الأخوات الثلاث

الناقل : mahmoud | الكاتب الأصلى : أحمد زياد محبّك | المصدر : www.awu-dam.org

كان في أحد البلاد ملك شاب، وسيم الطلعة، قوي الساعد، ولكنه سريع الغضب، حاد الانفعال، وذات يوم أراد أن يتعرف على أحوال الناس، فأمر ألا يضاء في الليل مصباح، وخرج مع الوزير، متنكراً وبدأ يدور في الأحياء، يتنصت على الأقوال، من وراء الأبواب، ولفت نظره ضوء بيت في طرف البلدة، فمضى إليه، حتى إذا بلغه وقف تحت شباكه المضاء، وأخذ يصيخ السمع إلى مايدور في داخله، وهو في أشد الغضب لمخالفة أصاحب البيت أمره، في إضاءة المصباح.

وكان في البيت ثلاث أخوات، صبايا، فقيرات، يعملن في غزل القطن، من أجل تأمين لقمة العيش، فقد توفي عنهن والدهن، ولم يترك لهن من المال شيئاً، ولذلك أضأن المصباح، ليعملن، مخالفات أمر الملك، وبينما كان الملك يصغي إلى مايدور في بيتهن، تحت الشباك، كن يتحدثن ويتمازحن ولقد تأوهت الكبرى منهن، وقالت:‏

- لو يتزوجني الفران عند الملك، لشبعت من الخبز.‏

ثم تأوهت الوسطى، وقالت:‏

- آه لو يتزوجني اللحام عند الملك، لشبعت من اللحم.‏

فضحكت الصغرى، ساخرة منهن، وقالت باعتداد:‏

- أنا، والله، لا أتزوج إلا الملك الشاب، أضربه على خده، فيدير لقدمي القبقاب.‏

ولما سمع الملك قولها، أخذه الغضب، وهم باقتحام الباب، والدخول عليهن، ولكن الوزير طيب نفسه،ورجاه أن ينتظر إلى الصباح، ثم عرض عليه أن يرسل وراءهن، لينظر في الغد في أمرهن، وعندئذ طلب الملك من الوزير أن يضع على الباب علامة ليستدل بها الجند على البيت.‏

وفي صباح اليوم التالي، أحضر الجند الأخوات الثلاث، فأمرالملك أن يدخلن عليه واحدة واحدة، بادئاً بالكبرى، وكانت أمه حاضرة في مجلسه، فلما رأتها دهشت لجمالها، وتمنتها زوجة لابنها الملك الشاب، على الرغم من مظهرها الزري، وثيابها البالية، ولكن أملها خاب، فلقد سأل الفتاة عن أمنيتها، فصرحت أنها تتمنى أن يزوجها من الفرّان، الذي يعمل في قصره، فأمر لها بذلك، وخرجت محملة بالهدايا.‏

ثم دخلت عليه الوسطى، فأعجبت الأم بجمالها الإعجاب كله، على الرغم من مظهرها الدال على فقرها، وتمنتها زوجة لابنها، ولكن أملها خاب، حين سمعتها تتمنى من الملك أن يزوجها من اللحام في قصره، ولقد أجاب الملك طلبها، وأمر لها بذلك، فخرجت محملة بالهدايا.‏

وأخيراً دخلت الصغرى، فبهتت الأم أمام جمالها الفتان، وعزمت أن تتخذها لابنها زوجة، أياً كانت أمنيتها، ثم قوى عزمها حين سمعتها تجيب الملك بجرأة يشوبها الخفر والحياء، ولا تخلومن دلال ودلع:‏

