يحكى أن امرأة أقامت عند زوجها سنين كثيرة، لم تحمل فيها، وذات يوم كانت راجعة فيه مع زوجها إلى البيت ليلاً، فمرا بكلب أسود، نبحهما، فجفلت المرأة، وقالت في سرها: "لو رزقني الله بنتاً، لزوجتها لكلب أسود" ومرت الأيام، وإذا المرأة تحسّ بآثار الحمل، فأدركت أن الله قد أجاب دعاءها، ولكنها خشيت أن ترزق ببنت، فتضطر عند ئذ للوفاء بنذرها، وكان ما خشيت منه، إذ رزقها الله ببنت، ففرحت بها هي وزوجها، فقد ملأت حياتهما أنساً وبهجة، ونسيت الأم نذرها. ومرت الأيام فكبرت البنت، وأرسلتها أمها إلى الكتاب، لتتعلم القراءة والكتابة، وذات يوم، كانت البنت راجعة فيه من الكتاب إلى البيت، مر بها كلب أسود ونبحها، فخافت، وابتعدت عنه، فتبعها، وقال لها: "قولي لأمك، أوفي نذرك"، ومضت البنت إلى البيت، ونسيت أن تقول لأمها ما قاله لها الكلب، وفي اليوم التالي قال لها الكلب، ما قاله لها في اليوم الأول، ولكنها نسيت أيضاً، وكذلك الحال في اليوم الثالث، وفي اليوم الرابع سألها الكلب لم لا تقول لأمها ما يوصيها به ، فأجابته بأنها تنسى، ووعدته أن تفعل، فحذرها من النسيان، وأعطاها قطعاً من الحلوى، وطلب منها أن تضعها في جيبها، ولما بلغت البنت البيت نسيت أيضاً أن تقول لأمها ما أوصاها به الكلب، ولكن الأم رأت قطع الحلوى في جيب ابنتها، فسألتها عن مصدرها، فذكرت الكلب، وأخبرتها بما أوصاها به، وذكرت الأم نذرها، وحزنت لذلك، ولما جاء زوجها في المساء أخبرته بالأمر كله، فحزن الأب، وقال للأم: "لابد من الوفاء بالنذر". وبات الأبوان يهيئان نفسيهما لفراق ابنتهما، وكأنهما في كل يوم على موعد مع الكلب الأسود. وذات يوم قرع الباب، فخفق قلب الأم، وأسرعت تفتحه، وإذا الكلب الأسود في الباب، فأدركت قصده، ورجعت إلى البنت، وقالت لها: "تهيئي يا بنتي"، ثم حكت لها ما كان من أمر النذر، فاستجابت البنت، ودخلت على أبيها فودعته، ثم ودّعت أمها، وخرجت إلى الكلب، ومضت تسير إلى جانبه، تاركة أبويها يبكيان. وسار الكلب بالبنت، حتى بلغا خارج البلدة، فطلب منها أن تصعد على ظهره، فصعدت، فطار بها، وحلق في أجواء الفضاء، وهي متشبثة به، وبعد زمن من التحليق سألها: "كيف ترين الأرض؟" ، فأجابت: "مثل صينية كبيرة"، فأخذ يعلو بها أكثر فأكثر، ثم أعاد عليها السؤال، فأجابت: "مثل الصحن الكبير"، فأخذ يعلو بها أكثر فأكثر، ثم أعاد عليها السؤال، فأجابت: "مثل صحن صغير"، وعندئذ حط بها، فإذا هي أمام مخدع فخم، فرشه من الدمقس، وغطاؤه من الحرير، تتصاعد من حوله أبخرة المسك والكافور، وتركها الكلب هناك، وغاب. وأخذت تجول في أنحاء الغرفة، مدهوشة لما ترى من أثاث ورياش، ثم أطلت من النافذة، فرأت أمامها فناء واسعاً، في وسطه بركة ماء، تترقرق أمواجها الناعمة، وتسبح فيها الأسماك الملونة، وتتنقل على أطرافها الطيور، وتحيط بها الأشجار المزهرة، من شتى الأنواع، ونزلت إلى حديقة القصر، وأخذت تتسلى وتمرح، حتى