في إحدى البوادي كان يعيش محمد مع أمه وزوجته، وكان عنده بعض الإبل يرعاها، وذات يوم، بينما يرعى إبله، سمع أنيناً وراء صخرة، وأسرع نحو الصوت، فرأى رجلاً ملقى، وليس في جسمه موضع إلا قد طعن، والدماء تنزف منه، فحمله، وأسرع إلى أمه، فطلبت منه أن يذبح على الفور إحدى النوق، وأن يجوّفها، ثم حملت الأم الرجل الجريح وأدخلته في جوف الناقة، وتركته ثلاثة أيام، ثم أخرجته، وإذا جروحه كلها قد التهبت، فأمرت ولدها أن يذبح على الفور ناقة ثانية، وأن يجوّفها، ثم وضعت الرجل الجريح داخلها، وتركته ثلاثة أيام أخرى، ولمّا أخرجته منها، كانت جروحه قد شفيت تماماً. وأراد الرجل مغادرة الأسرة، ولكن العجوز أصرت على بقائه في ضيافتهم أياماً أخرى، حتى تطمئن إلى شفائه تماماً، وحتى يسترد عافيته وأكدت له أنها بمنزلة أمه، وأن ولدها محمد كالأخ، وأن زوجة ولدها هي كالأخت، وكان تعدّ له الطعام بنفسها، وترعاه وتعنى به. وقد سرّ ولدها محمد به، وكان لا يكلّفه شيئاً، فيخرج هو مع الفجر لرعاية الإبل، ويرجع مع الغروب، ليشاركه السهر، ويتركه طوال النهار في البيت مع أمه وزوجته، يعدّ القهوة، ويستقبل من قد يمرّ بهم من ضيوف. وذات يوم أخبرت زوجة محمد حماتها بان الرجل، واسمه حسين، وقد تودّد إليها، وعبّر عن رغبة في نولها، فلامتها العجوز على ذلك، واتهمتها بسوء الظن، وأكدت لها أن الرجل ضيف، وأنه كالأخ بالنسبة إليها. ومرة أخرى، بعد يوم أو يومين، شكت زوجة محمد إلى حماتها أمر الضيف، وأكدت تعرضه لها، ومحاولته النيل منها، فبادرت العجوز إلى عتاب حسين، وأكدت له أنها ستخبر ولدها محمداً بذلك، إن هو عاد فتعرض لزوجة ولدها. ورجع محمد مع الغروب مع الإبل، فرأى الضيف حسين قاعداً وحده، والحزن ظاهر عليه، فسأله عن حاله، فعبّر عن رغبته في الرحيل، فقد برّح به الشوق إلى أهله، فما كان من محمد إلا أن قدّم ناقة ليمتطيها، وناقة أخرى تحمل زوادة الطريق وبعض الهدايا، ثم سار برفقته مسافة، وقبل أن يودّعه، قال له: "يا أخي يا حسين، أرجو أن تعمل دائماً بأصلك". ورجع محمد إلى أمه وزوجته، وهو يحسّ بشيء من الاكتئاب لأنه فقد صديقاً له. ووصل حسين إلى ديار أهله، فاستقبلوه بفرح كبير، وسألوه عن سرّ هذا الغياب، فأخبرهم عن رجل غني جداً، يملك إبلاً كثيرة، ويعيش وحده، كان قد اختطفه، وأجبره على الإقامة عنده، ليتخذ منه خادماً، ولكنه استطاع أن يفرّ تحت جنح الظلام، وحسبه دليلاً على ذلك ما يسوق معه من ناقتين، وأخذ يشجع قومه على غزو ذلك الرجل، والإغارة عليه، ثأراً لنفسه، وطمعاً فيما يملك من إبل، وظلّ يزين لهم الإغارة عليه، حتى أقنعهم. ومع الفجر، شنّت قبيلة حسين غارة شعواء على خيمة محمد، فقتلوه، واسروا العجوز، وساقوا الإبل كلها غنائم لهم، وأقامت العجوز أم محمد في ديار حسين، أسيرة، ترعى إبلهم، وتطهو طعامهم، وتعنى بأطفالهم. أما زوجة محمد، فقد بحث عنها حسين في أثناء الغارة، فلم يجدها، وهو الذي شجع قومه على الغزو طمعاً بها، فرجع إلى دياره خائباً. وكانت زوجة محمد قد هربت أول ما رأت الغارة، ولجأت إلى ديار أهلها، وأقامت بينهم، وكانت حاملاً، في شهرها الأخير، ولم تلبث أن وضعت ولداً، أسمته محمداً باسم زوجها. ونشأ محمد في ديار أخواله، وتعلم الفروسية وركوب الخيل والمبارزة، وأصبح شاباً، وذات يوم سمع شيئاً ما عن مقتل أبيه، فأسرع إلى أمه يطلب أن تخبره بالحقيقة، وألحّ عليها، فأخبرته بكل ما كان، فحمل سيفه، وامتطى جواده، وودّع أمه، ثم مضى، مقسماً أن يثأر لأبيه، وظل يطوي البوادي والقفار، حتى وصل إلى ديار حسين، فشاهد عجوزاً ترعى الإبل، فسألها من تكون؟ ولمن الإبل؟ ونظرت العجوز فيه، فرأت فيه ملامح من ولدها، فروت له الحكاية كلّها، فعرفها على الفور، وعرّفها إلى نفسه، فضمّته إلى صدرها، وأخذت تقبله وهي تبكي. ثم أخبرته أن حسين قد تزوج وأنجب ولداً هو في مثل عمره، وأن الليلة هي ليلة زفافه، ثم دلته على خيمة العروس، ولما صار الليل، ودخل ابن حسين على عروسه، هجم عليه محمد، فقلته، ثم أردف العروس وراءه على الحصان، وانطلق بها إلى قبيلة كبيرة، لجأ إليها، طالباً الحماية له وللعروس، فأضافه شيخ القبيلة، وحماه، وأمر أن تفرد له خيمة تليق به وبعروسه، ولكن الفتى محمد طلب أن تنام العروس في ضيافة شيخ القبيلة مع أسرته وأولاده، وأن ينام هو وحده في الخيمة. ومع الصباح اقترب حسين من خيمة ابنه، وناداه، فلم يسمع جواباً، وناداه ثانية، وثالثة، وما من جواب، ودخل الخيمة، فوجد ابنه مقتولاً، ولم يجد أثراً للعروس، واقتفى آثار الحصان، حتى بلغ القبيلة الكبيرة، التي كان الفتى محمد قد لجأ إليها، ودخل على شيخ القبيلة، وطلب منه أن يسلمه العروس. واستدعى شيخ القبيلة الفتى والعروس، وسأله من يكون؟ وماقصة تلك العروس، فأخبره بقصته وقصة أبيه، فأدرك عند ئذ حسين أن هذا الفتى قد ثأر منه لأبيه، فسكت، وقد عرف أن عاقبة الغدر والخيانة وخيمة. وحكم شيخ القبيلة بردّ الإبل على الفتى، وإطلاق العجوز من الأسر، ثم يسأل العروس إن كانت تقبل بالفتى محمد زوجاً لها، وكانت العروس قد رأت شهامة محمد وجرأته وعفّته، فأجابت بالإيجاب. وهكذا، رجع حسين إلي أهله يجرّ ذيول الخيبة والحزن والمرارة، جزاء ماصنعت يداه، على حين رجع الفتى محمد إلى مضارب أبيه، ليرعى إبله مع جدته وأمه وزوجته، وليعيشوا جميعاً في هناءة وسرور. تعليق: تمجّد الحكاية قيم الكرامة والضيافة والشهامة والعفّة، وتدين الطمع الخيانة والغدر، وتكشف بعض عادات البادية، ولا سيما الثأر، وهي تدل على أن الحق لا يضيع، وتنتهي بالاحتكام إلى القضاء لإنهاء المشكلة، مؤكدة أن للظلم نهاية، ولكن لابد من تحكيم العقل
في إحدى البوادي كان يعيش محمد مع أمه وزوجته، وكان عنده بعض الإبل يرعاها، وذات يوم، بينما يرعى إبله، سمع أنيناً وراء صخرة، وأسرع نحو الصوت، فرأى رجلاً ملقى، وليس في جسمه موضع إلا قد طعن، والدماء تنزف منه، فحمله، وأسرع إلى أمه، فطلبت منه أن يذبح على الفور إحدى النوق، وأن يجوّفها، ثم حملت الأم الرجل الجريح وأدخلته في جوف الناقة، وتركته ثلاثة أيام، ثم أخرجته، وإذا جروحه كلها قد التهبت، فأمرت ولدها أن يذبح على الفور ناقة ثانية، وأن يجوّفها، ثم وضعت الرجل الجريح داخلها، وتركته ثلاثة أيام أخرى، ولمّا أخرجته منها، كانت جروحه قد شفيت تماماً.