- أنا لا أتزوج إلا الملك الشاب، أضربه على خدّه، فيدير لقدمي القبقاب.‏

ولم يكد الملك يسمع قولها، حتى أمر السياف بضرب عنقها، وقد طاش صوابه، وثار غضبه، وهم بها السياف، ولكن الأم تدخلت، ورجت ابنها أن يمهل الفتاة، فهي صغيرة لا تعقل، فلعلها تراجع نفسها، وتغير قولها، فإن لم تفعل، فليقطع عندئذ رأسها، فأمهلها الملك ثلاثة أيام، ثم توسلت إليه أمه أن يسمح للفتاة أن تقيم عندها، الأيام الثلاثة، فاستجاب الملك لطلب أمه، ومنحها ماسألت.‏

وكانت الأم قد أعجبت بالصغرى إعجاباً فاق إعجابها بشقيقتيها، فأخذتها إلى غرفتها، وأمرت بها الخدم، فأخذت إلى الحمام، فغسلت، وخرجت ترتدي أبهى الثياب، وأفخرها، تفوح منها روائح العطور، وهي تتخطر في مشيتها، رشيقة، فاتنة، تحلّي جيدها أغلى الجواهر، لو رأتها أختها لما عرفتها، ولظنتها إحدى أميرات القصر.‏

ولقد صرحت الأم لها بأنها تتمناها زوجة لابنها ولكنها أكدت لها أنها لا تستطيع أن تفعل أكثر مما فعلت، فالملك الشاب سريع الغضب، حاد الانفعال، وليس أمامها سوى ذكائها، وقدرتها على لفته إليها، وإثارة اهتمامه بها، ثم أخبرتها أن ابنها يخلو بنفسه كل يوم، قبل المساء، في شرفة القصر، فما عليها إلا أن تنزل هي إلى حديقة القصر، لتتمشى أمامه، وتبرز له.‏

ولما كان الأصيل نزلت الفتاة إلى حديقة القصر، ومضت تتثنى بين الزهور، كأنها إحداها، ويمر بها النسيم، فيحمل في كل الأنحاء شذاها، وهي في رشاقة حركاتها، ورقة لفتاتها، كأنها نسمة من النسمات، تمر بالأطيار، فتغرد لها الأطيار، وتطوف بالأزهار، فتعطف عليها الأزهار.‏

وكان ذلك كله يجري تحت بصرالملك الشاب، وهو في شرفة القصر، ففتن بتلك الأميرة الرشيقة، فأرسل الخدم ليدعوها إليه، ولما مضى إليها الخدم، لم يعثروا لها على أثر، إذ كانت قد رجعت إلى غرفتها التي خصتها بها أم الملك، كما رجعت إلى ثيابها البالية القديمة.‏

وفي أصيل اليوم التالي خرجت الفتاة إلى حديقة القصر، بأبهى مما خرجت به أمس من ثياب، فتثنت بين الزهور، وتمايلت تحت الظلال، ونشرت في الأجواء أروع العطور، وشدت بأعذب الأشعار، وجرت وراء الفراشات، أرق من الفراشات.‏

وكان الملك الشاب في شرفة قصره، كعادته، يراها ويسمعها، وهو بها موله مفتون، لا يعرف من هي؟ ولا من تكون؟ حتى إذا أرسل وراءها الخدم، غابت عن العيون.‏

وفي غرفتها بشّرتها أم الملك بافتتان ابنها بها، وصارحتها بأن ابنها قد باح لها بما في قلبه من حبّ لأميرة يراها، ولا يعرف من هي، وهنأتها بما أحرزت من نجاح، ثم تمنت لها أن تحقق في اليوم الأخير، ماتتمناه لها.‏

وفي اليوم الثالث هيأتها الأم بأروع مما هيأتها به من قبل، فخرجت إلى حديقة القصر تتهادى في مشيتها، تسحب وراءها ذيل ثوبها الأبيض، ممشوقة القوام، دقيقة الخصر، بجيد أتلع، وشعر مرسل، تنشر حيثما مشت غيمة من عطر.‏