كان المساء، فرجعت إلى مخدعها، وقدمت لها الخادمة، بعد عشاء فاخر، فنجان قهوة، فشربته، فأحست بنعاس لذيذ، فأوت إلى فراشها، واستسلمت لنوم عميق. وفي الصباح نهضت لتمضي النهار كله في حديقة القصر، تناغي الأطيار، وتداعب الأسماك، وتتفرج على الزهور، وفي المساء شربت فنجان القهوة، وأوت إلى الفراش، وظل هذا دأبها، تمرح وتتسلى وتلعب، لا تحس بكدر ولا قهر، ولا ضيق، ولكن ذات يوم شعرت بشيء من الدوار، فأدركت أنها حامل. وفي يوم آخر نعق غراب، فذكرت أبويها، وتمنت لقاءهما، وأخذت تبكي، وعلى الفور ظهر الكلب الأسود، فطلب منها أن تمتطي ظهره، ففعلت، فحلق بها في أجواء الفضاء، حتى سألها مثل ما سألها من قبل، فلما قالت له إنها ترى الأرض مثل صحن صغير، حط بها، فإذا هي أمام دارها، ودخلت على أبويها، ففرحا بها، وفرحت بهما، وأمضت معهما ساعة، أو بعض الساعة، وإذا الكلب ينبح، فودعت أبويها، وحملها الكلب على ظهره، ورجع، مثلما جاء بها. وفي القصر عادت إلى حياتها التي اعتادت عليها، ولما كان المساء، قدمت لها الخادمة فنجان قهوة، فأخذته، وتظاهرت بارتشافه، حتى إذا خرجت الخادمة رمته جانباً، واستلقت في سريرها، وتظاهرت بالاستسلام للنوم، وكانت أمها هي التي نصحت لها بذلك، حين حدثتها عن فنجان القهوة. ولم يمض بعض الوقت، حتى برز شاب وسيم الطلعة، كأنه البدر، فنهضت تحييه وتستقبله، فاضطرب أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن اطمأن إليها، ورجاها ألا تبوح لأحد بسره، وأخبرها أنه يأتيها كل ليلة، وهي نائمة، وأنه ابن ملك الجان. وفرحت البنت بالشاب، زوجها، وأنست به، واطمأنت إليه، وأمضيا الليل في جنى ووصال، ثم استسلما لنوم هانئ، وقبيل الفجر أفاقت وأخذت تنظر إليه وهو نائم، وتتملى وسامته، ثم لاحظت شيئاً ما تحت قميصه، فوق السرة، فدفعها الفضول إلى معرفة ما يخفيه، فكشفت قميصه بهدوء، فإذا هي ترى فوق سرته قفلاً ومفتاحاً، فدهشت لما رأت. وأدارت المفتاح في القفل، فانفتح عن سرداب عميق، ونزلت فيه، فإذا هي في نهايته أمام سوق كبيرة، فيها جميع أنواع الصناعات والأعمال، فأخذت تسير في السوق تتفرج على النجارين والصاغة والخياطين، وهي ترى الجميع منهمكين في العمل، ثم مرت بنجار يصنع سريراً صغيراً، فسألته لمن السرير، فأجابها بأن زوجة ابن الملك حامل، وأن هذا السرير هو للوليد المنتظر، وأدركت أنها هي المقصودة، فخرجت على الفور، وأغلقت القفل بالمفتاح. وتنبه زوجها، فاستيقظ، ولامها على ما فعلت، ثم نادى الكلب الأسود، فمثل بين يديه، فأمره بحمل البنت إلى الفلاة، وذبحها، وإحضار كأس من دمها ليشربه، وتوسلت إليه، تستعطفه وترجوه العفو، فأبى، فاستسلمت، وحملها الكلب على ظهره، ومضى بها إلى أرض منقطعة، وتركها هناك، ثم اصطاد طائراً، فذبحه، واعتصر دمه، وملأ به كأساً قدمه إلى ابن الملك. ومضت البنت تسير في الفلاة أياماً وليالي طويلة، وحيدة، الجوع يتعبها، والسير