تذاكرنا الغياب حتى الاختناق، واستسلمنا لصمت أصم، إلى أن قالت زوجتي: لديك مادّة جيّدة للكتابة أليس كذلك؟ من نبرة صوتها أدركت أنها ليست جادّة تماماً ربمّا كانت تحرّضني على الكتابة، فقط لاستهلاك وتجاوز آثار تلك الحادثة التي علقت كالشوك في حلقي وذاكرتي، مكثّفة الكثير من معاني ذلك الغياب الطويل، ومضيفة إليه طعماً دراميّاً خاصّاً. مع ذلك عزمت على المحاولة كمن ينبش جثّة حبيب ليشرّحها. قالت زوجتي وهي تحاول استعادتي من حالة الشرود التي باتت تلازمني: أنا أمزح... ليست ضرورية. -لا بابا.. ضروريّة ونص.. اكتبها بابا.. اكتبها. فكّرت بالمحاولة كتفكيري بتقديم لعبة لابنتني، هذه التي لم يُتح لي فرصة تقديم اللُعب لها عندما كانت بحاجة لذلك. وتطلّعت إليها مليّاً. لم تعد تلك الطفلة، كبرت أكثر من قدرتي على أرجحتها وقذفها نحو الأعلى لتسقط ثانية في حضني مع كل غبطتها وخوفها. ولتلثغ بكلمات لايفهمها إلا الله وقلوب الآباء والأمهات. أجهدت نفسي لاستعادتها كما كانت، ومن ثم استعادة أطراف الحادثة كما رُويت لي. مع ذلك بقيت أوراق الكتابة بيضاء كذاكرة متعبة وممحيّة. لماذا لا أدع شخصيّات القصة نفسها ترويها؟ راقت لي الخاطرة. لكن زوجتي رفضت الاستجابة.ابتسمتْ وقالت: مالك وللماضي؟! .. مع ذلك أستطيع تذكّر ما قالته لي وهي تناولني الجلاء المدرسيّ عبر القضبان. آنذاك قرأت بشغف وحب اسم ابنتنا، وقد كتب بخط عريض وجميل، مع اسم الصف: الأول الابتدائي، وكانت الدرجات ممتازة. قلت لزوجتي وأنا أشدّ على يدها: مبروك. ولمحت سحابة عابرة في عينيها. -مالك؟ -لاشيء. -الزيارة قصيرة.. قولي كل ماعندك.. أرجوك. بتردّد روت لي الحكاية، وغلّفتها بابتسامات مشجعّة وحميمة. ".. كنت أنتظر عودتها من المدرسة في الموعد المحدّد.. وأقبلت ترافقها معلمتها. كانت تنشج بصوت عال والمعلمة تحاول تهدئتها. ركضتُ كالمجنونة وأنا أصرخ: شوفي؟؟ أحدثنا مايشبه الفضيحة قبل أن نلج البيت، وتحكي لنا المعلمة الحكاية..." المعلمة الصديقة بدورها أعادت رواية ماحدث. قالت، وقد غامت عيناها لتمتلئا بأقسى موقف واجهته على حد قولها: وزّعت الجلاءات المدرسية على التلميذات وقلت لهن: لتطلب كل واحدة من أبيها أن يوقّع هنا، وأشرت إلى الفراغ المخصّص لوليّ الأمر في الصحيفة المدرسية. برهة قصيرة مرّت، وأنا أستعدّ للمغادرة، فسمعت نشيجاً واخزاً راح يتعالى.. وكانت ابنتك! -مالك يا حبيبتي؟! فإذا بها تقذف صحيفتها، وتقول بصوت ناحب وجارح: ما بتعرفي أنا ماعندي أب؟! كان صوت المعلمة قد بدأ يتحشرج، فابتسمت لها مشجعاً وأومأتُ أن: وماذا بعد؟ -لا أعرف.. اتركونا من هالحكاية. أخيراً سألت ابنتي وبصوت مرهق: حدثيني أنت عن ذلك يا روحي. أخفتْ نصف وجهها، وقالت بلهجة اعتذارية: أنا كنت "زغيرة" يا بابا
تذاكرنا الغياب حتى الاختناق، واستسلمنا لصمت أصم، إلى أن قالت زوجتي: لديك مادّة جيّدة للكتابة أليس كذلك؟
من نبرة صوتها أدركت أنها ليست جادّة تماماً ربمّا كانت تحرّضني على الكتابة، فقط لاستهلاك وتجاوز آثار تلك الحادثة التي علقت كالشوك في حلقي وذاكرتي، مكثّفة الكثير من معاني ذلك الغياب الطويل، ومضيفة إليه طعماً دراميّاً خاصّاً.
