مع يقيني بأنّ كل شيءٍ في الكون متكاملٌ متوازن، إلاّ أن هذه الحياة تبدو لي غريبةً متناقضة...
رفعتُ رأسي عن الأوراق المبعثرة على الطاولة. تمطيّتُ. تحرّكتْ آلام الظهر. تألّمتُ.. ما إن ينتهي الرجلُ من أعباء الأسرة حتى يغرق في أعباء الوظيفة... والدخل محدودٌ محدود... ينتظر الواحد منا سنتين كاملتين ليزيد راتبُه، فإذا بالزيادة لا تشتري كيلو غراماً واحداً من لحم البقر المجنون، والعملُ الوظيفي لا يرحم. المعاملاتُ لا تنتهي. كل معاملةٍ تقبع خلفها مشكلة، وكل مشكلةٍ على الرغم من أن القانون قد أوجدَ لها حلاً، إلاّ أنّ معقّبي المعاملات وأصحابَ الكلمة والموسرين لا يَدَعون المعاملة تمرّ بشكل سليم، فهناك أهواءٌ، وهناك إغراءات، فإذا لم يُفلحوا في زحزحتك عن موقفك، شَهَروا في وجهك سلاحَ التهديد المبطّن أو الصريح. وإذا أثبتّ أنك إنسانٌ تستطيع أن تكبح جماحَ نفسك، وعَرَفوا أنك لا تقبلُ رشوةً، ولا تميلُ مع هوى، ولم تُجْدِ معك تهديدات(بلطجي) أو متنمّرٍ في موقعٍ لامع، كشّروا عن أنيابهم واتهموك في عقلك وتفكيرك وربما وصموك بأنك(رجعيٌ) متخلّف، أو(بيروقراطي) متزمّت، لا تزال تعيش في عصر(الطرابيش) ولا تفهم طبيعةَ المرحلةِ التي يمرّ بها العالم. المرحلة التي تحمل رياح التغيير والتطوّر، وتمورُ بالحركة، وأنتَ. أنتَ على الرغم من أنك موظفٌ في الحلقة الأولى وترأسُ دائرة الدخلِ في وزارةٍ تغرق بالمال، فإنك لستَ أكثرَ من أجيرٍ فقيرٍ أمين، ليس له حظٌّ من الأموال التي تتدفّق على دائرته سوى النظرِ، وازدياد الشعور بالحاجة والحرمان..
آه... الحياةُ المتناقضة كالبحر المتلاطم الأمواج، تغرق في المتناقضات. أن تكون شريفاً، فذلك يعني أن تموت موتاً بطيئاً من العَوَز. وأنتَ تنكَبّ فوق السجلات والملفّات. تنقش في ذاكرتك ما أنجْزتَهُ خلال ربع قرنٍ، وتقارنه بالمردود، فلا تحصل على غير الصدى....
انتشلني رنين الهاتف. جاءني صوتُ(السكرتيرة): "السيدُ معاون الوزير يطلب إليك الحضورَ إلى مكتبه." نهضتُ. ارتديتُ معطفي. لم أعتدْ مقابلةَ الرؤساء إلاّ بالهندام الكامل. فَتَحَ المستخدمُ البابَ. تقدّمتُ بخُطاً مُتزنةٍ، مرفوعَ الرأس. لمحتُ امرأةً جالسةً.. غضضتُ طرفي... "النظرةُ الأولى لك، والثانيةُ عليك" أوليتُ معاونَ الوزير نظراتي.
وقفتُ أمامه كجنديٍ نظاميٍ بعد أن أدّيتُ التحيّة. أشار إليَّ بالجلوس مقابل المرأة. تجاهلتُ إشارته. اخترتُ كرسياً لا تصل إليها نظراتي منه مباشرةً. سمعتُ عبارتَهُ المرّحبة... توجّه بالحديث إليها: "هو ذا الأستاذ سالم الذي حدّثتك عنه." قَفَزَ قلبي بين ضلوعي. تسارعتْ دقّاتُه."ما الأمر؟!" وصلتْ إلى سمعي عبارتُها الأنثوية: "تشرّفنا"
أردفَ سيادته:
-الآنسة من مؤسسة الدراسات الاجتماعية. تقوم بتحضير بحثٍ عن أوضاع العاملين في الدولة.... ولم أجد خيراً منك لتسهيل مهمتها.
