-لم يكن جدك بالرجل الذي يهزم بسهولة، لكن التركية هزمته، بل هزمت معه قطاع الطرق جميعاً.
-يا عم.. لماذا تنعت أخوالي بقطاع الطرق؟
فأجاب العم كمال بهدوء:
-إنه النعت الوحيد الذي ينطبق عليهم.
كنت على وشك الهرب من غرفة العم كمال التي تحولت إلى غرفة تعذيب أرهقت أعصابي وجلدت روحي. كيف السبيل إلى الخلاص من جدران هذه الغرفة التي يشتم فيها أهل أمي ويسخر منهم؟. وفي لحظة الشروع بالفرار شدني صوت العم كمال إلى الكرسي الذي أجلس عليه..
-الأحداث التي سأرويها الآن جعلت الجد يعيش سعادة بالغة، ومع ذلك فقد بطش بذلك الوغد فاضل.
تململت فوق الكرسي وقلت بتوسل:
-ألا ترحمني؟.. إنك تشتم أخوالي.
فأكد العم كمال بحنق:
-أنت لا تستحق الرحمة يا أوغد الأوغاد.. نعم، هذه حقيقة، فنصف دمائك تعود إلى قطاع الطرق أولئك.. ماذا فعلت بحكاياتي الجميلة؟
هاجمني الخوف، فتعابير العم كمال تبدلت خلال ماكان حانقاً.. انقلب لون وجهه إلى الأحمر القرمزي، وحين قفزت لأستنجد بأحد الأطباء، أوقفني عند الخطوة الثالثة بصوت كصفير القطار:
-إلى أين؟
-لأجلب لك الطبيب يا عم.
-تخاف عليّ أن أموت؟.. ضع خوفك في جيبك أيها الولد العاق، فلن أموت قبل أن أحقق الانتقام لأعمامك.
-عن أي انتقام تتحدث؟
-أنت تسكت.. عليك أن تسمع فقط يا وغد الأوغاد.
أي وصف نكد هذا الذي ابتدعه العم كمال لي؟.. لم يترك لي الوقت للاحتجاج، إنما قال بلهجة أوحت لي بعدم مقاطعته:
-ولد خالك بهجت ليكون ظاهرة غريبة في سماء عائلة أخوالك، إن كانت لهم سماء. حتى اسمه جاء من خارج العائلة، فمن المتبع أن عم أخوالك كان يفتح كتاب الله الكريم فوق رأس الطفل المولود حديثاً، ويقرأ في السور المعطرة، ويعثر على الاسم.. إلا خالك بهجت الذي شذ عن هذه القاعدة.. ويقال أن عم أخوالك، وهو رجل تقي ورع، فتح القرآن الكريم فوق رأس هذا الخال، بيد أنه أسرع بغلقه وانطلق مسرعاً باتجاه باب البيت، فاعترض طريقه جدك الذي كاد يطرحه أرضاً:
-ماذا؟
فقال أخوه التقي الورع:
-هل تسموه سافلاً؟
فتساءل جدك بدهشة:
-هل ذكر ذلك كتاب الله؟
-نعم.
-كيف؟
-أول آية قرأتها هي: "وجعلناهم أسفل السافلين".
فجلجل صوت جدك:
-إذن، نسميه "سافلاً" ما دامت هذه مشيئة الرب.
وجلجل صوت جدتك:
-أيها الرجل اخجل.. ماذا تصنع بنا؟
شعرت أن قلبي سيقفز من صدري، لكن صوت العم كمال الزاجر جمد كلمات الاحتجاج في فمي:
-هذا ماحدث، وإياك أن تفتح فمك.. ظل خالك بدون اسم أكثر من شهر بعد ولادته. ومرض الطفل، وفي عيادة الطبيب الذي فحصه جيداً ووصف له الدواء سأل:
-ما اسمه؟
كاد الجد أن يقول للطبيب أن اسمه سافل، لكنه أغلق فمه جيداً، وأجابته الجدة:
-شامل.
فاحتج الطبيب:
-شامل؟.. هذا اسم فلاحين.. انظروا إليه... إنه طفل جميل.. أنا سأسميه لكم باسم ينطبق عليه... سأطلق عليه اسم بهجت.