يضنيها، والجنين في أحشائها يوهن قواها، حتى لاح لها من بعيد قصر شامخ، فاقتربت منه، وأخذت تلتقط ما تعثر عليه من بقايا الطعام مما يُلقى خارجه، وبينما هي كذلك، إذ أقبلت عليها خادمة تدعوها إلى دخول مطبخ القصر، وسمحت لها أن تقيم مع الخدم، وأوصتها ألا تخرج، كي لا يراها أحد، وتوسلت إلى الخدم ألا يحدثوا أحد عنها. وأمضت البنت مع الخدم أياماً، تساعدهم وتتزلف إليهم، كي تحظى بعطفهم عليها، حتى كان يوم أفاقت فيه، وإذا هي في المخاض، فساعدتها الخادمات، حتى وضعت ولداً ذكراً، ما إن رأته الخادمات حتى دهشن دهشة عظيمة، فقد كان على سرته قفل ومفتاح، وهيأت الخادمات للولد ولأمه كل ما يحتاجانه من ثياب وفراش وطعام، وأصبح حديث الولد الذي على سرته قفل ومفتاح حديث الجميع، حتى بلغ سيدة القصر، فأمرت بإحضاره على الفور، هو وأمه. ولما رأت السيدة الولد، نظرت إلى أمه نظرة احتقار، وسألتها من تكون، فروت لها ما كان من أمرها كله، وهي ترتجي العطف عليها، ولكن الغيظ ملأ صدر سيدة القصر، فالشاب والد الطفل هو ابنها، وهو وريث عرش ملك الجان، وكانت تريد تزويجه من ابنة أختها، وموعد حفل الزفاف بعد يوم أو يومين، وكتمت سيدة القصر غيظها ثم التفتت إلى أم الولد، تشترط عليها كي تسمح لها بالبقاء في القصر أن تأخذ ستائر القصر كلها إلى ضفة النهر، وتغسلها وترجع بها في اليوم نفسه، ثم قدمت لها قطعة صابون صغيرة، أوصتها أن ترجع بها، من غير أن يذوب منها شيء. وحملت الأم الستائر، ومضت إلى ضفة النهر، وأخذت تتأمل قطعة الصابون الصغيرة، وتبكي، وإذا علاء الدين يمر بها، فيسألها عن سبب بكائها، فتروي له حكايتها كلها، فيأمر الستائر، فإذا بها قد غسلت ونظفت وجفت، وطويت في لمح البصر، ثم قدم للأم ثلاث شعرات، نصح لها أن تحرق إحداها حين تشعر بالخطر. وحملت الأم الستائر، ورجعت بها إلى القصر، وقدمت قطعة الصابون إلى سيدة القصر، من غير أن يذوب منها شيء، فضاقت بها ذرعاً، ثم ألقت إليها بولدها، وأمرتها أن تلزم المطبخ، وألا تخرج منه، فالليلة عرس ابنها، وطلبت منها أن تفرم أكواماً كبيرة من البصل. ولما كان المساء، أقيمت الأفراح في فناء القصر، وأنشدت المغنيات، ورقصت الراقصات، والعروس قاعدة على منصة عالية، تنتظر مجيء ابن الملك، وأشفقت الخادمات على الأم وطفلها، فأخذن يساعدنها في فرم البصل، حتى فرغن منه كله، ولما جاء ابن الملك، كن ارتدين أفضل ما لديهن من ثياب، وخرجن يحملن الشموع، وكانت الأم وطفلها معهن، تشاركهن، فكانت تحمل شمعة بيد، وطفلها بيد، وكان عليهن أن يمررن جميعاً أمام ابن الملك وعروسه. ولما صارت الأم وطفلها أمام العروس، أفلتت الشمعة من يدها، فسقطت على ثوب العروس، فاحترق، واشتعلت فيه النار، فأسرعت الخادمات والمدعوات وأم العروس إلى إطفاء النار، وفي تلك الأثناء كانت الأم قد ألقت بطفلها بين يدي ابن الملك وقالت له: "خذ ابنك، وانظر القفل والمفتاح على