يستحيل.. لن نسمح.. لا..
كان ذلك آخر ما قاله حازم، وقد نفذت الـ -لا- من بين أسنانه حادة وخّازة. وخرج مخلّفاً غيمة صمت داكنة، تشرّبتها الأعين الواجمة بقلق.
فكّر أحدهم مستنكراً: "التعب المتبادل، والخوف المتبادل، ليس خيارنا الوحيد." ورمق الآخرين.
كانوا ساهمي الوجوه، مغبّري النظرات، فالزمن الحرج يفقد العيون بريقها.
همهمة شابّة طفت كفقاعة صابون وأنطفأت. وسقطت ابتسامة صفراء من فم أحد الشباب، التقطها كهلٌ بعينيه، فاحتقن وجهه.
كان الإجتماع مرهقاً للجميع، وكان الوقت حاداً كسكيّن.
غمغم أحدهم باضطراب: إلى متى يمكن احتمال ذلك؟!
عقّب آخر وبحزم: إلى أن نستطيع التمخّط براحة بال وحريّة على الأقل.
.. فضّ الاجتماع هو الشيء الوحيد الممكن. الكل أدرك ذلك. ولهذا معنى واحد فقط. إنه تخويل حازم بالاستمرار. وتخويل الزمن بأن يبقى موضع رهان وحيد ودائم.
"مالِك" آخر من خرج. كانت رائحة الحصار تزكم أنفه وأنوف الجميع، لكن إفرازات الحصار كانت أقرب إلى عنقه، يكاد يحسّها وهي تضغط بأصابع حازم، مهدّدة أكثر فأكثر بالإختناق.
( مالِكْ) لم يعلّق أملاً كبيراً على الاجتماع. كان يعرف ثقل الحصار، وثقل حازم. وفكر: "الحصار وحده خلّفك يا حازم.. وإلا لكنت مجرّد تيس صراع تمتعنا في المناسبات... تطلّع إلى الرجال وهم يجرّون أجسادهم وهواجسهم فرادى وجماعات، وحدّق في البعيد. وغمغم سنوات طويلة وثقيلة تمرّ، والكل متوتّرون، مستنفرون حتى العظم.. وبعد يا حازم؟! هل نحن منذورون للصراع؟! تعبت قروننا أيّها التيّس.. إنّنا بشر.. ويجب أن نعيش."
ومضى (مالك) الشاب يخفق بقلب فتيّ، ويهجس بغدٍ غامض على نحو ما. صعد إلى المكتب برفقة شدّاد.
تصفّح بعض التقارير بسرعة، أجرى أكثر من مكالمة هاتفية، ثم نهض كمن يبحث عن شيء، راح يخطو بنزق ما بين الجدار والجدار، ومن ثم التصق بزجاج إحدى النوافذ، وغمغم بصوت مسموع: تحوّل الحصار إلى كابوس.. إلى فزّاعة.. وهاهي إفرازاته تنمو بشكل سرطانيّ.. تهدّد كل شيء.. لابد من عمليّة جراحيّة.. نعم لابد."
زفر شدّاد، والتفت إلى حيث كان يجلس جنباً إلى جنب مع حازم، وامتقع وجهه. كان حازم يتفقّد الخيل، وهي تحمحم له بوّد وصداقة، عندما بلغ حصانه الأشهب، حمحم هذا بنشاط، ودفع بخطمه صدر فارسه، بحميميّة وإلفة.
ابتسم حازم ومسح الوجه الأصبح بأصابع حانية، وتطلّع إلى العينين الواسعتين بحبّ. ودمدم: وأنت.. ألم تتعب بعد ياميمون؟! القوم يتململون" يريدونك راقصاً في السيرك.. ويريدونني مهرّجاً؟
لو كان العالم مجرّد سيرك، لرقصنا جميعاً، كلّ على هواه، لكن العالم.. آه.. ماذا أقول لك يا ميمون؟
فقط لو تعرف كم ثمن الفرح.. كم ضريبة الحياة.. ألا تريد أن تدفع؟ لاتقل: دفعت. الحياة هي التي تقدّر كم يجب أن ندفع، وهي التي تقول: كفى، وها أنذا يافارسي، أما السّمسرة في هذه الأمور فلن تزيد عن كونها مسخرة.. أليس كذلك يا ميمون؟
.. كان ميمون قد انصرف منذ هنيهة لإتمام وجبته، مغفلاً مداعبات فارسه التي لا نهاية لها.
".. معك حق يا ميمون... رائحة التبن والشعير أكثر جاذبيّة من الحديث غير الملموس عن جنّة غير ملموسة..
لكن... ما بالك لو فكّرنا جميعاً على طريقتك.. ألا ينهار العالم؟
.. شعر حازم بوخزة غامضة، فخرج، شاعراً أكثر من أيّ وقت مضى بثقل كهولته. لكن صوتاً مجرَّبا زنخر في أعماقه: "لن أسمح بالإرتخاء قبل الأوان.. لا يحق لأحد أن يقامر بالدم والجهد المدفوعين.." وتجهّم الوجه الخمسيني، تحسّس مسدّسه البارد، وارتعش.
