يحكى أن أماً كانت قد ربت ابناً لها وحيداً، بعد وفاة أبيه، وعنيت به، ومنحته حبها وعطفها وحنانها كله، فقد كان بالنسبة إليها كل شيء في حياتها، وشب هذا الابن، وكبر، وكان برّاً بأمّه، وفياً لها، يعمل دائماً على إسعادها، ونيل رضاها. ولما بلغ الابن مبلغ الرجال، وآن له أن يتزوج، عرضت عليه أن تخطب له بعض من تعرف من بنات الجيران، ولكنه اعتذر لها، وطلب منها تأجيل موضوع زواجه. ومرت الأيام، فعرضت عليه ثانية موضوع زواجه، فاعتذر لها كذلك، وطلب تأجيله، ولكنها ظلت تلح عليه، وتحاوره، وتحاول إقناعه، وهو يعتذر ويؤجل، حتى ضاقت أمه به، فسألته عن السبب الذي يمنعه من الزواج، فلم يرد أن يعترف لنا، ولكنها أصرت إلا أن تعرف السبب، فأقر لها بأنه لا يريد الزواج، مادامت هي على قيد الحياة، إذ إنها تكفيه مؤونة العيش، فهي تطبخ له طعامه، وتغسل ثيابه، وتسهر عليه في حالة صحته ومرضه، ولا يريد لها كنة تعكر عليها صفو عيشها، فلامته أمه في ذلك، وعاتبته، وأكدت له أنها ستُسَرّ بكنتها، وستعيش معها بأهنأ مما تعيش الآن، ولكنه رد عليها ذلك كله واعتذر. ولكن الأم لم تفتأ تحاول إقناع ابنها، بضرورة زواجه في حياتها، وهو يعتذر ويؤجل، حتى كان يوم ذهبت فيه أمه في زيارة إلى بعض أقاربها في الريف، ومكثت عندهم شهراً وبعض الشهر، وفي غيابها قرر ابنها أن يوهمها، حين تعود، بأنه قد تزوج، ليجربها، ويختبر إمكان عيش الكنة معها، فلجأ إلى إحدى الغرف، فعلق الستائر على نوافذها، من الداخل، وجدّد طلاءها من الخارج، ووضع على بابها قفلاً، وأغلقها. ولما رجعت الأم من زيارتها، فوجئت بما نال تلك الغرفة من تغيير، فأخبرها أنه تزوج في غيابها، فغضبت وثارت، إذ كيف يتزوج من غير أن تعرف ذلك، ومن غير أن يشاورها في عروسه، بل من غير أن تكون هي خاطبتها له. وأجابها الابن بما يقنع ويرضي، وأكد لها أن عروسه جميلة وغنية، وذات حسب ونسب، فهي من أسرة مرموقة، ووالدها من كبار التجار، فطلبت منه أن تراها، وأن تدخل إلى غرفته لترى مافرش فيها من أثاث، فاعتذر لها، ورجاها أن تؤجل ذلك بضعة أيام، وأكد لها أنه لا يريد أن يكون بينها وبين زوجته في الأيام الأولى من الزواج لقاء، حتى لا يكون بينهما فيما بعد خصام، وتوسل إليها أن تنتظر ريثما تستقر العروس في البيت، وتطمئن وظل يحاورها في ذلك ويداورها حتى سلمت له، وإن لم تكن مقتنعة. وفي اليوم التالي ذهب الابن إلى عمله، وما إن ذهب، وحتى مضت الحماة إلى باب غرفة الكنة، وقرعت عليه قرعات خفيفة، ولكنها لم تسمع جواباً، فقالت: لعلها ماتزال نائمة، فانتظرت بعض الوقت ثم أعادت عليها القرع، ثم أخذت تناديها، وتعرب لها عن حبها وفرحها وتمنيها أن تراها، ولكنها لم تلقَ جواباً، فقالت: "لعلها ماتزال تحس بالغربة، فلأتركها هذا اليوم، ولابد أنها ستحدثني غداً، وستخرج إلي". ولما كان اليوم الثاني أسرعت إليها بعد خروج ابنها، وأخذت تقرع عليها الباب وتنادي، ولما لم تلقَ جواباً، ضاقت بها، وبدأ الغضب يتسلل إلى