وكتب اسمه على وصفة الدواء. لم ينم الجد تلك الليلة، فقد تقلب تحت ضمير مثقل بالعذاب، وحين سألته جدتك ماذا حل به، أجابها حانقاً:
-يا امرأة، إننا نخالف مشيئة الله.. فقد قرر الله أن يكون اسمه سافل، وهذا الطبيب الملعون أطلق عليه هذا الاسم الذي يجعل لساني يلتوي في فمي عدة مرات حين أنطقه..
فقاطعته الجدة بغضب:
-إذا لم تقفل فمك فسآخذ ابني وأخرج من البيت.
منذ تلك الليلة قرر الجد أن هذا الولد هو اللعنة التي أسقطها الرب فوق رأسه مدى الحياة.. وتحققت نبوءة الجد هذه.. فقد شب الخال بهجت وكأنه غرس غريب في العائلة.. كان لايشبه إخوته الذين ولدوا قبله، ولا إخوته الذي ولدوا بعده. كانت تصرفاته وسلوكه يوحيان بأنه لم يلد ويترعرع بين الجداول وتحت أشجار النخيل.
كان نظيفاً، أنيقاً في تصرفاته وملابسه إلى الحد الذي تحاشى إخوته الاصطدام به لئلا يحطموه، إذ تولد لديهم انطباع أن أخاهم هذا مصنوع من الزجاج. كان الوحيد الذي يتعذب بصمت هو الجد، غير أنه كان ينفجر بين فترة وأخرى:
-هذا الولد سافل حقيقي.
-يا عم..
-هذا ماكان يردده المرحوم جدك. ولقد أثبت الخال بهجت أنه ولد ليكون أميراً، ففي شبابه ازداد وسامة.. وضع الزيت في شعره، وكذلك العطور، وبات محط أنظار فتيات المدينة.. إن دزينة أو أكثر طارحنه الغرام، وعندما علم الجد بذلك، قيل أن الجميع فر من البيت إلا الجدة التي ذرفت الدموع على ولدها الذي تحطمت على جسده أكثر من عصا. وقرر الجد:
-هذا الحمار الجميل الذي هو ولدي يجب أن يتزوج.
وقال الحمار الجميل:
-لا... سأكمل دراستي أولاً.
تلقى الخال بهجت كل عقوبات أبيه بصبر عجيب... آمن إخوته أن جلد أخيهم جلد جاموس حقيقي، وشعروا بالأسف الذي تحول إلى ألم ممض، لأنهم لم يشبعوه ضرباً عندما كان صغيراً بسبب اعتقادهم الخاطئ، إنه مصنوع من زجاج. ومرت السنوات وأنهى دراسته وتعين موظفاً في المحكمة الشرعية. دار الجد حول رغبته القديمة عدة دورات:
-يجب أن يتزوج.. لا أريد أن يجلب لي الفضائح هذا الحمار بسبب وسامته.
إلا أن الخال بهجت كان يرفض باستمرار. ثم جلب الفضيحة أو المصيبة، لافرق..
-يا عم إنك تسيء لشخص خالي بهجت الذي رحل عن هذا العالم. واصل العم كمال حديثه متجاهلاً ماقلته:
-في عام من الأعوام كثر سفر الخال بهجت إلى بغداد، وفي إحدى سفراته عاد ومعه امرأة ذات شعر أشقر. في البدء، ظن الجد أن الخال جاء بكلب كبير معه، إلا أن الخال بهجت قال أمام كل العائلة:
-هذه زوجتي.
الجدة ضربت صدرها بكلتي يديها، وتساءل الجد بهدوئه الذي يسبق غضبه دائماً:
-زوجتك؟
-ولماذا شعرها أصفر وعيناها زرقاوان؟
-لأنها تركية.
قيل أن سكان أطراف المدينة سمعوا صوت الجد الملعلع:
-تركية؟... أنا سيكون أحفادي من الأتراك؟
-لنتفاهم يا أبي...
-دعني أجد العصا أولاً وسنتفاهم بعد ذلك.
