في المقعد المجاور لمقعدي، جلست.
امرأة أنيقة. لها شعر يشبه شعر صديقتي فاطمة. كدت أناديها: فاطمة؟! انشغلت بمرآتها. ابتسمت لنفسها. رائع أن يحب الإنسان نفسه.
- أحياناً أكره نفسي يا بشر. أكره الكرسي الذي أجلس عليه. أكره الورق القاعد على طاولتي- أصلحت المرأة وضع زينتها، رشّت العطر ثم التفتت إليَّ:
"جئتِ وحدكِ"
هل السؤال لي؟! لم أرد. تساءلت سراً. ولكن لم يسمع السؤال أحد غيري. هناك أسئلة كثيرة بلا أجوبة. فلماذا أشغل نفسي؟ تأملت اللوحات المعلقة في البولمان، ممنوع التدخين- الرحلة كذا، المدينة كذا- أعادت المرأة السؤال "جئتِ وحدكِ؟"
دائماً نجيء وحدنا. ونرحل وحدنا، ولا نصير اثنين إلا في حالات قصوى.
"جئتِ وحدكِ.؟ أظن ذلك"
المرأة تلتفت إلى الطريق الهاربةِ. المرأة تسترخي إلى الوراء. تشعل سيجارة "التدخين ممنوع"
أشرتُ إلى لوحة معلقة "ممنوع التدخين" لم تعر إشارتي أي إهتمام. وأنا لم أقلها صراحة... أخاف أن أرفع صوتي. شيخ القرية قال:
لا ترفعوا أصواتكم فتزعجوا الأموات. لماذا صرختم سيفيق الموتى وسيخرجون إلى الشارع أرتالاً تحتجّ على هذا الضجيج، ثم على التلوث، ثم على، وعلى، وقد تقرع الأبواب وتحمل كمشة تراب تلقيها في فمّ كل من يقول آخ، أو آه، أو ياه، أو...
الأموات يذهبون إلى النوم. بينما القرية كلها تصحو، تدور في الحقول دون غاية أو هدف سألت أبي الذي مات منذ خمسة عشرة عاماً.
"هل كلام شيخ القرية صحيح؟"
أبي لم يرد، ولا أعرف أين تكمن الحقيقة. مع ذلك دائماً أذهب إلى المقبرة. أشعل البخوّر وأسأل أبي. وأبي لا يرد.
"ولكنك تسكنين في المدينة" قالت المرأة بحدّة.
"آه... صحيح. أنا أسكن في المدينة"
تكورت على نفسي كطائر مبلول. كيف تعرف هذه المرأة؟
الحافلة تركض. ألملم في حضني تفاصيل السفر. وداعات. لقاءات. اجتماعات. تزوير. كنّا في اجتماع لجنة شراء الزينة لمهرجان البحر... كل واحد كان يكذب على الآخر "أنا مستعد لأن أعمل دون مقابل" ثم يحاول أن يملأ جيوبه "أنا.. وأنا.. كلهم هكذا"
"نعم. كلهم هكذا... المرحلة تقتضي ذلك. لماذا لم تقولي أنتِ؟"
"أنا لا أقدر. خفت من شيخ القرية. قد يصلي المغرب ويذهب إلى النهر. يفتح يديه ويسكب دعواته في الماء كي يمسخني الله إلى بومة".
"أتصدقين ذلك؟"
"كل شيء أصدقه"
ضحكت المرأة. قهقهت. ارتفع صوتها في الحافلة. انتبه الركاب فاضطررت للوقوف وتوضيح الفكرة.
مثلاً: إذا مسخت إلى بومة. سيهرب الناس مني. سأظهر في الليالي فقط، سيملؤني الشوق والحنين إلى أمي وأخوتي وبِشْرْ. كيف سأطوقه بذراعي وأهمس له في أذنيه أغنية "أنا قلبي إليك ميال؟" وإذ يستبد بي الشوق سأطير إلى شرفته العالية. سأقف وسأخربش" له على الزجاج ولكنه لن يعرفني. وربما أطلق عليّ الرصاص، وسقطت مضّرجة بدمي على الشرفة. كيف لي أن أخلع هذا القميص وأدخل في قميصي الأصلي؟! كيف أشعل البخور على قبر أبي؟ ثم. ماذا ستقول أمي للجيران الذين سيطلقون الشائعات؟
"لقد خُطفت"
"لقد باعوها"
"لقد لوثت شرف العائلة. فطلبت أمها من الشيخ أن يدعو عليها ويمسخها، فمسخها إلى هرة، ومرة إلى أفعى، ومرة إلى شجرة.." ياه.. انهمرت الدموع بشدة. صرت أشهق. لم أستطع السيطرة على وجعي وحزني. راحت حالات المسوخ تتراءى لي، ورحت أدخل في قميص وأخرج من قميص، لم تحرك المرأة ساكناً. فقط فتحت حقيبتها وناولتني عدة مناديل ورقية. مسحت دموعي وانكفأت في مقعدي.