تمتمتُ بعبارةِ شكرٍ.. أردفَ سيادتُه:
-يمكنكما الانتقالُ إلى غرفة مكتبك.
نهضتُ. مشيتُ. سمعتُ وَقْعَ خطواتها خلفي."لماذا لم يخترْ أحداً غيري؟! لماذا يُحرجني؟!.. وهل أصلح -أنا- للّقاءات والمقابلات والتحقيقات الميدانية؟!. " جلستُ خلف مكتبي. جلستْ قُبالتي... "يا الله ما أشدّ جرأتَها!! " تبدو جميلةً. شعرُها ينسدل شلالاً على كتفيها... غضضتُ طرفي من جديد..
تشاغلتُ لحظاتٍ بالأوراق.. أتاني صوتُها كتغريدةِ عصفور:..
-أستاذ سالم.. السيدُ معاونُ الوزيرِ أعطاني صورةً كاملةً عن عملك وثقافتك ونزاهتك.... استقامتِك. جديّتِك في العمل، إضافةً إلى مجموعةِ القيم التي مازلتَ تتحلّى بها في هذا الزمن.. لقد أدهشتْني عصاميتُك!"
حديثُها يقطرُ شهداً. نظرتُ إليها مرغماً. وجدتُها تضع رجلاً فوق أخرى... "أستغفرُ الله. من هذه؟! ممثلة؟! "
-أستاذ سالم. الرواتبُ والأجور لا تتناسب وحاجة الموظف... ولا تُناسب جهدَه... طبعاً أقصد الموظّف الشريف الذي لا دخل له سوى راتبه.. لابدّ من...
لابدّ من النظر. ليس من اللباقة أن تنشغل عن محدّثك. اسمعْ صليلَ الحليِ في معصميها... اختلستُ نظرةً خجلى... ياله من منظرٍ... أن تجلس إلى حسناء فاتنةٍ، تُثقِلُ يديها الأساورُ والخواتم... آه... غضضتُ طرفي من جديد.
عاد إليّ الصوتُ الأنثوي حاملاً هموم الحياة التي تُعَشّش في خلاياي...
-أستاذ سالم. في البلاد المتقدّمة تدفع الدولة للموظف ما يناسب حاجته، فإذا تزوّج تضاعف الأجر بحيث يكفي شخصين، فإذا رُزق بولدٍ، ازداد الأجرُ بمقدار الثلث...
زاغت نظراتي وأنا أنقّلها بين وجهها والأوراق... لابدّ من التملّي من هذه المرأة التي تضع يدها على المواجع... نظرتُ إليها هذه المرّة نظرةً فاحصة.
"يا إلهي. ما هذا الجمالُ الخارق؟!... " بلعتُ ريقي. قلتُ في سرّي: "تبارك الخلاّق" لم أعدْ أستوعب شيئاً من حديثها. سَحَرَتني ابنةُ الساحرة. نقلتني إلى فضاءٍ آخر... استلذذتُ هذه المواجع التي تمسّها بعباراتها العذبة. أعجبني تشخيصُ الأمراض. ودِدْتُ لو تستمرّ في حديثها المعسول إلى الأبد.. ولكن"استغفر الله." تحّرك شيءٌ في داخلي. وخزني ضميري. "أنتَ تجلس الآن إلى امرأةٍ نصفِ عارية، ولابدّ أن خيالك سيجرّدها من النصف الآخر عندما تخلو بنفسك... تنظر إليها بإمعانٍ وأنت تعلم أن النظرة سهمٌ مسمومٌ من سهام إبليس. اِتقِ الله يا رجل!؟.
التقطتْ أذناي سؤالاً، لا أدري إن كانت تُلقيه أول مرّةٍ أو أنها تعيده مثنى وثلاث ورباع....
-هل تسمحُ وتطلب لي كأس ماء.
تصبّب العرق من مسامّ جلدي. طلبتُ لها ماءً وقهوة... رُنّ جرس الهاتف.
