عمود من الذهب

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : أحمد زياد محبّك | المصدر : www.awu-dam.org

كانت أسرة منكودة ، شقية الحظ، بائسة فقيرة، فالأب يخرج إلى العمل، قبل شروق الشمس، ليعود بعد غروبها، متعباً مكدوداً، وهو لا يستطيع أن يوفر لعياله إلا بعض الحاجات، فكأنه في سعيه وراء الرزق، إنما يسعى على قدميه، وراء فرس هارب منه، والأم توقظ من بعد خروجه الأولاد، فترسل بعضهم إلى الكتّاب، وترسل بعضهم إلى الأزقة والحارات للعب، ثم تخرج هي لتطوف على جاراتها، تسمع قصة من هنا، وحديثاً من هناك، وتنال خلال ذلك فضلاً من طعام، لتعود إلى البيت، قبل الغروب، فتعد للأفواه الجائعة، والأجساد المتعبة، مايمسك عليها رمقها، ويحفظ لها الحياة.‏

وعلى هذه الحالة، كانت تمر بالأسرة الأيام، رتيبة مملّة، لا سبيل فيها إلى الخلاص، ولا حيلة، بل إنها لتنحدر بالأسرة من فقر قاس مرّ، إلى فقر أقسى وأمرّ.‏

وذات يوم رأت الأم جارة لها في طوق ذهبي، يحلّي عنقها، وهي الجارة التي كانت تشمخ عليها دائماً بغناها، وتفخر أمامها بما لديها من حلي وثياب، والتي لم تكن مثلها في الجمال، فحنقت وتألمت وتذكرت أبويها اللذين زوجاها لرجل فقير معدم.‏

ولما رجع الزوج من عمله في المساء، تلقته باللوم والعتاب، وأثقلت عليه، وهي تندب حظها، وتبكي جمالها الضائع، الذي لا يزينه عقد، مثل عقد جارتها، فأدرك الزوج سرّ غضبها، وعرف أمرها، فقال لها:"غداً آتيك بعقد ذهبي"، فجن جنونها، وفرحت فرحاً، ونسيت حالة زوجها، وغفلت عما هم فيه من بؤس وشقاء، وغدت في فجر اليوم التالي إلى جارتها تزف لها وعد زوجها، وتكيد لها، وتباهي أمامها بجيدها الذي يليق به عقد رائع، ثم طلبت منها أن توسع لها طوق ثوبها، ليكشف عن صدرها، ويغدو العقد فيه أكثر بروزاً وظهوراً، بل أكثر بهاء وروعة.‏

ورجعت إلى البيت تنتظر أوبة زوجها في المساء، ولما سمعت صوته في الباب، أسرعت إليه بالتهليل والترحيب، وهي تتوقع أن يضع الطوق في عنقها، قبل أن يخطو داخل الدار، ولكنها فوجئت به لا يحمل شيئاً، فوجمت، وأطرقت، في خيبة كبيرة، فلم يجد الزوج بدّاً من مداراتها. فأخبرها أنه رأى أن يشتري لها زوجين من الأساور، تحلّي بهما معصمها، فالأساور في يدها أحلى وأجمل، ففرحت بوعده، ونامت هانئة، وهي تحلم بالأساور.‏

وأسرعت في اليوم التالي إلى جارتها، لتخبرها بالأساور التي سيشتريها لها زوجها، وتباهى بها أمامها، وترتجيها أن تقص لها أكمام ثوبها، كي تكشف عن معصميها، فتظهر أساورها، فاستجابت الجارة إلى طلبها، وقد أدركت حماقتها، وكانت تضحك منها.‏

وفي المساء كانت تنتظر زوجها، واستقبلته في الباب بفرح كبير، وهي تتوقع أن يقدم لها الأساور، ولكنها فوجئت به لا يحمل شيئاً، ولكي يتخلص الزوج من غضبها ونكدها، أقنعها بأنه سيشتري لها بدلاً من الأساور خلخالين، تزين بهما قدميها، فإذا مشت سمع الجيران لها رنيناً، فصدقت وعده، ورأت أن الخلخالين في قدميها أحلى، وأجمل، وأكثر إغاطة لجارتها.‏

ومنذ الفجر، أسرعت إلى جارتها تخبرها بوعد زوجها، وتؤكد لها أن الخلخالين في قدميها، أجمل من الطوق في عنقها، أو الأساور في معصمها، ثم رجتها أن تقص لها طرف ثوبها، كي يكشف عن قدميها، فيظهر الخلخالان، فأجابت الجارة طلبها.‏