الاضطراب الذي عصف بالعائلة سرعان ما خمد أمام إصرار وعناد الخال بهجت. اضطر الجد أن يقبل التركية في عائلته حين تأكد أنها تتحدث بالعربية، إلا أن هذه التركية كانت تشبه الخال بهجت من ناحية التأنق، عندئذ علمت نساء العائلة كيف يضعن الأصباغ على الأظافر، والألوان في الخدود والجفون. في يوم من الأيام دخل الجد البيت، ثم أسرع خارجاً، معتقداً أنه دخل في بيت آخر، غير أن نساء العائلة ركضن وراءه وسحبنه إلى البيت. في البارحة تدفق البخار خارجاً من عينيه.. قال:
-أين أنا؟... هل حولتن بيتي إلى ملهى؟.. أين أغطية الرؤوس؟... يا أيها الرب الذي فوق.. قصصتن شعوركن؟... أعطوني البندقية.
قيل أن الجد دق عظامهن دقاً، ولم تسلم التركية من عصاه، غير أنها ظلت واقفة على قدميها أمامه. ثم دق عظام أولاده وأحفاده جميعاً، وخلال لهاثه خاطب الخال بهجت:
-خذ تركيتك واخرج من بيتي.
خرج الخال بهجت مع التركية من بيت العائلة الكبير ولم يعد إليه أبداً. منذ ذلك اليوم أصبح هذا الخال الشوكة الدامية في قلب الجد، والغصن الذي تفتحت أوراقه في مكان آخر... لم يعد يذكر أباه وأمه أو أشقاءه. ظل مندفعاً في عالم الأناقة والحياة المترفة، وساعدته التركية في ذلك كثيراً. سكن منطقة السبع قصور الراقية في العمارة. رزقته التركية ثلاث بنات وولدين أصبحوا حديث المدينة لوسامتهم وأناقتهم، ولحقت بالجد أكبر هزيمة حين خرجت حفيداته سافرات في شوارع المدينة. حاول أن يتدخل مرة أخرى، لكن عناد الخال بهجت جعله ينسحب بسرعة. وبمرور السنوات نست عائلته أن لها ابناً اسمه بهجت، كما نست أيضاً عائلة الجد التي شاركت العوائل الموسرة تقاليدها الاجتماعية التي تنظر إليها عائلة الجد بشك وريبة. توقف العم كمال عن الحديث ليسألني:
-هل تعرف أن الدم لايمكن أن يضيع؟
-ما معنى هذا السؤال؟
-الأحداث التي سأرويها هي معنى سؤالي.. ينبغي القول أن الجد لم ينس الهزيمة التي ألحقتها به التركية. ولقد تحقق انتقام الجد من خلال سلوك فاضل ابن خالك حافظ... وفاضل كما تعرفه ولدته أمه ماكراً على الرغم من أدبه ودماثته. قرر فاضل أن يزور عمه بهجت، ولقد فعل.. استقبله العم بترحاب، وأعجبت به بنات العم وكذلك أولاد العم، إلا التركية التي توجست منه شراً. كرر فاضل زياراته لبيت عمه. في إحدى هذه الزيارات كانت عائلة صديقه تزور عائلة العم.. أم عجوز وفتاتان إحداهما عانس والثانية في طريقها إلى أن تكون مثل أختها. كانت فناجين القهوة أمام الجميع، وشرب القهوة في ذلك الوقت كان نوعاً من التقليد الحضاري الذي تمسكت به العوائل الموسرة والرفيعة المستوى، وبدون مقدمات خاطب فاضل الفتاة العانس:
-اقلبي فنجانك.
وفعلت الفتاة ذلك بسرعة.. قاطعت العم كمال:
-ما معنى ذلك؟
-تلك العوائل وخاصة نساءها تؤمن بقراءة الطالع بفنجان القهوة.. قرأ ابن خالك الماكر فنجان الفتاة ثم قال:
-بعد شهر سيطلب يدك رجل يعمل حاكماً.