جاءني صوتُ كاتبةِ التحققّ في دائرةِ الجباية تسألني عن معاني بعض المفردات لحلّ الكلمات المتقاطعة في الصفحة الأخيرة من الجريدة... اعتذرتُ.
-وأنتَ أستاذ سالم. ألا تشرب القهوة؟
-وضعي الصحي لا يسمح لي بتناولها.
كذبتُ هذه المرّة. لم أشتهِ في حياتي القهوةَ كما أشتهيتها الآن، ولكن لن أدعَ نفسي تتمادى في اللهاث وراء شهواتها.... قدّمَ المستخدمُ القهوةَ ثم أغلق الباب خلفه. استدعيته.
-دع الباب مفتوحاً.
قالت بعد أن شربتْ الماء:
-أنتَ إنسانٌ شهمٌ. نبيل.
شكرتها متلعثماً... تابعتُ حركاتِها... أمعنتُ النظر إلى أصابعها التي تُمسك فنجان القهوة واللفافة... "ياالله! لها أظافر طويلة! أنا متأكدٌ أنها لم تغسل ملعقةً أو طبقاً في حياتها!!"
-وكيف تُوَفِّقُ بين مسؤولياتك في العمل والأسرة والمطالعة؟
حاولتْ أن تجرّني إلى حوارٍ.... أجبتُ في البدايةِ باقتضابٍ، لكنها كانت ذكيةً أكثرَ مما كنتُ أتصوّر، وأعترفُ بأنها بدأت تزلزل في نفسي ما كنتُ أعتقده من أن النساء اللواتي تأسرهن المظاهر، لا يتأتّى لهن ذلك إلاّ على حساب أشياء كثيرةٍ، منها الثقافةُ والسياسةُ والسلوكُ الخلقي....
-أستاذ سالم. ألا ترى معي أن الظروف السياسية في المنطقة تنعكس علينا بصورة مباشرة؟..
جمعتُ شجاعتي، وضعتها على طرف لساني. هممتُ بالكلام، لكنني عندما نظرتُ إليها وطالعتني عيناها العسليتان، تلاشت الأفكار، وتوارت الشجاعةُ خلفَ شفافية البحار العسلية التي تحيط بها شواطئُ من اللازورد والفيروز.
شجعتني بابتسامةٍ آسرة. عدتُ استجمع شَتاتَ أفكاري وشجاعتي المهزومة، قلتُ بعد لحظاتٍ:
-يا سيدتي. ليست ظروفُ المنطقةِ السياسيةُ -هي- التي تنعكسُ علينا فحسب، وإنما الناسُ الثقلاء في المنطقة هم الذين يثقلون بظلهم على الناس البسطاء، تصوّري ما يحدث حين يجثم فيلٌ ضخمٌ فوق صدرِ أرنب... نحن هنا فِيَلةٌ وأرانب!....
أعجبتْها الصورة. أو لعلها بدتْ لي كذلك، فعبّرتْ عن إعجابها بضحكةٍ طويلةٍ جعلتْها ترتدّ إلى الخلف حتى تكشّف جزءٌ من فخديها... غضضتُ طرفي -عيب- لن أسمح لنفسي بالتمادي أكثر من ذلك، وقد بتّ أعتقد أن الاسترسال في النظر إليها لن يترك في رأسي فكرةً واحدةً. لذا تابعتُ كلامي بعد أن انتهتْ (سيمفونيتها) الضاحكة، مُحوّلاً نظراتي إلى الجدران.... عبّرتُ عن أفكاري في الظروف المحلية والخارجية، لكنها عند فكرةٍ محددةٍ سمِعَتْها، استوقفتني للاستفسار عما يطرحه الشارع الغربي، بعد أن انتهى من الترويج لأكذوبة النظام الدولي الجديد، من أن ذلك الشارع يتطلّع للتصدي للعروبة والإسلام بعد أن انتهى من الاشتراكية.
قلتُ بجدية:
-يا سيدتي أنا لستُ رجلَ سياسة، وأتمنى لو يُحالُ هذا السؤال إلى واحدٍ من أهله. ولكني أحبّ أن أقول باقتضاب، إن العروبة والإسلام....