في استراحة للسفر نزلنا. وقفت المرأة تتأملني "معطفك جميلٌ"
"حقاً؟ شكراً"
"هل خاطته خياطتك أماني؟"
"لا أبداً. لقد اشترتيه..." سارت إلى جانبي. طلبت فنجان قهوة لي وآخر لها.
"هل قابلت بشر؟
"لا... إنه مسافر"
"أتحبينه؟"
أأنا أحبك يا بشر؟!! لا أعرف. ولكن كل يوم أكتب لك. أحفظ ما تهمسه في أذني.
"الحبّ شيء جميل... يجعل الإنسان يرى العالم أوسع، والناس أجمل، والحافلات مليئة بالمفاجآت المدهشة.
"أنت تحبين إذن؟!!"
أعتقد ذلك. ولهذا كتبت "إذن ها أنا أحبّ
"ولست أعاني من خواء"
رشفت المرأة قهوتها وقالت: لا تقولي ذلك بعد الآن. مسموح لك كل شيء إلا الحبّ. أتدرين؟!! قد يحاكمونك بتهمة الحبّ.
"لماذا؟"
لأنه يجعل من المرء إنساناً حقيقياً. وهذا عليه علامات تعجب.
لم أحب تلميحات المرأة. شعرت أني غير قادرة على محاورتها. كانت تتحدث وكنت أصمت.
"معطفك جميل جداً. كم هو مقياس ثيابك؟!" انتبهتْ إلى قدمي: ياه.. حذاؤك جميل. من أين؟!
"إنه.." لم أتابع الحوار فقد نهضنا إلى البولمان. إنها فرصة لإسكات حشرية هذه المرأة المخيفة. لا أعرف لماذا صرت أراها تشبه مديرة المدرسة التي قرأت فيها الإبتدائية. وأحياناً أراها تشبه فاطمة صديقتي التي لا تكفّ عن الاستجواب والتباهي بمقدرتها على اكتشاف الأسرار.
"خذي سيجارة"
"شكراً، لا أدخن"
"ولكنك تدخنين عندما تكونين مع بشر"
إنّي كتاب مفتوح أمام هذه المرأة.
"وتدخنين أثناء الكتابة. و"
الثلج يتراكم على واجهة الحافلة. صوت الموسيقا الصاخبة يملأ البولمان.
"الأصوات تزعج الأموات. فكيف الأحياء"
"الصوت. لا. ليس كل صوت."
البياض أيقظ الحنين في أعماقي. الثلج يرسم أشكالاً على الزجاج وجوانب الطريق وأنا أرسم وجه بشر المسافر. شعره. حتى رائحته.
"حتى رائحته؟!!"
انتفضت. ماذا تريدين. أمسكت بعنق المرأة. أريد أن أخنقها. إنها ترفع صوتها وتبوح بكل أسراري. يسرع مضيف الحافلة "ما الذي يجري" "ابتعد. ابتعد"
تركت المرأة التي احمرت، وازرقت. تهاويت في المقعد. رأيتها تنظر إلى حذائي. وقبل أن ترش أسئلتها قلت لها من البالة. نزلت إلى السوق. لم تعجبني الأحذية. فذهبت إلى عند أم رياض التي تبيع الأحذية"
"أعرف. أعرف"
حدقت غاضبة في وجه المرأة. صمتْ على مغض ثم تناولت سيجارة ورحت أدخن. استنكر السائق. ممنوع. ممنوع. لم أطفئ السيجارة. "أهي وقفت على السيجارة؟"
بدأت تظهر على وجوه المسافرين علامات الضيق. أطفأ السائق صوت الموسيقى. وضع الراديو على الأخبار. أمريكا تقصف العراق... الحافلة تمشي. تشق الزمان والمكان. يلوح لي وجه بشر.. المرأة التي وراءنا تتشاجر مع زوجها. يبدو أنها غير راغبة في هذه الرحلة. المرأة التي قربي تغفو. تميل برأسها إلى الأمام. ثم إلى الخلف. شعرت بالضيق، ابتعدت عنها. أخذتْ تشخر. ربتّ على كتفها. أمالت جسدها أكثر على مقعدي. شعرت أني أختنق.