سرته"، وكان ابن الملك قد عرفها، فنهض إليها وعانقها. وعلى الفور حضر الكلب الأسود، فامتطى ابن الملك ظهره، وأردف وراءه زوجته، وكان الطفل بين يديه، وانطلق الكلب بهم، وتنبه القوم إلى هرب ابن الملك، فركضوا وراءه، وأحست زوجته بالخطر، فأشعلت شعرة من الشعرات الثلاث التي كان علاء الدين قد أعطاها إياها، وألقتها، فاشتعلت وراءها النيران. ولكن القوم داسوا النيران وأطفؤوها، ولحقوا بهم، فأشعلت شعرة ثانية وألقتها، فامتلأت البقاع وراءها بالبحار، ولكن القوم خاضوا البحار، ولحقوا بهم، فأشعلت الشعرة الثالثة وألقتها، فإذا جبال شاهقة تنتصب وراءها، وتفصلها عن القوم. وعند ئذ حلق الكلب الأسود في السماء وطار، وظل يعلو ويعلو، حتى بدت لهم الأرض مثل صحن صغير، وعند ئذ حط على الأرض، وإذا البنت وزوجها وطفلهما أمام دار أبويها، فأخذت تقرع عليهما الباب. وكان أبواها في غيابها قد أرهقهما الأسى والحزن، حتى قعد بهما طريحي الفراش، وأتعبهما البكاء والعويل، حتى فقدا البصر، فهما مقعدان لا يبصران، وما من أحد يطرق عليهما الباب، سوى الأولاد يقرعون الباب ساخرين بهما، حتى إنهما ما عادا يجيبان أحداً، ولا يفتحان الباب. وكانت البنت ماتزال واقفة بالباب تقرع وتنادي، وهما لا يجيبان، وإذا الكلب ينبح، ولما سمعت الأم نباح الكلب، أدركت أن ابنتها بالباب، فأخذت تزحف حتى وصلت إلى الباب، ففتحته، وما إن رأت أمامها ابنتها، حتى عاد إليها بصرها، كما عادت إليها قوتها، فنهضت إلى ابنتها، وعانقتها، وطال العناق والبكاء، ثم مضت البنت إلى أبيها، وما إن دخلت عليه حتى رد إليه بصره، ونهض معافى، ليعانق ابنته. ثم رحب الأبوان بزوج ابنتهما، وفرحا بالطفل، وقرر الزوج الإقامة مع زوجته عند أبويها، قانعاً بالفقر، متخلياً عن الغنى، وعيش القصور، مفضلاً بني الإنسان، على بني الجان. تعليق: حكاية متميزة، عمادها اغتراب البنت وبعدها عن أهلها، ومعاناتها في أثناء ذلك، ومقاساتها الأهوال، ثم عودتها إليهم، وهي أهنأ بالاً، وأحسن حالاً، كي يلتم الشمل. والحكاية مملوءة بالسحر والخوارق والعجائب، وتؤكد تعلق الإنسان بما هو غير معقول وغير طبيعي، وفيها عناصر حكائية مكرورة في كثير من الحكايات، منها الشعرات الثلاث، ومسخ ابن الملك، والأمر بالذبح، والافتداء بذبح طائر، والمخلِّص علاء الدين، والبنية الثلاثية واضحة في الحكاية، ولا سيما في طلب سيدة القصر من الفتاة ثلاثة طلبات. والحكاية تدل على حاجة الإنسان إلى الولد، ولاسيما المرأة، كما تدل على إعلاء الحب على الملك، فقد تخلى الملك آخر الأمر عن ملكه، ليعيش هانئاً مع زوجته، وتدل الحكاية أيضاً على إحساس الفقير بفقره، ورغبته في الخلاص منه، وهو خلاص متحقق بوساطة الأمنية والحلم، من خلال زواج البنت الفقيرة من ابن ملك الجان. وفي الحكاية ملامح من قصة يوسف عليه السلام وقد غاب عن أبيه، فعمي من الحزن والبكاء عليه، ثم حين عاد إليه ارتد بصيراً.