نفسها، فأخذت تلوم وتعاتب وتعنف معرّضة بكنتها معيّبة عليها سفهها وعجبها بنفسها، وعدم إجابتها نداء حماتها، ثم تركتها وقررت شكايتها لابنها في المساء. ولما رجع ابنها في المساء شكت له صمت زوجته، وعدم إجابتها نداء حماتها، فتوسل إلى أمه ألا تكلف نفسها أمر الحديث معها، ورجاها أن تتركها وشأنها، فضاقت الأم بموقف ابنها، وصمتت على امتعاض واستياء. ولما كان اليوم الثالث أسرعت إلى غرفة كنتها، بعد خروج ابنها، وأخذت تخبط عليها الباب خبطاً، وتناديها، وتقذع لها في القول وتفحش، وتسبها وتشتمها، وتؤكد لها أنها ليست دونها في الأصل أو الجمال، ولما لم تسمع منها جواباً، أدركت أن كنتها تريد بصمتها إغاظتها والكيد لها، فانفجر غضبها وأخذت تعول وتبكي وتنادي الجيران كي يروا إلى الكنة التي تشتم حماتها وتضربها، ثم تدخل إلى غرفتها، وتغلق على نفسها الباب، ولا تأبه بأحد. وأسرعت الجارات إليها، فرأينها ممزقة الثياب، مقطعة الشعر، ملطمة الخدين، فاستنكرت الجارات ذلك، وأدركن أن الكنة هي التي ضربت حماتها، فأرسلن على الفور وراء الابن كي يحضر، ويرى مافعلت زوجته بأمه. ودخل الزوج، فتلقته الجارات باللوم والعتاب والتعنيف، إذ كيف يسمح لزوجته بأن تجرؤ على أمه، وعبن عليه عدم وفائه لأمه التي ربته خير تربية، وتعبت لأجله، وضحت. وكان الزوج يسمع ذلك كله وهو صامت لا ينطق بشيء، حتى أنهت النسوة كل ما لديهن من عتاب ولوم، وعندئذ أعطى مفتاح الغرفة لأمه، وطلب منها أن تدخل على زوجته، مع النسوة، ليؤدبنها، ولما فتحت أمه الباب ودخلت، ودخلت وراءها النسوة، ذهلت الأم، وذهلت النسوة، ثم نظرن جميعاً إلى الأم، وخيم الصمت. تعليق: حكاية طريفة، لا تخلو من مبالغة وإدهاش، ولكنها تدل على حقيقة نفسية اجتماعية، تتمثل في غيرة الحماة من كنتها، ورغبتها في معرفتها حق المعرفة، وأن تتدخل في أمور حياتها، وأن يكون لها دور أساسي في اختيارها وترتيب أمور بيتها وعيشها وحياتها، وهي جميعاً ظواهر اجتماعية تدل على غياب استقلال الفرد، كما تدل على حرمان المرأة من تحقيق ذاتها، وهي صبية شابة في ظل زوجها، ثم تسعى بعد ذلك إلى تحقيق ذاتها بقوة في كهولتها في ظل ابنها، ويكون ذلك التحقيق لذاتها على حساب كنتها، وبقدر كبير من التدخل غيرة وانتقاماً، ولكن بصورة غير واعية، وبدعوى رغبتها في تحقيق مصلحة ولدها. والحكاية تفضح الحماة، وتدينها، وتكشف دواخلها، وهي مثال نادر في الحكايات الشعبية، إذ يسعى معظمها إلى إدانة الكنة بخلاف هذه الحكاية. وتبدو الحكاية قوية البناء، قوية التأثير، وهي لا تخلو من ذكاء، وحسن اختيار للعناصر والجزئيات والشروط، ولعل أبرزها فكرة الكنة المتوهمة والتي لاوجود لها في الحقيقة، وهي فكرة ذكية، وعليها بنيت الحكاية. ولعل الحكاية من صنع كنّة أرادت أن تتوجه بها إلى كل حماة، وهي في الأحوال كلها تدلّ على مجتمع متخلّف، تطغى فيه مشكلة الحماة والكنة، وتدل على غياب الحرية الحقيقية للجميع، سواء في ذلك الزوج والكنة والحماة.