وكان الملك الشاب في شرفة القصر، ينتظر، وما إن رآها حتى ناداها، ولما رنت إليه دعاها، فلبت الدعاء، وصعدت إليه في شرفته، وجلست تحادثه وتسامره، وهو يقدم لها أشهى الفواكه، وأطيب الشراب، وقد ذهل بحلو حديثها، عن رقيق جمالها، وهو بها موله مفتون، يقبل حيث لثمت من كأس الشراب، ويستقبل نظراتها ببوح وهيام.‏

ومرة كان يناولها كأس الشراب، فتعمدت إفلاتها، من غير أن تشعره بذلك، فانصب بعض الشراب على طرف ثوبها، فأسرع إلى منديله الخاص، يمسح به طرف ثوبها، فماكان منها إلا أن طلبت منه أن يسمح لها بالاحتفاظ بمنديله، فقدمه إليها هدية.‏

وطال بهما السمر والحديث، والأكل والشراب، حتى حل المساء، فاستأذنت منه بالانصراف، ووعدته أن تلقاه، فأبى إلا أن يودعها حتى باب الحديقة، ومضى يهبط معها على درج القصر، وبينما كانا يهبطان عليه معاً، افتعلت زلة القدم، من غير أن تشعره بذلك، فسقط قبقابها من قدمها ووقع إلى أسفل الدرج، فأسرع الملك إليه، فالتقطه، ثم صعد إليها، وانحنى ووضعه أمام قدمها الصغيرة، مسحت على خده الناعم الأسيل، بأناملها البضة الرقيقة، فتناولها بين يديه.‏

وأمام الباب، كان الوداع.‏

ولما كان الصباح، عقد الملك مجلسه، ودعا إليه الفتاة، فدخلت عليه، مع الأم، في هيئتها الأولى، وهي الفقيرة، التي كانت تغزل القطن، فلما سألها عن أمنيتها، أعادت عليه الجواب بأن تتزوج الملك الشاب، تضربه على خده فيدير لقدمها القبقاب، فغضب الملك وأعاد عليها السؤال، فأعادت عليه الجواب نفسه، وعندئذ ثار ثائره، وأمر السياف أن يضرب عنقها على الفور.‏

ولكن الملك فوجئ بها وهي ترفع بأناملها البضة الرقيقة، منديله الخاص، وماتزال به آثار من بقع الشراب، فدهش الملك وسألها:‏

- ماهذا.؟‏

فأجابت: "أنا التي أحضرت لها يوم أمس، من أسفل الدرج، القبقاب، وأنا التي مسحت على خدك بأناملي".‏

فأسرع إليها الملك، يعانقها، ويضمها إليه، على مرأى من الجميع، ثم التفت إلى أمه، فشكر لها حسن تدبيرها، وأعلن في المملكة عزمه على الزواج من تلك الفتاة، فأقيمت في المملكة الأفراح، وقرب الملك إليه الفران واللحام، وجعلهما من خالص ندمائه، وكبار مرافقيه، وأفرد لكل منهما جناحاً في قصره.‏

تعليق:‏

حكاية جميلة، أشبه بالفانتازيا، تحلّق بالمتلّقي إلى عوالم من الفن والجمال والذكاء، تتحقق فيها الآمال والأمنيات بيسر ورخاء، كما في الأحلام.‏

وهي كما يبدو ذات هدف تربوي، ولعلها على الأغلب موجهة إلى الفتيات، لتعلمهن الطموح إلى الزواج من أكثر الشباب فتوة وقوة، ولتعلمهن سبل الذكاء، وأساليب الإيقاع بالرجال، ولكن بالرشاقة والخفر والدلّ، وليس بالمكر أو الخبث أو الاحتيال.‏

والملك الشاب ههنا ليس محض ملك، إنما هو رمز للقوة والشباب، وأبعد مايمكن أن تتطلع إليه الفتاة من عزة وجاه.‏

والحكاية تدلّ بصورة غير مباشرة على حلم الفقيرات بالزواج من الملك والعيش في القصور، ولذلك فهي ترسم صورة لمثل تلك الحياة لتثير الخيال، وتشبع الرغبة.‏