يحكى أن امرأة أقامت عند زوجها سنين كثيرة، لم تحمل فيها، وذات يوم كانت راجعة فيه مع زوجها إلى البيت ليلاً، فمرا بكلب أسود، نبحهما، فجفلت المرأة، وقالت في سرها:
"لو رزقني الله بنتاً، لزوجتها لكلب أسود"
ومرت الأيام، وإذا المرأة تحسّ بآثار الحمل، فأدركت أن الله قد أجاب دعاءها، ولكنها خشيت أن ترزق ببنت، فتضطر عند ئذ للوفاء بنذرها، وكان ما خشيت منه، إذ رزقها الله ببنت، ففرحت بها هي وزوجها، فقد ملأت حياتهما أنساً وبهجة، ونسيت الأم نذرها.
ومرت الأيام فكبرت البنت، وأرسلتها أمها إلى الكتاب، لتتعلم القراءة والكتابة، وذات يوم، كانت البنت راجعة فيه من الكتاب إلى البيت، مر بها كلب أسود ونبحها، فخافت، وابتعدت عنه، فتبعها، وقال لها: "قولي لأمك، أوفي نذرك"، ومضت البنت إلى البيت، ونسيت أن تقول لأمها ما قاله لها الكلب، وفي اليوم التالي قال لها الكلب، ما قاله لها في اليوم الأول، ولكنها نسيت أيضاً، وكذلك الحال في اليوم الثالث، وفي اليوم الرابع سألها الكلب لم لا تقول لأمها ما يوصيها به ، فأجابته بأنها تنسى، ووعدته أن تفعل، فحذرها من النسيان، وأعطاها قطعاً من الحلوى، وطلب منها أن تضعها في جيبها، ولما بلغت البنت البيت نسيت أيضاً أن تقول لأمها ما أوصاها به الكلب، ولكن الأم رأت قطع الحلوى في جيب ابنتها، فسألتها عن مصدرها، فذكرت الكلب، وأخبرتها بما أوصاها به، وذكرت الأم نذرها، وحزنت لذلك، ولما جاء زوجها في المساء أخبرته بالأمر كله، فحزن الأب، وقال للأم: "لابد من الوفاء بالنذر".
وبات الأبوان يهيئان نفسيهما لفراق ابنتهما، وكأنهما في كل يوم على موعد مع الكلب الأسود.
وذات يوم قرع الباب، فخفق قلب الأم، وأسرعت تفتحه، وإذا الكلب الأسود في الباب، فأدركت قصده، ورجعت إلى البنت، وقالت لها: "تهيئي يا بنتي"، ثم حكت لها ما كان من أمر النذر، فاستجابت البنت، ودخلت على أبيها فودعته، ثم ودّعت أمها، وخرجت إلى الكلب، ومضت تسير إلى جانبه، تاركة أبويها يبكيان.
وسار الكلب بالبنت، حتى بلغا خارج البلدة، فطلب منها أن تصعد على ظهره، فصعدت، فطار بها، وحلق في أجواء الفضاء، وهي متشبثة به، وبعد زمن من التحليق سألها: "كيف ترين الأرض؟" ، فأجابت: "مثل صينية كبيرة"، فأخذ يعلو بها أكثر فأكثر، ثم أعاد عليها السؤال، فأجابت: "مثل الصحن الكبير"، فأخذ يعلو بها أكثر فأكثر، ثم أعاد عليها السؤال، فأجابت: "مثل صحن صغير"، وعندئذ حط بها، فإذا هي أمام مخدع فخم، فرشه من الدمقس، وغطاؤه من الحرير، تتصاعد من حوله أبخرة المسك والكافور، وتركها الكلب هناك، وغاب.
وأخذت تجول في أنحاء الغرفة، مدهوشة لما ترى من أثاث ورياش، ثم أطلت من النافذة، فرأت أمامها فناء واسعاً، في وسطه بركة ماء، تترقرق أمواجها الناعمة، وتسبح فيها الأسماك الملونة، وتتنقل على أطرافها الطيور، وتحيط بها الأشجار المزهرة، من شتى الأنواع، ونزلت إلى حديقة القصر، وأخذت تتسلى وتمرح، حتى كان المساء، فرجعت إلى مخدعها، وقدمت لها الخادمة، بعد عشاء فاخر، فنجان قهوة، فشربته، فأحست بنعاس لذيذ، فأوت إلى فراشها، واستسلمت لنوم عميق.