وفي المساء، انتظرت زوجها، بلهفة كبيرة، ولما دخل عليها لا يحمل شيئاً، خاب أملها، وقعدت حزينة، ولم يجد الزوج بداً من وعد آخر، ينسيها ماهي فيه، ويجد فيه عذراً، من غير أن يذكرها بما هم فيه من بؤس مدقع، فقال لها: "لقد رأيت أن نشتري داراً نرتاح فيها، وهي أفضل من الأساور والخلاخيل والعقود"، فصدقت وعده وفرحت لذلك.‏

وخرج الزوج إلى عمله في الصباح، وبينما هو في بعض الطريق، إذ سمع رجلاً ينادي معلناً عن دار كبيرة، ذات غرف كثيرة، مفروشة، بأثمن الأثاث، معروضة للبيع، ولا يطالب شاريها بثمنها إلا بعد أن يسكنها سبعة أيام، فأصغى الرجل إلى المنادي، وتتبع الصوت، حتى رأى المنادي فسأله عن الدار، فدلّه عليها، وأعطاه مفاتيحها على الفور، وأكد له أنه لن يطالب بثمنها قبل أن تمضي على سكناه فيها سبعة أيام، ففرح الرجل، وأخذ المفاتيح، وطار بها إلى زوجته.‏

واستغربت الزوجة عودة زوجها، ولكنها ما إن رأت المفاتيح في يده، حتى جن جنونها، فأخذت تزغرد وتنادي الجارات، كي يودعنها، ويشاركنها في نقل ما لديها من متاع إلى الدار الجديدة التي اشتراها لها زوجها.‏

وتلقفت المفاتيح، وأسرعت إلى ماعندها من فرش عتيقة تطويها، ومالديها من كراسٍ محطمة تحزمها، ومافي مطبخها من أوانٍ مكسرة تجمعها، وبدأت تهيئ نفسها للانتقال، ولكن زوجها أخبرها أن الدار مفروشة بفاخر الأثاث، وطلب منها ألا تحمل شيئاً معها البتة، فليس عليها سوى الذهاب إلى الدار، وسكناها، فلم تكد تصدق ماسمعت، فأيقظت الأولاد، ومنعتهم من الذهاب إلى ماكان يذهب إليه كل واحد منهم من قبل، ثم قادتهم أمامها، وخرجت وراء زوجها، تحمل صرة ثيابها، التي أبت إلا حملها معها ومضت قاصدة الدار الجديدة.‏

وكانت الجارات قد سمعن زغاريدها، وأصواتها، وجلبتها وضجيجها، فوقفن في نوافذهن، يرين إليها، وهي تخرج مع زوجها وأولادها إلى الدار الجديدة، فأخذت تخطر أمامهن، مزهوة بنفسها، وهي تشير إليهن بيدها، مودعة وتدعوهن إلى زيارتها في الدار الجديدة، وهن يتهامسن عليها، ويتغامزن، غير مصدقات مايسمعن، ومايرين.‏

ولما بلغ الزوج بأسرته الدار الجديدة، فتح الباب، وأدخلهم فيها، ثم تركهم ومضى إلى عمله، من غير أن يدخل الدار.‏

ودهشت الزوجة لما رأت، بل ذهلت، دار كالقصر، بل كجنة الفردوس، باحتها واسعة، فيها بركة كبيرة، تترقرق فيها المياه، تلعب فيها الأسماك، وتحوم على حوافها الطيور، وتظللها شجيرات الورود والياسمين، فتنشر عبقها الناعم اللذيذ، وحول الباحة الواسعة، تمتد الغرف، وهي كثيرة، بشرفاتها، ونوافذها، وقد بدت من وراء النوافذ الستائر الرقيقة الهفهافة، تداعبها النسمات، فتميس، وفي صدر الدار إيوان، تظلله واقية من الخشب الساج، حفرت فيه أحلى النقوش وطعمت بالعاج، وقد مدت في صدر الإيوان أريكة، وبسطت في أرضه سجادة، على حين ترك بابا الغرفتين المطلتين على الإيوان مفتوحين، فبدا أنهما غرفتان للزوار، مفروشتان بأفخر الأثاث.‏

والتفتت المرأة إلى أولادها، وضمتهم إليها، وقالت:"انظروا ماذا اشترى لنا أبوكم". وقد ذهلت بما رأت، ودهشت، وملكت عليها الدار عقلها، فنست أن زوجها معدم فقير، وأنه لا يستطيع شراء غرفة من هذه الدار، فليس لديه من ثمنها شيء، ولو درهم.‏

ثم أخذت تدخل الغرف غرفة غرفة، تتأملها، وتؤخذ بما حوت من فراش وديباج وأثاث وسجاد، ومما لم تكن تحلم به من قبل، أو تفكر فيه، أو تتمناه، أو لم تكن في الحقيقة تسمع به، أو تعرفه، أو تراه.‏