ما إن نطقتُ بهاتين اللفظتين(العروبة والإسلام) حتى رأيتُها تسوّي جلستها وتشدّ ثوبها فوق ركبتها، وتنظر إليّ متلهفة سماع ما يصدر عني.. أردفتُ:
-لستُ أودّ فلسفة الموضوع، ولكني بعباراتٍ موجزةٍ أقول، إن النظام الغربي القائم حالياً ليس أشدَّ إحكاماً من النظام الاشتراكي السابق. كلاهما وضعيّ، وإذا كان مقدّراً للاشتراكية أن تتفكك قبل غيرها، فلن يطول الزمن الذي ستسقط فيه الأنظمة الأخرى لأنها تحمل عوامل تفككها في داخلها، ولن تجشّم أحداً من الخارج مشقةَ العمل على إسقاطها... كلّ نظامٍ لا يقوم على العدل والمساواة والخير يسقط، كما تسقط الجدران الهشة أمام عوامل الطبيعة والزمن.
ضحكت المرأة ثانيةً... أردفتُ:
-أما تطلعاتهم للقضاء على العروبة والإسلام فهذه مزاعم وأوهام يتعلقون بها، لأنهم يريدون القضاء على نظام ليس من صنع البشر... نظامٍ يقوم على الرفعة والسمو..
تنفّستُ الصعداء ثم أردفتُ:
-يا سيدتي. هم يُدرّسون طلابهم في الأكاديميات الغربية، أن الأرض العربية العائمةَ على بحار من النفط والتي تختزن في ثناياها ثلاثة أرباع معادن العالم وثرواته الطبيعية، ستدخل ضمن هيمنتهم الخاصة. ولتحقيق ذلك ابتدؤوا بنصب الفزّاعات عند رؤوس أصحاب الحقائب الفارغة، ومن ثم شنّوا حربهم النفسية لزلزلة القيم الروحية في نفوسهم، فخاف الحكّام، ورفعوا راية الهرولة... ولكنّ هؤلاء الساسة الغربيين يعلمون جيداً أننا درسنا في كتاتيبنا منذ خمسة عشر قرناً، ونُدَّرس اليوم طلابنا في المدارس والجامعات أن العروبة والإسلام منّا بمثابة الروح والجسد، وأن الفطرة التي فطرنا عليها في نماءٍ دائم... يولد الفرد منا فتحفظ الشريعة معتقده وانتماءه، وتحفظ له رضاعته وحضانته وعيشَه ونفقَته وزواجَه وعملَه، ووفاتَه وميراثه... لا يجرؤ مشرّعٌ أو متسلّطٌ على المساس بها.
قاطعتني متضاحكةً:
-جميلٌ أمرُ هذه الفزّاعات.
-اطمئني يا سيدتي. هذه الفزاعات ستُسقط أعداداً كثيرةً من المهرولين أصحاب الحقائب الفارغة، ولكن ستثبت في المقابل أعدادٌ أخرى، قد تكون قليلةً ولكنها ستمكث في الأرض، وستكون كالمنارات التي لا يخبو ضوءها.
نظرتُ إليها مليّاً لأتعّرفَ مدى وَقْعِ كلماتي عليها. لم أغضّ الطرف هذه المرة. أنا أعتقد أن النظر إلى المرأة إثمٌ يعاقبُ اللهُ الرجلَ عليه. وأنا إنسان مستقيم، ونظراتي ليست نظراتِ شهوة. إنها أشبه بنظرات طفلٍ صغيرٍ إلى إنسانٍ غريبٍ يراه أول مرّةٍ، فيحاذر الاقتراب منه، ولكنه لا يكفّ عن تأمّله.
قَطَعَ علينا رحلةَ الحوار الساخن دخولُ المستخدم. قلت:
-أدخِل المراجعين.
نهضت المرأة. اقتربتْ منّي معتذرةً. قالت هامسة:
-الحديث معك ممتعٌ شائق... والموضوع الذي أتيتُ من أجله لم نتحدّث فيه، أرى أن نتابع الحديث بعد انتهاء الدوام... سأنتظرك عند مدخل الوزارة.