سقطت الكارثة على الجلسة العائلية، فالفتاة انخرطت بالبكاء. فقد العم أعصابه وطرد فاضل من البيت، لأنه لا يسمح لأحد حتى ولو كان ابن أخيه، أن يمزح مزاجاً ثقيلاً مع ضيوفه، لكنه بعد شهر أرسل ولديه للبحث عن فاضل، وفي مدخل البيت احتضنه بقوة:
-لم أكن أعلم أنك قارئ طالع حقيقي، فلقد خطب حاكم تلك الفتاة. هذه المرة، سقطت الكارثة على رأس فاضل، فالماكر وقع في المصيدة، فهو لا يجيد قراءة فناجين القهوة، لقد قال ذلك مازحاً، وحين رأى عمه والتركية وبنات العم وأولاد العم والفناجين في أيديهم طار إلى باب البيت، لكنهم قطعوا الطريق وضيقوا الخناق عليه. ووضع الخال بهجت فنجانه تحت أنف ابن أخيه الماكر. نظر في الفنجان طويلاً، ثم نظر إلى عمه، وإلى التركية، وإلى أبناء عمه... شعر أنه سيخسر كرامته إلى الأبد وسط هؤلاء الارستقراطيين، وعندئذ تدفق ينبوع الانتقام لجده في أعماقه...
توقف العم كمال عن الحديث ليقول:
-لقد وصلت الحكاية إلى أدرأ أحداثها.
-أكملها يا عم.
-تسلح فاضل بكل مكره.. وضع فنجان عمه على المنضدة وقال:
-لن أقرأ هذا الفنجان يا عم.
التمعت عينا التركية وهدرت:
-بل تقرأ يا فاضل.
-يا زوجة عمي لا يصح ذلك...
-يجب أن تقرأ يا فاضل.
تناول الفنجان مرة أخرى... تمعن فيه ببطء.. كانت أنفاس الجميع تسمع بوضوح، وارتفع صوت فاضل هادئاً:
-امرأة طويلة القامة، تلبس ثوباً أحمر بورود زرقاء صغيرة كلما تزورك.. امتقعت وجوه الجميع.. كان الخال بهجت يرتجف كالمحموم.. وارتفع صوت فاضل للمرة الثانية:
-منذ أكثر من خمس سنوات وهي تعرفك، وأنت تعرفها.. منذ أكثر من خمس سنوات تلتقي بها في بيت بابه واطئ وقريب من كنيسة.
صرخ الخال بهجت:
-كفى أيها الكلب.
قفزت التركية من مكانها صارخة هي الأخرى:
-واصل يا فاضل.
وقرأ فاضل:
-بدأ الظلام يخيم على الفنجان.. الشيء الوحيد الذي أراه هو الحرف الأول من اسمها.. إنه "فاء".
-فريدة.
كذلك قالا ابنا الخال بهجت.. أمسكت التركية بولديها:
-أتعرفانها؟
-كان يقول عنها حين نجدها معه في الدائرة أنها من أقاربه.
وزمجرت التركية في وجه الخال:
-أيها الغادر.
في الليلة الثالثة التي تلت هذه الأحداث، دخل الخال بهجت بيت العائلة القديم، ووقف مسحوقاً أمام الجد:
-لم تعد لي عائلة يا أبي.. أخذت أولادها وتركتني.
تحشرج صوت الجد:
-لقد رأيت الكثير من المهزومين، لكنني لم أر رجلاً مهزوماً مثلك.
فيما بعد عرف الجد الحكاية كلها فدمدم:
-آتوني بذلك الماكر.
قيل أن أحد لم يضربه الجد بقسوة كما ضرب فاضل، وخاطبه بحنق:
-كيف يمكن للرجل الشريف أن ينتقم بخسة؟... كنت تعرف كل ذلك عن عمك، ولم تقرأه في الفنجان.. أيها الكلب كيف استطعت أن تنشر مثل هذه الفضيحة؟.
وفي يوم آخر قال للخال بهجت:
-لقد خالفت إرادة الرب حين غيرت اسمك.. أتعلم ما هو الأسم الذي اختاره لك الرب؟
فأجابه الخال المخذول:
-سافل.
-كان الرب يعرفك جيداً، فكل ما فعلته لا يصدر إلا عن سافل حقيقي.. إنك مازلت حماراً وسيماً، فابحث عن تركيتك، ولا تحطم قلب امرأة أخرى بسفالاتك القادمة، هيا ارحل عنا، فما عدت الغصن الذي يرتوي من شجرتنا.
قيل أن التركية غفرت له خيانته، وعاش بقية حياته معها إلى أن رحل إلى العالم الآخر