ولما اهتدت إلى الحمام فرحت بها، فأدخلت فيها الأولاد، فغسلتهم، وحممتهم، وأخرجتهم كالورود، وألبستهم مما في الخزائن، من فاخر الثياب، ثم ارتدت هي أجمل مارأته، ونشرت حولها العطور، وماست، وتبخترت، وخطرت في باحة الدار، تتمتع بالأزهار والطيور، وتتمنى لو شهدت جاراتها ماهي فيه.‏

ثم لما كان الغداء، أعدّت لأولادها أطيب ألوان الطعام، مما لم تكن قد ذاقته من قبل، أو كانت تسمع عنه في أحاديث الجارات، مما كن هن أنفسهن لا يذقنه إلا في الولائم والمناسبات، فكانت تأكل وتطعم أولادها وتتمنى أن يشاركهم زوجها الطعام، ولكنها كانت تؤمل عودته في المساء.‏

وأقبل المساء، ولكن الزوج لم يأتِ، فتسلت عنه وأولادها بالقعود في الإيوان، والتفرج على البركة والأشجار والتمتع بالنسمات العليلة، تنفح عبق الأزهار.‏

ثم نعس الأولاد فحملت كل واحد إلى سرير، وغطته بأفخر الأغطية، واطمأنت عليه، ثم قعدت وحدها تنتظر زوجها، ولما تأخّر، وغلبها النعاس، قصدت مخدعها، فإذا سريرها من خشب ساج، وإذا كلتها من لؤلؤ وحرير، وإذا فراشها من دمقس الشام، تفوح في غرفتها الأطايب والبخور، وما هي إلا برهة حتى غلبها النعاس، فنامت.‏

ولم تكد تغفى، حتى سمعت صوتاً أجش، غريباً يخيف، يهتف بها سائلاً:"أقوم؟" فلم تجب، فتكرر السؤال، بصوت راعب: "أقوم"؟ فلم ترد، فتكرر ثالثة: "أقوم"؟، وعمّ الصمت، وعادت إلى النوم.‏

ثم استيقظت في الصباح، على صوت الأطيار، وقد تسلل النور من خلال نافذتها، رقيقاً هادئاً، تلونه الستائر بأزهى الألوان، فتمطت في فراشها، ولم تنهض، وأمضت فترة الضحى مسترخية، ناعمة بالدفء والنعومة والطيب، حتى غمر نور الشمس الزجاج، فنهضت وأعدت لأولادها الفطور، وأخذت تمضي معهم الساعات في تفرج على الغرف، والتسلي باللعب في باحة الدار، ثم أعدت لهم عند الظهر غذاء شهيّاً، وهي ناعمة مطمئنة، وإن كانت قد شغلت قليلاً على زوجها.‏

وفي المساء، انتظرت زوجها، وقد داخلها القلق، وساورتها الشكوك، وذكرت الصوت الأجش الغريب، وسهرت، وطال بها السهر، وقد نام الأولاد، وظلت وحدها، حتى غلبها النعاس، فلجأت إلى فراشها، ونامت، وإذا الصوت الأجش الغريب، الذي سألها في ليلة أمس، يسألها الليلة السؤال نفسه، ثلاث مرات، من غير أن تجيب، وقد فزعت فزعاً، ولكنها لم تلبث أن عادت إلى النوم.‏

وأمضت اليوم الثالث، وهي تنعم بما هي فيه من أسباب النعيم، ولكنها شغلت على زوجها وقلقت، ولما كان المساء، ذكرت ذلك الصوت، وفكرت، فحسبت أنه رجل علم بغياب زوجها، فهو يريد بها أذى، فملكت نفسها وعزمت على تحدّيه، فعمدت إلى هراوة غليظة، جعلتها إلى جانبها في السرير، وأمسكت بها، بحيث تستطيع أن تهوى بها على مصدر الصوت، ثم أغمضت عينيها، وباتت تنتظر الصوت، وقلبها يخفق بشدة، ويدها تقبض على الهراوة، بقوة.‏

وطرق سمعها الصوت، أجش غريباً يخيف:"أقوم"؟ فلم تتحرك، وشدت يدها على الهراوة، وسألها ثانية: "أقوم"؟ وحبست أنفاسها، فسألها ثانية:"أقوم؟" وطوحت بالهراوة بقوة، مغمضة العينين، تجاه الصوت، فاصطدمت بجسد صلد، ثم سمعت صوت شيء ثقيل، يقع على الأرض.‏