وفي الصباح نهضت لتمضي النهار كله في حديقة القصر، تناغي الأطيار، وتداعب الأسماك، وتتفرج على الزهور، وفي المساء شربت فنجان القهوة، وأوت إلى الفراش، وظل هذا دأبها، تمرح وتتسلى وتلعب، لا تحس بكدر ولا قهر، ولا ضيق، ولكن ذات يوم شعرت بشيء من الدوار، فأدركت أنها حامل.
وفي يوم آخر نعق غراب، فذكرت أبويها، وتمنت لقاءهما، وأخذت تبكي، وعلى الفور ظهر الكلب الأسود، فطلب منها أن تمتطي ظهره، ففعلت، فحلق بها في أجواء الفضاء، حتى سألها مثل ما سألها من قبل، فلما قالت له إنها ترى الأرض مثل صحن صغير، حط بها، فإذا هي أمام دارها، ودخلت على أبويها، ففرحا بها، وفرحت بهما، وأمضت معهما ساعة، أو بعض الساعة، وإذا الكلب ينبح، فودعت أبويها، وحملها الكلب على ظهره، ورجع، مثلما جاء بها.
وفي القصر عادت إلى حياتها التي اعتادت عليها، ولما كان المساء، قدمت لها الخادمة فنجان قهوة، فأخذته، وتظاهرت بارتشافه، حتى إذا خرجت الخادمة رمته جانباً، واستلقت في سريرها، وتظاهرت بالاستسلام للنوم، وكانت أمها هي التي نصحت لها بذلك، حين حدثتها عن فنجان القهوة.
ولم يمض بعض الوقت، حتى برز شاب وسيم الطلعة، كأنه البدر، فنهضت تحييه وتستقبله، فاضطرب أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن اطمأن إليها، ورجاها ألا تبوح لأحد بسره، وأخبرها أنه يأتيها كل ليلة، وهي نائمة، وأنه ابن ملك الجان.
وفرحت البنت بالشاب، زوجها، وأنست به، واطمأنت إليه، وأمضيا الليل في جنى ووصال، ثم استسلما لنوم هانئ، وقبيل الفجر أفاقت وأخذت تنظر إليه وهو نائم، وتتملى وسامته، ثم لاحظت شيئاً ما تحت قميصه، فوق السرة، فدفعها الفضول إلى معرفة ما يخفيه، فكشفت قميصه بهدوء، فإذا هي ترى فوق سرته قفلاً ومفتاحاً، فدهشت لما رأت.
وأدارت المفتاح في القفل، فانفتح عن سرداب عميق، ونزلت فيه، فإذا هي في نهايته أمام سوق كبيرة، فيها جميع أنواع الصناعات والأعمال، فأخذت تسير في السوق تتفرج على النجارين والصاغة والخياطين، وهي ترى الجميع منهمكين في العمل، ثم مرت بنجار يصنع سريراً صغيراً، فسألته لمن السرير، فأجابها بأن زوجة ابن الملك حامل، وأن هذا السرير هو للوليد المنتظر، وأدركت أنها هي المقصودة، فخرجت على الفور، وأغلقت القفل بالمفتاح.
وتنبه زوجها، فاستيقظ، ولامها على ما فعلت، ثم نادى الكلب الأسود، فمثل بين يديه، فأمره بحمل البنت إلى الفلاة، وذبحها، وإحضار كأس من دمها ليشربه، وتوسلت إليه، تستعطفه وترجوه العفو، فأبى، فاستسلمت، وحملها الكلب على ظهره، ومضى بها إلى أرض منقطعة، وتركها هناك، ثم اصطاد طائراً، فذبحه، واعتصر دمه، وملأ به كأساً قدمه إلى ابن الملك.