وأراد الرجل مغادرة الأسرة، ولكن العجوز أصرت على بقائه في ضيافتهم أياماً أخرى، حتى تطمئن إلى شفائه تماماً، وحتى يسترد عافيته وأكدت له أنها بمنزلة أمه، وأن ولدها محمد كالأخ، وأن زوجة ولدها هي كالأخت، وكان تعدّ له الطعام بنفسها، وترعاه وتعنى به.
وقد سرّ ولدها محمد به، وكان لا يكلّفه شيئاً، فيخرج هو مع الفجر لرعاية الإبل، ويرجع مع الغروب، ليشاركه السهر، ويتركه طوال النهار في البيت مع أمه وزوجته، يعدّ القهوة، ويستقبل من قد يمرّ بهم من ضيوف.
وذات يوم أخبرت زوجة محمد حماتها بان الرجل، واسمه حسين، وقد تودّد إليها، وعبّر عن رغبة في نولها، فلامتها العجوز على ذلك، واتهمتها بسوء الظن، وأكدت لها أن الرجل ضيف، وأنه كالأخ بالنسبة إليها.
ومرة أخرى، بعد يوم أو يومين، شكت زوجة محمد إلى حماتها أمر الضيف، وأكدت تعرضه لها، ومحاولته النيل منها، فبادرت العجوز إلى عتاب حسين، وأكدت له أنها ستخبر ولدها محمداً بذلك، إن هو عاد فتعرض لزوجة ولدها.
ورجع محمد مع الغروب مع الإبل، فرأى الضيف حسين قاعداً وحده، والحزن ظاهر عليه، فسأله عن حاله، فعبّر عن رغبته في الرحيل، فقد برّح به الشوق إلى أهله، فما كان من محمد إلا أن قدّم ناقة ليمتطيها، وناقة أخرى تحمل زوادة الطريق وبعض الهدايا، ثم سار برفقته مسافة، وقبل أن يودّعه، قال له: "يا أخي يا حسين، أرجو أن تعمل دائماً بأصلك".
ورجع محمد إلى أمه وزوجته، وهو يحسّ بشيء من الاكتئاب لأنه فقد صديقاً له.
ووصل حسين إلى ديار أهله، فاستقبلوه بفرح كبير، وسألوه عن سرّ هذا الغياب، فأخبرهم عن رجل غني جداً، يملك إبلاً كثيرة، ويعيش وحده، كان قد اختطفه، وأجبره على الإقامة عنده، ليتخذ منه خادماً، ولكنه استطاع أن يفرّ تحت جنح الظلام، وحسبه دليلاً على ذلك ما يسوق معه من ناقتين، وأخذ يشجع قومه على غزو ذلك الرجل، والإغارة عليه، ثأراً لنفسه، وطمعاً فيما يملك من إبل، وظلّ يزين لهم الإغارة عليه، حتى أقنعهم.
ومع الفجر، شنّت قبيلة حسين غارة شعواء على خيمة محمد، فقتلوه، واسروا العجوز، وساقوا الإبل كلها غنائم لهم، وأقامت العجوز أم محمد في ديار حسين، أسيرة، ترعى إبلهم، وتطهو طعامهم، وتعنى بأطفالهم.