".. وإلا فليقتلوني.. إنني على استعداد لارتكاب ألف حماقة وحماقة للحيلولة دون.. آخ.. ماذا أقول؟
الأرض أصبحت ضيّقة.. لكن.. متى كانت واسعةً ابنةُ الكلب؟
يا رب.. أحلامنا لم تعد مقدّسة، ولا مهيبة، داخلها الشّك، باتت ثقيلة.
يقولون: إذا رفضت أرضك زراعة الورد فازرع البرسيم.. كن واقعياً يا حازم."
لا. لا أستطيع أن أكون واقعياً كل الوقت. الأرض كالفرس إذا لقِّحها الحمار أنجبتْ بغلاً بالضرورة..
أوف.. كانت الأرض مقدّسة.. والورود مقدّسة.. والأرحام.. وعيون الأطفال.. ولغة المستقبل..
... كانت ذقن حازم ترتجف، ووجهه الشجيّ يختلج، وظهره يميل للإنحناء أكثر فأكثر. بينما كان شدّاد مغروزاً هناك كشجرة صبّار مثلوجة.
"- لتطلق الطّلقة الأخيرة يا شدّاد
- أين؟
- في الرأس.
- من الخلف؟
- لافرق.
- من الخلف لن تكون الطّلقة أخلاقيّة.
- الطلّقات كلّها لا أخلاقية.. ألم تفهم ذلك بعد؟!"
أجفل شدّاد، وراح يتذكّر كم أطلقوا، وكم زغردت له الصبّايا. وفكرّ: ".. لعبة الموت لها طقوسها أيضاً، ولها فرحها التعويضيّ المر."
كانت عيناه تثقبان الأشياء بنظرات غائمة قلقة، وهجس: الأمر مختلف اليوم، فبالأمس فقط كنّا سويّة مع حازم، نرسم آفاق المستقبل بحميميّة وثقة" ووخزة صوت مالك: لا تتردّد يا شدّاد.. إنها الطلقة الأخيرة والضرورية."
".. قد لا تكون الأخيرة." هجس شدّاد بذلك وهو يتحسّس مسدّسه بأصابع ميتّة. وارتجف. ضغط فكيّه بقسوة، ودار على عقبيه بنزق، مدارياً صفرة باهتة غشيت وجهه، واحتقاناً ثقيلاً في عينيه. ".. كلْ من لحمك يا شدّاد.. إنها ضريبة تعرّجات الحياة يا بن الكلب.. وأنت أيتها المرابية السافلة، لماذا كل هذه الضرائب؟! تفه.."
.. قدما شدّاد المتشنّجتان راحتا تدفعانه أكثر فأكثر إلى.. كان يعرف أين سيجد حازم. الكل يعرف فحازم عنيد كبغل. وهو دائماً هناك، يمسك قرني الثّور بشراسة، خشية أن تسقط الأرض.
".. دع الثور.. الأرض لا تحتمل ثورين.. دعها قلت لك."
كان وجه شدّاد يتفصّد عرقاً، وكان حازم يدير ظهره ويعضّ بعينيه على كل الأيام الماضية، وعلى كل الأيام التي لم تأت بعد، ويغمغم: كل مدّعي النبوّة صادقون بمعنى ما، يؤمنون بشيء ما، يعيشون له، يموتون من أجله، وعندما يسقطون تسقط نبوّتهم، ويتخلى عنهم الله."
- حازم...
في البعيد، كان ثمّة عواء ذئبيّ ممطوط، يطفو ويختلط بزنخرة الأفراس.
التفت حازم بعينين متوثبتين مريعتين.
- هنا... هنا ياحازم...
"... الذئاب ليست بعيدة.. ألف مرة قلت ذلك.. لا وقت لـ اللعب."
- حازم... لاتدعني أطلق من الخلف.
اختلطت النبرات القلقة المتوترة بصدى عواء الذئاب. وغامت عينا حازم، وشفتاه المزرقتّان مرارة، راحتا تصدران الأوامر تباعاً، تستحثّ الخيل والرجال، وتستدعيان الميمون، فرهان العمر موضع اختبار نهائي.
- حازم... يا بن القحبة. ألن تتيح لي فرصة أن أكون شهماً معك؟
تسمّر حازم كنصب تذكاريّ، وجبهته العالية استدارت بكل كبريائها وآثامها، والأذنان المرهفتان التقطتا صهيل ميمون المتوتّر، وحمحمة الأفراس المرتبكة... ومن ثم حملت الريح إلى البعيد صدى واهناً لطلقة جافّة، كانت فاتحة لطلقات كثيرة ومهووسة، وكلها من الخلف