كان لكبير (البازركان) بنت وحيدة، توفيت أمها، فعني بها، ورباها خير تربية، وذات يوم قرر أداء فريضة الحج، ولكنه حار في أمره، أين يترك ابنته؟ وحين شاورها في الأمر، شجعته، وأكدت له أنها ستتدبر أمرها في غيابه. وهكذا ودّعها، وترك لها قدراً من المال، وأوصى بها الجزار والخباز وبائع الخضر، كما أوصى بها سائر الجيران، وكانت كلما أرادت حاجة، دلت سلة من نافذة غرفتها لترفع بها ما يحضره لها أجير الجزار أو الخباز أوبائع الخضر من حاجات. وفي أحد الأيام سمعت طرقاً على الباب، ونظرت من نافذتها، فرأت فتاة في مثل عمرها، فقيرة بائسة، رثة الثياب، تطلب منها العون، فدعتها إلى الدخول، وقدمت إليها بعض ما عندها من ثياب، ولمست فيها البراءة، فدعتها إلى الإقامة معها كي تأنس بها، فاستجابت الفتاة لدعوتها، وأقامت عندها، تشاركها الطعام والمنام. وهكذا أنست بنت كبير التجار بتلك الفتاة، واطمأنت إليها، وحدثتها عن والدها كبير التجار، وسفره إلى بلاد الحجاز لأداء فريضة الحج، وما تركه لها من أموال لتتدبر أمورها. وذات يوم نادتها الفتاة لترى ما في الشارع، فأسرعت إلى النافذة، وما إن صارت أمامها حتى دفعتها، فإذا هي في الشارع، فدهشت لما فعلته، ورجتها أن تفتح لها الباب، فأبت وأكدت لها أن لامكان لها في هذا البيت. ولجأت بنت كبير التجار إلى نخاس، يعرف والدها، ترجوه أن يبيعها في سوق الجواري، كي تجد من يؤويها لديه، فعرض عليها أن تقيم عنده مع زوجته وأولاده، ولكنها أبت إلا أن يبيعها جارية. ونزل بها النخاس مضطراً إلى سوق الجواري، وصادف في اليوم نفسه نزول ملك تلك البلاد إلى السوق، فلما رآها اشتراها بأغلى الأثمان. وكان ذلك الملك قد فقد ولداً شاباً، وانقطعت عنه الأخبار، فأخذها إلى قصره، لعله يجد فيها العوض من الولد، وأوصى بها كبيرة الخدم، ولكن هذه استاءت منها، وقادتها على الفور إلى المطبخ وأمرتها أن تعمل في تقشير البصل. ولما صار الليل نام كل من في القصر، إلا بنت كبير التجار إذ أوت إلى ركن في المطبخ وقعدت، لاتغمض لها عين وبينما هي على هذه الحال إذا كبيرة الخدم تدخل المطبخ خلسة، فتجمع بقايا الطعام، ثم تخرج، وتخرج في إثرها، وتظل تتبعها من غير أن تحس بها. وإذا هي تمضي إلى حديقة القصر، وتزيح الحشائش والأعشاب عن بقعة في الأرض صغيرة، فتظهر بلاطة لها حلقة، وترفعها، وإذا تحتها سرداب، تنزل فيه، وتنزل في إثرها بنت كبير التجار، لترى شاباً يتوسل إلى كبيرة الخدم راجياً ألا تضربه، ولكنها تخرج سوطاً من تحت طيات ثوبها، وتشرع في ضربه، وهي تعده أن تكفّ عن هذا إذا قبل بالزواج منها، وهو يؤكد أن "لا"، ثم لم تلبث أن رمت له ما تحمله من بقايا الطعام، وهمت بالخروج. وأسرعت بنت كبير التجار إلى الخروج قبلها من السرداب، وعادت إلى موضعها من المطبخ . وفي اليوم التالي التقت الملك، فسألته: "إذا جمعتك بولدك فهل تعتقني؟" فوعدها الملك بذلك، فاقترحت عليه أن يرسل إلى الحمام كل نساء القصر