لم تدعْني أردّ أو أعترض. جلستُ مندهشاً من غزارة أفكارها وعذوبةِ نطقها.
"أستغفر الله". دَخَلَ المراجعون. صَرَّفتُ معاملاتهم. انتابني شعورٌ بالحيرة.... انتشلني رنينُ جرسِ الهاتف. معاونُ الوزير يسأل عن مصيرِ معاملةٍ معقّدةٍ أتعبني أصحابُها بكثرةِ الوساطات والإغراءات والتهديدات. انزعجتُ. أسندتُ رأسي إلى الخلف. أطلقتُ لأفكاري العنان. أشعر الآن أنني محاصر. هَجَمَتْ عليّ صورةُ زوجتي. طلباتُها لا حدودَ لها. موسمُ البندورة كاد ينتهي ولم نعصر للمؤونة. قلت لها:
-انتظري أولَ الشهر.
قالت:
-ولكنّ شمسَ أيلول لا تكفي لجفاف العصير...
أنا أقدّرُ معنى امتعاضِ زوجتي، ولكنْ ماذا بوسعي أن أفعل، ودخلي المحدودُ أشبهُ برجلٍ عقيمٍ يرى ويسمعُ ويشتهي.... ولكن... ولكن لماذا تفهم زوجتي في البندورة والطبخ والغسيل ولا تفهم في السياسة والاقتصاد والأدب والفن كهذه المرأة الجميلة؟!.
حاورتُ نفسي: "هل أعجبتك؟!." -أعوذ بالله!. "أنا لم أُعجب بجمالها أما رأيت أظافرها الطويلة التي تشبه مخالب صقر... أنا أعجبتُ بثقافتها..."
هاجَمتني صورةُ زوجتي من جديد. تذكّرتُ شجارَها هذا الصباح، وما تبعه من تَعدادٍ لمثالبي: "أنا أعتقد مثلك أن الرشوة والهدايا وحضورَ الولائم وركوبَ سيارة الدولة لغير مصلحةٍ عامةٍ أمرٌ غيرُ ورادٍ. ولكن قلْ لي بربك. البندورةُ. كيف ندخل الخريفَ بلا بندورة؟!."
حان وقتُ الانصراف. حملتُ حقيبتي. نزلتُ الدرج. الأفكارُ تتلاطم في رأسي.... عندما وطئت قدماي الرصيف. وجدتُها تنتظر.
استقبلتني بعطرها الأخّاذ. قررتُ الاعتذار، سدّت عليّ المسالك بكلماتها المعسولة. لا أدري كيف استطاعت هذه المرأةُ التأثيرَ عليّ، أنا الإنسان المتزمّت الذي لم أنظر في حياتي إلى غير زوجتي نظرةً شمولية، وها هي امرأةٌ ذاتُ مالٍ وجمالٍ تدعوني. تخطفني. تضعني جانبها في سيارتها الفارهة.. وأنا في قرارةِ نفسي غيرُ مرتاحٍ لأنني أودّ أن أبقى في الظلّ. بعيداً عن الوساوس والهواجس والشبهات. زوجتي تنتظرني الآن على الرغم من الشجار الذي حدث صباح اليوم بسبب البندورة، لابدّ أنها قد وضعتْ الطعام وجلستْ على الكرسي حروناً، ولن تعود إليها دماثتها قبل مضيّ يومين أو ثلاثةَ... منذ أيامٍ عبّرتْ عن دهشتها من ضآلة راتبي وضخامة راتب الخفير الجمركي الذي يسكن إلى جوارنا، فقلت لها: "لا تجوز المقارنة بين أمرين غير متماثلين. بين حلال وحرام، بين شريفٍ ولص، بين عادلٍ وظالم.. فصمتتْ.
أوقفتِ السيارةَ أمام منتجعٍ عام. حرصتْ أن تصعدَ الدرج إلى جانبي. التقط لنا أحد المصورين أكثرَ من صورةٍ. توقفتُ منتبهاً. تساءلت: "هل أنا في كمين؟!." أولتني نظرةً خبيثة. تساءلتُ من جديدٍ: "أمجنونٌ أنا حتى أسايرَها؟! كيف طاوعتُها وجئتُ معها إلى هذا المكان؟!... يبدو أني تورّطت وخُدِعْت، وعليّ أن أدفع الثمن.."