ومضت البنت تسير في الفلاة أياماً وليالي طويلة، وحيدة، الجوع يتعبها، والسير يضنيها، والجنين في أحشائها يوهن قواها، حتى لاح لها من بعيد قصر شامخ، فاقتربت منه، وأخذت تلتقط ما تعثر عليه من بقايا الطعام مما يُلقى خارجه، وبينما هي كذلك، إذ أقبلت عليها خادمة تدعوها إلى دخول مطبخ القصر، وسمحت لها أن تقيم مع الخدم، وأوصتها ألا تخرج، كي لا يراها أحد، وتوسلت إلى الخدم ألا يحدثوا أحد عنها.
وأمضت البنت مع الخدم أياماً، تساعدهم وتتزلف إليهم، كي تحظى بعطفهم عليها، حتى كان يوم أفاقت فيه، وإذا هي في المخاض، فساعدتها الخادمات، حتى وضعت ولداً ذكراً، ما إن رأته الخادمات حتى دهشن دهشة عظيمة، فقد كان على سرته قفل ومفتاح، وهيأت الخادمات للولد ولأمه كل ما يحتاجانه من ثياب وفراش وطعام، وأصبح حديث الولد الذي على سرته قفل ومفتاح حديث الجميع، حتى بلغ سيدة القصر، فأمرت بإحضاره على الفور، هو وأمه.
ولما رأت السيدة الولد، نظرت إلى أمه نظرة احتقار، وسألتها من تكون، فروت لها ما كان من أمرها كله، وهي ترتجي العطف عليها، ولكن الغيظ ملأ صدر سيدة القصر، فالشاب والد الطفل هو ابنها، وهو وريث عرش ملك الجان، وكانت تريد تزويجه من ابنة أختها، وموعد حفل الزفاف بعد يوم أو يومين، وكتمت سيدة القصر غيظها ثم التفتت إلى أم الولد، تشترط عليها كي تسمح لها بالبقاء في القصر أن تأخذ ستائر القصر كلها إلى ضفة النهر، وتغسلها وترجع بها في اليوم نفسه، ثم قدمت لها قطعة صابون صغيرة، أوصتها أن ترجع بها، من غير أن يذوب منها شيء.
وحملت الأم الستائر، ومضت إلى ضفة النهر، وأخذت تتأمل قطعة الصابون الصغيرة، وتبكي، وإذا علاء الدين يمر بها، فيسألها عن سبب بكائها، فتروي له حكايتها كلها، فيأمر الستائر، فإذا بها قد غسلت ونظفت وجفت، وطويت في لمح البصر، ثم قدم للأم ثلاث شعرات، نصح لها أن تحرق إحداها حين تشعر بالخطر.
وحملت الأم الستائر، ورجعت بها إلى القصر، وقدمت قطعة الصابون إلى سيدة القصر، من غير أن يذوب منها شيء، فضاقت بها ذرعاً، ثم ألقت إليها بولدها، وأمرتها أن تلزم المطبخ، وألا تخرج منه، فالليلة عرس ابنها، وطلبت منها أن تفرم أكواماً كبيرة من البصل.
ولما كان المساء، أقيمت الأفراح في فناء القصر، وأنشدت المغنيات، ورقصت الراقصات، والعروس قاعدة على منصة عالية، تنتظر مجيء ابن الملك، وأشفقت الخادمات على الأم وطفلها، فأخذن يساعدنها في فرم البصل، حتى فرغن منه كله، ولما جاء ابن الملك، كن ارتدين أفضل ما لديهن من ثياب، وخرجن يحملن الشموع، وكانت الأم وطفلها معهن، تشاركهن، فكانت تحمل شمعة بيد، وطفلها بيد، وكان عليهن أن يمررن جميعاً أمام ابن الملك وعروسه.
ولما صارت الأم وطفلها أمام العروس، أفلتت الشمعة من يدها، فسقطت على ثوب العروس، فاحترق، واشتعلت فيه النار، فأسرعت الخادمات والمدعوات وأم العروس إلى إطفاء النار، وفي تلك الأثناء كانت الأم قد ألقت بطفلها بين يدي ابن الملك وقالت له: "خذ ابنك، وانظر القفل والمفتاح على سرته"، وكان ابن الملك قد عرفها، فنهض إليها وعانقها.