"يا سيدة... يا..." ولكن المراة غارقة في غيبوبة. بدأ المقعد يضيق تكاد تأخذ مكاني. إنها تكبر... تكبر. رأسها صار أكبر. وجسدها أضخم. أردت الانتقال إلى مقعد آخر. فتحت عينيها. ((لاتتركيني)) أمسكت بي. شدّت المعطف لكني تركتها ورجعت إلى الصفّ الأخير من المقاعد. لم أستقر جيداً حتى رأيتها قربي.
"أتعرفين؟ عندي حذاء يشبه حذاءك"
"ربما... فقد اشتريته من دكان البالة"
"كم نمرة رجلك" وعندما ذكرت الرقم، قالت: هي نمرة رجلي أيضاً.
"أتعرفين؟!. اشتقت إلى بشر"
كدت أبكي. كدت أصرخ. وصلت إلى بشر...؟! إذن هو يعرف امرأة أخرى. سأذبحه، بهذه السكين سأذبحه. امتدت يدي إلى محفظتي أبحث فيها عن السكين، لكني تراجعت، ليكن. إذا جاء سأسمع منه الجواب.
كل شيء يؤخذ بالقوة إلا القلوب. القلوب تختار فقط... إذا لم يكن اختياره لي فهذا شأنه. سأتركه وليذهب إلى الجحيم. المعطف الذي أخلعه لا يهمني من يرتديه بعدي.
"ها أنت ترتدين حذائي"
"هذا حذاؤك؟! كيف"
همست بصوت حزين. رقصت به مع "بول" شهد خطواتي على نهر الراين.
دخلت به بيوت الأصدقاء... مشى في أفخم حارات باريس..."
نظرت إلى الحذاء. تذكرت أسئلتي كلها يوم اشتريته، وأول مرة مشيت به على شاطئ البحر تساءلت: من التي كانت صاحبة هذا الحذاء؟ أين مشت به.؟! ما هو شكلها؟! ما هي هواتفها.. مع من كانت تمشي؟ أين كانت تخبئه؟ وتفاصيل كثيرة رحت أبعثرها لأنها المرة الأولى التي أرتدي بها حذاء من البالة.
"آسفة. الزمن اضطرني لاستخدام حذائك"
لم ترد. وأنا لا أملك بديلاً لكي أعطيها إياه. لكني شعرت باشمئزاز، حذاء واحد يشترك في خطوات امرأتين. هو الآن يسير في الوحل والشوارع المحفورة. هو الآن يركل الزمن المرّ. حاولت إيجاد حوار مع المرأة لكنها لم ترد.
عندما نزلت أمام المنزل لم أر المرأة بجواري. لكني رأيتها أمام المنزل. دخلت. فتحت النافذة. وضعت حقيبتي عند الباب. خلعت الحذاء أيضاً عند الباب أسرعت لصنع القهوة. حملت قهوتي ووقفت أمام النافذة أرقب الشارع بعد غياب قصير عن الحارة. لا، غير معقول، لقد رأيت الحذاء يمشي وحده في الشارع. يقف عند الساحة. يلتفّ. ويغيب... ركضت.
باتجاه الباب أبحث عن الحذاء ظناً مني بأني أتوهم لشدة التعب، والإرهاق من السفر.
لم أجد الحذاء. مشيت حافية وأنا أتأمل المكان، حتى السقف نظرت إليه فلربما طار الحذاء؟! ما المانع مثلاً؟! أحذية كثيرة تطير فجأة تصير معلقة في الهواء كرفٍّ من الحمام بعد أن كانت تغوص في الوحل. خرجت إلى غرفة أخرى. لكنّي لم أجد الحذاء. فتحت باب الشرفةِ المغبرّ. أردت أن ألقي بغضبي في الشارع. تأملتُ المارة كي لا أصيب أحداً فأشجّ رأسه لكن.. كدت.
أصرخ وأنا أرى الحذاء يمشي على الرصيف... ثم ينزل إلى الساحة يقف عند الشارة الحمراء ثم يلتفّ ويتجه بعيداً. ويغيب..