يحكى أن أماً كانت قد ربت ابناً لها وحيداً، بعد وفاة أبيه، وعنيت به، ومنحته حبها وعطفها وحنانها كله، فقد كان بالنسبة إليها كل شيء في حياتها، وشب هذا الابن، وكبر، وكان برّاً بأمّه، وفياً لها، يعمل دائماً على إسعادها، ونيل رضاها.
ولما بلغ الابن مبلغ الرجال، وآن له أن يتزوج، عرضت عليه أن تخطب له بعض من تعرف من بنات الجيران، ولكنه اعتذر لها، وطلب منها تأجيل موضوع زواجه.
ومرت الأيام، فعرضت عليه ثانية موضوع زواجه، فاعتذر لها كذلك، وطلب تأجيله، ولكنها ظلت تلح عليه، وتحاوره، وتحاول إقناعه، وهو يعتذر ويؤجل، حتى ضاقت أمه به، فسألته عن السبب الذي يمنعه من الزواج، فلم يرد أن يعترف لنا، ولكنها أصرت إلا أن تعرف السبب، فأقر لها بأنه لا يريد الزواج، مادامت هي على قيد الحياة، إذ إنها تكفيه مؤونة العيش، فهي تطبخ له طعامه، وتغسل ثيابه، وتسهر عليه في حالة صحته ومرضه، ولا يريد لها كنة تعكر عليها صفو عيشها، فلامته أمه في ذلك، وعاتبته، وأكدت له أنها ستُسَرّ بكنتها، وستعيش معها بأهنأ مما تعيش الآن، ولكنه رد عليها ذلك كله واعتذر.
ولكن الأم لم تفتأ تحاول إقناع ابنها، بضرورة زواجه في حياتها، وهو يعتذر ويؤجل، حتى كان يوم ذهبت فيه أمه في زيارة إلى بعض أقاربها في الريف، ومكثت عندهم شهراً وبعض الشهر، وفي غيابها قرر ابنها أن يوهمها، حين تعود، بأنه قد تزوج، ليجربها، ويختبر إمكان عيش الكنة معها، فلجأ إلى إحدى الغرف، فعلق الستائر على نوافذها، من الداخل، وجدّد طلاءها من الخارج، ووضع على بابها قفلاً، وأغلقها.
ولما رجعت الأم من زيارتها، فوجئت بما نال تلك الغرفة من تغيير، فأخبرها أنه تزوج في غيابها، فغضبت وثارت، إذ كيف يتزوج من غير أن تعرف ذلك، ومن غير أن يشاورها في عروسه، بل من غير أن تكون هي خاطبتها له.
وأجابها الابن بما يقنع ويرضي، وأكد لها أن عروسه جميلة وغنية، وذات حسب ونسب، فهي من أسرة مرموقة، ووالدها من كبار التجار، فطلبت منه أن تراها، وأن تدخل إلى غرفته لترى مافرش فيها من أثاث، فاعتذر لها، ورجاها أن تؤجل ذلك بضعة أيام، وأكد لها أنه لا يريد أن يكون بينها وبين زوجته في الأيام الأولى من الزواج لقاء، حتى لا يكون بينهما فيما بعد خصام، وتوسل إليها أن تنتظر ريثما تستقر العروس في البيت، وتطمئن وظل يحاورها في ذلك ويداورها حتى سلمت له، وإن لم تكن مقتنعة.
وفي اليوم التالي ذهب الابن إلى عمله، وما إن ذهب، وحتى مضت الحماة إلى باب غرفة الكنة، وقرعت عليه قرعات خفيفة، ولكنها لم تسمع جواباً، فقالت: لعلها ماتزال نائمة، فانتظرت بعض الوقت ثم أعادت عليها القرع، ثم أخذت تناديها، وتعرب لها عن حبها وفرحها وتمنيها أن تراها، ولكنها لم تلقَ جواباً، فقالت: "لعلها ماتزال تحس بالغربة، فلأتركها هذا اليوم، ولابد أنها ستحدثني غداً، وستخرج إلي".