من الملكة إلى الجواري، وكان لها ذلك، وعندئذ دلته على مكان ابنه، فلما رآه فرح فرحاً كبيراً، وعرف حقيقة الأمر، فأرسل على الفور جلاداً إلى الحمام ليقتل كبيرة الخدم، ثم استدعى الطبيب ليعالج ابنه. وبعد بعضة أيام ذكّرت الملك بوعده لها، فعرض عليها الزواج من ابنه، فاعتذرت، فعرض عليها الإقامة في القصر، فرفضت، وأبت إلا أن يعتقها، فأعتقها. ومضت بنت كبير التجار على الفور إلى النخاس تطلب منه أن يبيعها ثانية في سوق الجواري، فذهل لطلبها، ورجاها أن تقيم عنده مع زوجته وأولاده، فأبت، فأخذها إلى سوق الجواري، وهناك كان لها ما أرادت. وفي هذه المرة اشتراها ملك بلاد بعيدة، كان قد أتى إلى هذه البلاد للعلاج، فهو مريض معتل، ولما رجع بها إلى بلاده، نقمت عليها زوجته، واتخذتها خادمة لها، لتكون دائماً تحت سمعها وبصرها، وكانت تأمرها كل ليلة بتهييء مائدة العشاء ثم تصرفها، وفي صباح اليوم التالي تجد المائدة نظيفة لا شيء عليها، فأدهشها الأمر؟ هل يعقل أن تقوم الملكة بتنظيفها؟ وهل يعقل أن تتناول الملكة كل ماكان على المائدة من طعام؟ وذات ليلة أوهمتها أنها قد انصرفت، ولكنها ظلت وراء الباب، تنظر من ثقبه، فرأت الملكة تقدم للملك كأس شراب، ما إن شربه، حتى راح في سبات عميق، وأخذت الملكة تجمع ما على المائدة من طعام، وتضعه في كيس ثم تخرج به. وخرجت بنت كبير التجار في إثرها، وأخذت تسير وراءها، من غير أن تحس بها، وإذا الملكة تمضي إلى غابة قريبة، لتدخل كوخاً فيه عفريت، ما إن رآها حتى لامها على تأخرها، ثم بسطت أمامه ما حملت معها من طعام، فأقبل عليه يلتهمه، ثم جلست معه بضع ساعات يتسامران ويتناجيان، حتى كاد الفجر يظهر، وعندئذ ودعته ورجعت قافلة إلى القصر. وكانت بنت كبير التجار قد سبقتها إلى موضعها في المطبخ، واستلقت متظاهرة بالنوم ولما كان الصباح، التقت الملك، وسألته إن كان يعتقها إذا دلته على سبب مرضه واعتلاله، فوعدها بذلك، فأخبرته بكل ماكان من أمر زوجته والعفريت، ثم اتفقا على خطة. ولما كان المساء، أعدت كعادتها مائدة العشاء، ثم تظاهرت بالانصراف وحين قدمت الملكة إلى الملك كأس الشراب طلب منها أن تحضر له عباءة يضعها على كتفيه، لأنه يحس بالبرد، ومضت لتحضر له ما طلبه، فسكب على الأرض الشراب ثم تظاهر بالنوم، ولما رجعت، غطته بالعباءة وجمعت كعادتها الطعام وخرجت إلى الغابة، وخرج في إثرها الملك تصحبه بنت كبير التجار، ورأى بعينيه ما كانت تفعله كل ليلة. ورجع إلى القصر، ليطلب من الجند أن يذهبوا إلى الغابة ويقطعوا رأس العفريت، وليحملوه إلى القصر، ولما رجعوا برأسه، ألقاه بين يدي زوجته، فذعرت، وأخذت تبكي وتلطم وجهها مدعية أنه أخوها، ولكن الملك دحض ادعاءها، ثم أمر بقطع رأسها. وبعد بضعة أيام ذكرت بنت كبير التجار الملك بوعده، فعرض عليها أن يتزوجها، ولكنها اعتذرت وأبت إلا أن يعتقها. ورجعت إلى النخاس ترجوه أن يعرضها للبيع في سوق الجواري مرة ثالثة، فنصح لها، وعرض