فقالت تحدث نفسها: "لقد قتلته"، ثم نهضت بهدوء، ونزلت من السرير، وإذا عمود طويل، ممدد على الأرض، فدنت منه، فإذا هو أصفر اللون، فمالت عليه، بخوف، ثم جسّته، فإذا هو صلد، رطب، له بريق، فتملت فيه، وتأكدت منه، فإذا هو ذهب، وعندئذٍ أدركت سر الدار، فهي مسكونة بالعفاريت، عافها أهلها، وهم راغبون في بيعها، بمافيها، بأبخس الأثمان، وما العفاريت في الحقيقة إلا كنز مرصود لصاحبه، وهي صاحبة هذا الكنز، كما أدركت سرّ غياب زوجها، فهو ينتظر مضي الأيام السبعة، كي يعيدها إلى الدار القديمة،ويرد المفتاح إلى أصحابه، وما عليها هي إذن غير الانتظار، كي تكسر قطعة من عمود الذهب، لتدفع ثمن الدار، وماكان منها إلا أن عمدت إلى ملاءة الفراش، فجذبتها، وغطت بها العمود، وأوت إلى الفراش، ونامت فيه إلى الصباح.‏

وأخذت تمضي الأيام التالية في سعادة ونعيم، وهي وأبناؤها، تمتع نفسها بما كانت تحلم به، وتتمناه، بل بما هو أكثر مما كانت تحلم به أو تتمناه.‏

وفي صباح اليوم الثامن حضر زوجها، فاستقبلته بترحيب كبير، فأبدى تجهماً وأسفاً، ثم رجاها أن تتهيأ والأولاد لمغادرة الدار، وأخذ يشرح لها حقيقة الدار، وهي تصغي إليه بصبر كبير، ثم ذكرها بحالهم، وبماهم عليه من فقر، وعاتبها في طلبها أن يشتري لها عقداً، كما لامها في تصديقها وعده، ثم اعتذر لها، وأكد لها أنه من الممكن أن يعيشوا في الفقر، بسعادة وهناءة، إن هم قنعوا بماهم فيه، ولم يتطلعوا إلى ماعند الآخرين.‏

وكانت الزوجة ماتزال تتحمل الحديث الطويل، بصبر، حتى لم يبق لدى الزوج شيء يقوله، وعندئذٍ قادته إلى مخدعها، ثم وقفت به أمام العمود المغطى، وطلبت منه أن يكشف عنه الغطاء، فتردد، ثم فعل، فإذا هو أمام عمود من الذهب، فدهش لما رأى، فروت له ماكان، ثم طلبت منه أن يكسر من العمود قطعة، ليمضي بها إلى السوق، فيبيعها، ليدفع لأصحاب الدار ثمنها.‏

ففرح الزوج بما رأى، وهنأ زوجته، وبارك لها في صبرها، وقد أدرك أن الأسرة قد ودعت عهد الفقر والبؤس والحرمان، وأنها دخلت في حياة السعادة والهناءة والنعيم.‏

ولما حمل الزوج قطعة من الذهب، وهم بالمضي بها إلى السوق، نادته زوجته، وهو في الباب، فالتفت إليها يسألها عما تريد، فقالت له: "لا تنسَ أن تشتري لي العقد الذي وعدتني به"، فضحك وقال لها: "سأشتري العقد والأساور والخلاخيل، وأنت لا تنسِ دعوة جاراتك إلى زيارتك، في الدار الجديدة"، ثم خرج، وأغلق الباب وراءه.‏

تعليق:‏

تعبر الحكاية عن حلم الفقراء بالخلاص من الفقر، وهو محض حلم، لا يحمل شيئاً من الوعي بالفقر والإدراك لأسبابه ومعرفة سبل الخلاص الواقعية. فالحكاية تتوهم الخلاص في شكل ساخر وأهم عماده الحظ والسحر والجن، وليس الفعل الواقعي الصحيح.‏

والحكاية تجمع الوهم الجميل، والخيال الخصيب، إلى السخرية المرة، والألم الفاجع، فتصور حرمان المرأة من أسباب المتعة والزينة والحياة الرغدة، ثم تصورها وهي تنعم بأقصى أشكال المتع من طعام وشراب وسكن وفراش وأثاث ورياش وحرير وذهب محققة أبعد أشكال الوهم والحلم.‏

والحكاية تؤكد عدة قيم في المرأة، فهي صابرة على فقرها، وهي شجاعة في مواجهة المجهول، وهي حكيمة في تصرفها، وهي ذات حظ جميل، ولكنها في الوقت نفسه تصورها جاهلة بواقعها تحلم بالعقود والحلي والأساور متناسية فقر زوجها.‏

وهكذا فالحكاية ترد الغنى ووفرة المال إلى الحظ والسحر والجن، وتنسى استغلال الأغنياء وسيطرتهم على الأموال وتحكمهم في الأسواق والأسعار والأجور.‏

والحكاية تقوم على بنية ثلاثية تتكرر في كثير من الحكايات كما تقوم على فكرة الدار المسكونة بالجن والعفاريت، والكنز المرصود لصاحبه.‏