ولما كان اليوم الثاني أسرعت إليها بعد خروج ابنها، وأخذت تقرع عليها الباب وتنادي، ولما لم تلقَ جواباً، ضاقت بها، وبدأ الغضب يتسلل إلى نفسها، فأخذت تلوم وتعاتب وتعنف معرّضة بكنتها معيّبة عليها سفهها وعجبها بنفسها، وعدم إجابتها نداء حماتها، ثم تركتها وقررت شكايتها لابنها في المساء.
ولما رجع ابنها في المساء شكت له صمت زوجته، وعدم إجابتها نداء حماتها، فتوسل إلى أمه ألا تكلف نفسها أمر الحديث معها، ورجاها أن تتركها وشأنها، فضاقت الأم بموقف ابنها، وصمتت على امتعاض واستياء.
ولما كان اليوم الثالث أسرعت إلى غرفة كنتها، بعد خروج ابنها، وأخذت تخبط عليها الباب خبطاً، وتناديها، وتقذع لها في القول وتفحش، وتسبها وتشتمها، وتؤكد لها أنها ليست دونها في الأصل أو الجمال، ولما لم تسمع منها جواباً، أدركت أن كنتها تريد بصمتها إغاظتها والكيد لها، فانفجر غضبها وأخذت تعول وتبكي وتنادي الجيران كي يروا إلى الكنة التي تشتم حماتها وتضربها، ثم تدخل إلى غرفتها، وتغلق على نفسها الباب، ولا تأبه بأحد.
وأسرعت الجارات إليها، فرأينها ممزقة الثياب، مقطعة الشعر، ملطمة الخدين، فاستنكرت الجارات ذلك، وأدركن أن الكنة هي التي ضربت حماتها، فأرسلن على الفور وراء الابن كي يحضر، ويرى مافعلت زوجته بأمه.
ودخل الزوج، فتلقته الجارات باللوم والعتاب والتعنيف، إذ كيف يسمح لزوجته بأن تجرؤ على أمه، وعبن عليه عدم وفائه لأمه التي ربته خير تربية، وتعبت لأجله، وضحت.
وكان الزوج يسمع ذلك كله وهو صامت لا ينطق بشيء، حتى أنهت النسوة كل ما لديهن من عتاب ولوم، وعندئذ أعطى مفتاح الغرفة لأمه، وطلب منها أن تدخل على زوجته، مع النسوة، ليؤدبنها، ولما فتحت أمه الباب ودخلت، ودخلت وراءها النسوة، ذهلت الأم، وذهلت النسوة، ثم نظرن جميعاً إلى الأم، وخيم الصمت.
تعليق:
حكاية طريفة، لا تخلو من مبالغة وإدهاش، ولكنها تدل على حقيقة نفسية اجتماعية، تتمثل في غيرة الحماة من كنتها، ورغبتها في معرفتها حق المعرفة، وأن تتدخل في أمور حياتها، وأن يكون لها دور أساسي في اختيارها وترتيب أمور بيتها وعيشها وحياتها، وهي جميعاً ظواهر اجتماعية تدل على غياب استقلال الفرد، كما تدل على حرمان المرأة من تحقيق ذاتها، وهي صبية شابة في ظل زوجها، ثم تسعى بعد ذلك إلى تحقيق ذاتها بقوة في كهولتها في ظل ابنها، ويكون ذلك التحقيق لذاتها على حساب كنتها، وبقدر كبير من التدخل غيرة وانتقاماً، ولكن بصورة غير واعية، وبدعوى رغبتها في تحقيق مصلحة ولدها.
والحكاية تفضح الحماة، وتدينها، وتكشف دواخلها، وهي مثال نادر في الحكايات الشعبية، إذ يسعى معظمها إلى إدانة الكنة بخلاف هذه الحكاية.
وتبدو الحكاية قوية البناء، قوية التأثير، وهي لا تخلو من ذكاء، وحسن اختيار للعناصر والجزئيات والشروط، ولعل أبرزها فكرة الكنة المتوهمة والتي لاوجود لها في الحقيقة، وهي فكرة ذكية، وعليها بنيت الحكاية.
ولعل الحكاية من صنع كنّة أرادت أن تتوجه بها إلى كل حماة، وهي في الأحوال كلها تدلّ على مجتمع متخلّف، تطغى فيه مشكلة الحماة والكنة، وتدل على غياب الحرية الحقيقية للجميع، سواء في ذلك الزوج والكنة والحماة.