أما زوجة محمد، فقد بحث عنها حسين في أثناء الغارة، فلم يجدها، وهو الذي شجع قومه على الغزو طمعاً بها، فرجع إلى دياره خائباً.
وكانت زوجة محمد قد هربت أول ما رأت الغارة، ولجأت إلى ديار أهلها، وأقامت بينهم، وكانت حاملاً، في شهرها الأخير، ولم تلبث أن وضعت ولداً، أسمته محمداً باسم زوجها.
ونشأ محمد في ديار أخواله، وتعلم الفروسية وركوب الخيل والمبارزة، وأصبح شاباً، وذات يوم سمع شيئاً ما عن مقتل أبيه، فأسرع إلى أمه يطلب أن تخبره بالحقيقة، وألحّ عليها، فأخبرته بكل ما كان، فحمل سيفه، وامتطى جواده، وودّع أمه، ثم مضى، مقسماً أن يثأر لأبيه، وظل يطوي البوادي والقفار، حتى وصل إلى ديار حسين، فشاهد عجوزاً ترعى الإبل، فسألها من تكون؟ ولمن الإبل؟ ونظرت العجوز فيه، فرأت فيه ملامح من ولدها، فروت له الحكاية كلّها، فعرفها على الفور، وعرّفها إلى نفسه، فضمّته إلى صدرها، وأخذت تقبله وهي تبكي.
ثم أخبرته أن حسين قد تزوج وأنجب ولداً هو في مثل عمره، وأن الليلة هي ليلة زفافه، ثم دلته على خيمة العروس، ولما صار الليل، ودخل ابن حسين على عروسه، هجم عليه محمد، فقلته، ثم أردف العروس وراءه على الحصان، وانطلق بها إلى قبيلة كبيرة، لجأ إليها، طالباً الحماية له وللعروس، فأضافه شيخ القبيلة، وحماه، وأمر أن تفرد له خيمة تليق به وبعروسه، ولكن الفتى محمد طلب أن تنام العروس في ضيافة شيخ القبيلة مع أسرته وأولاده، وأن ينام هو وحده في الخيمة.
ومع الصباح اقترب حسين من خيمة ابنه، وناداه، فلم يسمع جواباً، وناداه ثانية، وثالثة، وما من جواب، ودخل الخيمة، فوجد ابنه مقتولاً، ولم يجد أثراً للعروس، واقتفى آثار الحصان، حتى بلغ القبيلة الكبيرة، التي كان الفتى محمد قد لجأ إليها، ودخل على شيخ القبيلة، وطلب منه أن يسلمه العروس.
واستدعى شيخ القبيلة الفتى والعروس، وسأله من يكون؟ وماقصة تلك العروس، فأخبره بقصته وقصة أبيه، فأدرك عند ئذ حسين أن هذا الفتى قد ثأر منه لأبيه، فسكت، وقد عرف أن عاقبة الغدر والخيانة وخيمة.
وحكم شيخ القبيلة بردّ الإبل على الفتى، وإطلاق العجوز من الأسر، ثم يسأل العروس إن كانت تقبل بالفتى محمد زوجاً لها، وكانت العروس قد رأت شهامة محمد وجرأته وعفّته، فأجابت بالإيجاب.
وهكذا، رجع حسين إلي أهله يجرّ ذيول الخيبة والحزن والمرارة، جزاء ماصنعت يداه، على حين رجع الفتى محمد إلى مضارب أبيه، ليرعى إبله مع جدته وأمه وزوجته، وليعيشوا جميعاً في هناءة وسرور.
تعليق:
تمجّد الحكاية قيم الكرامة والضيافة والشهامة والعفّة، وتدين الطمع الخيانة والغدر، وتكشف بعض عادات البادية، ولا سيما الثأر، وهي تدل على أن الحق لا يضيع، وتنتهي بالاحتكام إلى القضاء لإنهاء المشكلة، مؤكدة أن للظلم نهاية، ولكن لابد من تحكيم العقل