمل أكثر...
- بدأ يفتح عينيه بهدوء، بقايا الكابوس تجثم فوقه، وتتصارع مع دقات قلبه المتسارعة، فتح عينيه أكثر:
أحجارٌ مبعثرة، أغلبها مستطيلة الشكل، لم يستطع تمييزها في البدء، اكتشف أنها متشابهة جداً فيما بينها.. إنها مقبرة المدينة.
[شاهد عيان أكد أن الحجر الذي احتضنه سليمان، في تلك الليلة، العاصفة لم تكن سوى شاهدة قبر لرجل استشهد على أيدي غزاة دُحروا منذ مئات السنين، وكان قد كتم أنفاسهم لسنين عديدة، وجابههم مع مجموعة من "الفداوية" وطردهم من البلاد، كما قيل فيما بعد].
حركات سليمان لم تعد كالسباق، لم يعد يخشى المقبرة التي صارت جزءاً منه، كان يشعل النار مساءً قرب سورها الحجري الضيق كي تزود جسده بالدفء، ويهتدي التائهون بنورها...
نهض بتثاقل، تفحص المكان الذي أناره الفجر.. رأى المدينة تتحرك خلف السور الحجري، مدينته الهادئة تحركت للمرة الاولى، إنها تمضي بعجائزها وبراعمها، تندفع بأحجارها وعصّيها، مدينته التي تعودت أن تنام مع الشمس وتستيقظ معها، بدأت بخلع السواد الذي لونها، تزينت بالعزيمة، واندفعت إلى الأمام.
اندفع سليمان خارج المقبرة، كروحٍ تعبةٍ لا تُرى اخترق السور الحجري، تبعته أرواح أخرى لبست أجساداً قوية مصممة. اقترب سليمان من الحشد، شق طريقه كنسر شامخ الرأس، تقدم أهل المدينة الذين تابعوا اندفاعهم بثقة أكبر. سليمان شاب في الثلاثين، خطواته ثابتة، عضلاته قوية، شعره أصبح جدائل كثيفة، شفتاه تيبستا قليلاً، وأحاطهما بياض ، كصخرة بحرية لسعتها أشعة الشمس، بعد أن ودعتها آخر الأمواج، يمينه تشد على السلاح الرابض فوق كتفه، اصبعه على الزناد.
سار مع أهل المدينة، إلى الأفق الواسع، اخترق الحشدُ سراب الصحراء، نار الرمال كانت تئن تحت الأقدام الثابتة، والرمال تتراجع مع تقدم الخطوات، السماء كانت تضيء المكان باللهب الذي ملأ أرجاءها. من البعيد رأى سليمان البيت الذي غادره، خطوات قليلة تفصله عنه، تابع الحشد طريقه، المكان يصبح هادئاً شيئاً فشيئاً، تهدأ الحركة أكثر... سكون... ثم.. ضوء يحيل السماء إلى شعلة للمجد زرقاء.