مع ذلك عزمت على المحاولة كمن ينبش جثّة حبيب ليشرّحها.
قالت زوجتي وهي تحاول استعادتي من حالة الشرود التي باتت تلازمني: أنا أمزح... ليست ضرورية.
-لا بابا.. ضروريّة ونص.. اكتبها بابا.. اكتبها.
فكّرت بالمحاولة كتفكيري بتقديم لعبة لابنتني، هذه التي لم يُتح لي فرصة تقديم اللُعب لها عندما كانت بحاجة لذلك.
وتطلّعت إليها مليّاً.
لم تعد تلك الطفلة، كبرت أكثر من قدرتي على أرجحتها وقذفها نحو الأعلى لتسقط ثانية في حضني مع كل غبطتها وخوفها. ولتلثغ بكلمات لايفهمها إلا الله وقلوب الآباء والأمهات.
أجهدت نفسي لاستعادتها كما كانت، ومن ثم استعادة أطراف الحادثة كما رُويت لي.
مع ذلك بقيت أوراق الكتابة بيضاء كذاكرة متعبة وممحيّة.
لماذا لا أدع شخصيّات القصة نفسها ترويها؟
راقت لي الخاطرة. لكن زوجتي رفضت الاستجابة.ابتسمتْ وقالت: مالك وللماضي؟!
.. مع ذلك أستطيع تذكّر ما قالته لي وهي تناولني الجلاء المدرسيّ عبر القضبان.
آنذاك قرأت بشغف وحب اسم ابنتنا، وقد كتب بخط عريض وجميل، مع اسم الصف: الأول الابتدائي، وكانت الدرجات ممتازة.
قلت لزوجتي وأنا أشدّ على يدها: مبروك.
ولمحت سحابة عابرة في عينيها.
-مالك؟
-لاشيء.
-الزيارة قصيرة.. قولي كل ماعندك.. أرجوك.
بتردّد روت لي الحكاية، وغلّفتها بابتسامات مشجعّة وحميمة.
".. كنت أنتظر عودتها من المدرسة في الموعد المحدّد.. وأقبلت ترافقها معلمتها. كانت تنشج بصوت عال والمعلمة تحاول تهدئتها.
ركضتُ كالمجنونة وأنا أصرخ: شوفي؟؟
أحدثنا مايشبه الفضيحة قبل أن نلج البيت، وتحكي لنا المعلمة الحكاية..."
المعلمة الصديقة بدورها أعادت رواية ماحدث. قالت، وقد غامت عيناها لتمتلئا بأقسى موقف واجهته على حد قولها: وزّعت الجلاءات المدرسية على التلميذات وقلت لهن: لتطلب كل واحدة من أبيها أن يوقّع هنا، وأشرت إلى الفراغ المخصّص لوليّ الأمر في الصحيفة المدرسية.
برهة قصيرة مرّت، وأنا أستعدّ للمغادرة، فسمعت نشيجاً واخزاً راح يتعالى.. وكانت ابنتك!
-مالك يا حبيبتي؟!
فإذا بها تقذف صحيفتها، وتقول بصوت ناحب وجارح: ما بتعرفي أنا ماعندي أب؟!
كان صوت المعلمة قد بدأ يتحشرج، فابتسمت لها مشجعاً وأومأتُ أن: وماذا بعد؟
-لا أعرف.. اتركونا من هالحكاية.
أخيراً سألت ابنتي وبصوت مرهق: حدثيني أنت عن ذلك يا روحي.
أخفتْ نصف وجهها، وقالت بلهجة اعتذارية:
أنا كنت "زغيرة" يا بابا