بعد قليلٍ سأتركها، وأؤكّد أنني سأتوب ولن أعودَ لمثلها"استغفر الله العظيم" قلت أسوّغ فعلتي المشينة: "فرقٌ شاسع بين أن يسعى رجلٌ وراء امرأةٍ، وبين امرأة تسعى وراء رجل من أجل نفع عام... ولكن هذا لا يشفع لي في أني ارتكبتُ إثماً سأحاسَب عليه آجلاً إن لم يكن عاجلاً...."
جلستُ قبالتها على الطاولة متوتّر الأعصاب. سمعتُها تُعَبّر عن امتنانها لتلبية الدعوة... صُفّت أطباق الطعام... لا أجد في نفسي شهيةً... هَدَرَ صوتٌ مؤنّبٌ من خلفي:
-والله العظيم عال. عال يا أستاذ سالم!!.
نظرتُ. لم تتبيّن عيناي في البداية معالم وجه صاحبة الصوت المألوف... غامت الدنيا في ناظري، ولكنّ صوتَها الهادر يقع على مسمعي كقصفِ الرعد! انتصبتُ واقفاً.
"من أخبر زوجتي وابنتي، وأتى بهما إلى هذا المكان؟!!. "
تفحّصتُ الوجوه حولي. استوعبتُ الموقف. ألفاظُ زوجتي المؤنّبةُ لا تزال تتوالى كرشقاتِ مدفع. ابنتي منى الطالبةُ الجامعية تتشبث بثوب أمها.
صرختُ بصوتٍ مكتوم: "هذه مهانة. تشهير... كمينٌ أُعدّ بعناية، وأنا المغفّلُ المغرّر به." رجوت زوجتي أن تصمت. أعلنت لها أنها ستفهم حقيقةَ كل شيءٍ الآن. لكنها تابعت سيل عتابها الصاخب:
-البندورة أولَ الشهر. أما الغداءُ مع هذه العاهرة فموعده اليوم!!.
غَلَت الدماء في عروقي. صعّدتُ المرأة بنظراتي الشزرة. "لماذا نصبتِ لي هذا الكمين؟!"
توالت عبارات زوجتي:
-تدّعي أنك محافظ! هيه!!.
قلت لمنى:
-أسكتي أمكِ.. لقد فضحتنا!
انبريتُ للمرأة. تقدّمت نحوها. نظرتُ إلى وجهها بإمعانٍ. أمسكت بتلابيبها.
هززتها بعنفٍ:
-لماذا فعلتِ ذلك؟!.
بدا عليها الارتباك. أنكرتْ. تظاهرتْ أنها لا تعلم شيئاً مما يحدث. قلتُ وأنا أهزّها:
-أنتِ ذئبة. لئيمة. فزّاعة... من دفعك إليّ؟!
احتقن وجهها. تضايقتْ. حاولت أن تفلتَ مني. صدرتْ عنها ألفاظٌ غيرُ مفهومة.
خلّصتْ ثيابها من قبضتي. هَرَبَتْ. لحقتُ بها. أمسكتها من شعرها... قلت لها وأنا أُحكم لفّ شعرها حول قبضتي:
-سأرتكب جريمة!
ارتمتْ منى على يدي. حاولتْ تخليصها. تشبّثتُ بالشعر. دفعتني عنها.
هربتْ. ولكن... "ما هذا!؟.. " لقد بقي شعرُ رأسها كلُّه في يدي. وقفتُ لحظات أردّد النظر بينها وبين الشعر... استرددتُ أنفاسي. نظرتُ إلى منى وأمها نظراتِ استعطافٍ، عدت إلى الشعر الملتفّ على قبضتي، تمتمتُ من دون وعيٍ"فزّاعة... شَعر فزّاعة" ألقيته أرضاً. دستُ عليه. ثم أمسكتُ بيدي منى وزوجتي وخرجنا معاً صامتين