وعلى الفور حضر الكلب الأسود، فامتطى ابن الملك ظهره، وأردف وراءه زوجته، وكان الطفل بين يديه، وانطلق الكلب بهم، وتنبه القوم إلى هرب ابن الملك، فركضوا وراءه، وأحست زوجته بالخطر، فأشعلت شعرة من الشعرات الثلاث التي كان علاء الدين قد أعطاها إياها، وألقتها، فاشتعلت وراءها النيران.
ولكن القوم داسوا النيران وأطفؤوها، ولحقوا بهم، فأشعلت شعرة ثانية وألقتها، فامتلأت البقاع وراءها بالبحار، ولكن القوم خاضوا البحار، ولحقوا بهم، فأشعلت الشعرة الثالثة وألقتها، فإذا جبال شاهقة تنتصب وراءها، وتفصلها عن القوم.
وعند ئذ حلق الكلب الأسود في السماء وطار، وظل يعلو ويعلو، حتى بدت لهم الأرض مثل صحن صغير، وعند ئذ حط على الأرض، وإذا البنت وزوجها وطفلهما أمام دار أبويها، فأخذت تقرع عليهما الباب.
وكان أبواها في غيابها قد أرهقهما الأسى والحزن، حتى قعد بهما طريحي الفراش، وأتعبهما البكاء والعويل، حتى فقدا البصر، فهما مقعدان لا يبصران، وما من أحد يطرق عليهما الباب، سوى الأولاد يقرعون الباب ساخرين بهما، حتى إنهما ما عادا يجيبان أحداً، ولا يفتحان الباب.
وكانت البنت ماتزال واقفة بالباب تقرع وتنادي، وهما لا يجيبان، وإذا الكلب ينبح، ولما سمعت الأم نباح الكلب، أدركت أن ابنتها بالباب، فأخذت تزحف حتى وصلت إلى الباب، ففتحته، وما إن رأت أمامها ابنتها، حتى عاد إليها بصرها، كما عادت إليها قوتها، فنهضت إلى ابنتها، وعانقتها، وطال العناق والبكاء، ثم مضت البنت إلى أبيها، وما إن دخلت عليه حتى رد إليه بصره، ونهض معافى، ليعانق ابنته.
ثم رحب الأبوان بزوج ابنتهما، وفرحا بالطفل، وقرر الزوج الإقامة مع زوجته عند أبويها، قانعاً بالفقر، متخلياً عن الغنى، وعيش القصور، مفضلاً بني الإنسان، على بني الجان.
تعليق:
حكاية متميزة، عمادها اغتراب البنت وبعدها عن أهلها، ومعاناتها في أثناء ذلك، ومقاساتها الأهوال، ثم عودتها إليهم، وهي أهنأ بالاً، وأحسن حالاً، كي يلتم الشمل.
والحكاية مملوءة بالسحر والخوارق والعجائب، وتؤكد تعلق الإنسان بما هو غير معقول وغير طبيعي، وفيها عناصر حكائية مكرورة في كثير من الحكايات، منها الشعرات الثلاث، ومسخ ابن الملك، والأمر بالذبح، والافتداء بذبح طائر، والمخلِّص علاء الدين، والبنية الثلاثية واضحة في الحكاية، ولا سيما في طلب سيدة القصر من الفتاة ثلاثة طلبات.
والحكاية تدل على حاجة الإنسان إلى الولد، ولاسيما المرأة، كما تدل على إعلاء الحب على الملك، فقد تخلى الملك آخر الأمر عن ملكه، ليعيش هانئاً مع زوجته، وتدل الحكاية أيضاً على إحساس الفقير بفقره، ورغبته في الخلاص منه، وهو خلاص متحقق بوساطة الأمنية والحلم، من خلال زواج البنت الفقيرة من ابن ملك الجان.
وفي الحكاية ملامح من قصة يوسف عليه السلام وقد غاب عن أبيه، فعمي من الحزن والبكاء عليه، ثم حين عاد إليه ارتد بصيراً.