عليها أن تعيش في بيته، مع زوجته وأولاده، فأبت، وكان لها ما أرادت. واشتراها هذه المرة أحد الملوك، وكان عنده بنت وحيدة مجنونة، حبسها في غرفة من غرف القصر، وكانت كلما أدخل عليها جارية لتخدمها أكلتها، ولما دخلت عليها بنت كبير التجار هجمت عليها بنت الملك المجنونة، وهمت بها، فقالت لها: "لايمكن أن تأكليني بما أنا عليه من غبار السفر، انتظري حتى أستحم، ثم بعد ذلك، يمكنك أن تأكليني"، ولكن ابنة الملك أعربت عن خوفها من أن تهرب، فأكدت لها أنها لن تهرب، ثم رأت في زاوية الغرفة خيطاً، فقالت لها: "اربطيني به حتى لا أهرب". وهكذا خرجت بنت كبير التجار من القصر هاربة من ابنة الملك المجنونة، وأخذت تجري لا تعرف أين تذهب، ولمحت من بعيد ضوءاً، فاتجهت إليه، ولما بلغته رأت ناراً متقدة، تحت حلة كبيرة، فيها قطران يغلي، وإلى جانب الحلة عفريتتان تحرسان الحلّة، الأولى نائمة، والثانية مستيقظة، وقد ألقت ثدييها إلى ظهرها، فغافلتها، ورضعت من ثدييها، ثم ألقت عليها السلام، فردت العفريتة: "لولا سلامك سبق كلامك لأكلت لحمك مع عظامك"، وردت عليها منكرة أن تفعل بها ذلك وقد أصبحت ابنتها، فأثر كلامها في نفس العفريتة، وذكرت بنتاً لها كانت قد فقدتها، وسرّت كثيراً لأنها وجدت بدلاً منها ثم قالت لها: "إذن هيا راقبي النار تحت هذه الحلة، ولا تتركيها تخمد، فقد آن لي بعد سبع سنين من إيقادها أن أستريح" وهنا تشجعت بنت كبير التجار فسألت عن سر تلك النار والغاية من ذلك القطران، فأجابتها بأن ابنة الملك في تلك البلاد ستظل مجنونة ما دام القطران يغلي، فتشجعت أكثر وسألتها عن سبب ذلك، فأجابتها العفريتة بأنها تفعل ذلك انتقاماً منها لأنها رفضت أن تصبح ابنة لها بعد أن فقدت ابنتها، فطمأنتها بنت كبير التجار، وأكدت لها أنها ستكون هي بدلاً من ابنتها التي فقدتها، ثم طلبت منها أن تستريح لترعى النار بدلاً منها، وأخلدت العفريتة إلى النوم، فما كان من بنت كبير التجار إلا أن صبت القطران وهو يغلي على العفريتتين، ثم أخمدت النار. ورجعت إلى قصر الملك ودخلت على ابنة الملك، فرأتها سليمة معافاة ففرحت بذلك وألبستها أحسن الثياب، ثم دخلت على الملك وسألته إذا كانت ابنته قد شفيت فهل يعتقها؟ فوعدها بذلك، وما كان منها إلا أن دعته ليرى ابنته، ولما رآها فرح كثيراً، ودعا ابنة كبير التجار إلى العيش معها في القصر كأخت لها؟ ولكنها رجته أن ينفذ وعده؟ فكان لها ما أرادت. ورجعت إلى النخاس مرة أخرى تطلب منه أن يعرضها للبيع في سوق الجواري، ولكنه أخبرها أن والدها قد رجع من الحجاز بعد أدائه فريضة الحج، وأكد لها أنه سيقودها إلى البيت. وكان والدها قد فوجئ بالفتاة الغربية في منزله، فأكدت له أنها ابنته، فسألها عن سمرتها، فأخبرته أن الشمس قد لوحتها، وسألها عن احمرار عينيها؟ فأجابت أن ذلك بسبب فرط بكائها، فطلب منها أن تطبخ له الحريرة، فأكدت له بأنها نسيت طريقة طبخها. وعاش كبير التجار مع تلك الفتاة الغريبة كارهاً، وهي تصرّ على أنها ابنته. وذات يوم طرق الباب، فأسرع يفتحه، فرأى النخاس ومعه ابنته، فعرفها على الفور، ولكنه تظاهر بعدم معرفتها، ثم دعاها مع النخاس إلى الدخول، وجمعها بالفتاة الغريبة التي في بيته، وطلب منهما أن تطبخا له الحريرة، وأكد لهما أن التي تجيد طبخها هي ابنته. وبادرت ابنته على الفور إلى طبخ الحريرة، على حين ترددت تلك الفتاة الغريبة، وعند ئذ ظهر الحق. وسأل الأب ابنته عن العقاب الذي تريد أن يوقعه في الفتاة التي كانت سبب خروجها من بيتها وتشردها، فأجابت العفو. وعادت الفتاة إلى تشردها وتسوّلها، على حين التأم شمل الأب والبنت وعاشا في هناء وسرور. تعليق: تؤكد الحكاية ضرورة معاملة الإنسان للآخرين انطلاقاً من مبادئه وقيمه، لا كما يعاملونه، وأن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن يظل مريداً للخير ولو أراد به الآخرون الشر. وهي مبنية على حب الآخرين، ونذر الذات لأجلهم، والتضحية في سبيل التقليل من آلامهم مع نكران الذات، وتحمل المصاعب، والشعور بالمتعة في الشقاء لسعادة الآخرين. والحكاية توحي بأن ذلك كله لا يكون إلا بحسن التربية، إذ تشير منذ البدء إلى أن الأب قد ربى ابنته فأحسن تربيتها، ولذلك صدرت عنها مثل تلك المواقف النبيلة. وتعدّ بنت كبير التجار نموذجاً فريداً للمرأة في النقاء والطهر والتضحية وحب الآخرين، وهي خلاف معظم من التقت من نساء، من ملكات وجاريات. والحكاية مركبة من حكاية إطارية هي حكاية بنت كبير التجار، وتضم في داخلها ثلاث حكايات. والناظم بينهما جميعاً بنت كبير التجار التي تبدو أشبه بالبطل المخلّص. وحكاية الفتى الذي تحبسه الجارية وتهينه مكرورة وردت في حكاية أخرى، وحكاية زوجة الملك التي تترك زوجها نائماً لتسامر العفريت تشبه حكاية شهرزاد أو بعض حكايات ألف ليلة وليلة. ولعل أهم عنصر في بناء الحكاية هو حرصها على ثلاثية الحدث، وهي ظاهرة شائعة في الحكايات عامة.
كان لكبير (البازركان) بنت وحيدة، توفيت أمها، فعني بها، ورباها خير تربية، وذات يوم قرر أداء فريضة الحج، ولكنه حار في أمره، أين يترك ابنته؟ وحين شاورها في الأمر، شجعته، وأكدت له أنها ستتدبر أمرها في غيابه.
وهكذا ودّعها، وترك لها قدراً من المال، وأوصى بها الجزار والخباز وبائع الخضر، كما أوصى بها سائر الجيران، وكانت كلما أرادت حاجة، دلت سلة من نافذة غرفتها لترفع بها ما يحضره لها أجير الجزار أو الخباز أوبائع الخضر من حاجات.
وفي أحد الأيام سمعت طرقاً على الباب، ونظرت من نافذتها، فرأت فتاة في مثل عمرها، فقيرة بائسة، رثة الثياب، تطلب منها العون، فدعتها إلى الدخول، وقدمت إليها بعض ما عندها من ثياب، ولمست فيها البراءة، فدعتها إلى الإقامة معها كي تأنس بها، فاستجابت الفتاة لدعوتها، وأقامت عندها، تشاركها الطعام والمنام.
وهكذا أنست بنت كبير التجار بتلك الفتاة، واطمأنت إليها، وحدثتها عن والدها كبير التجار، وسفره إلى بلاد الحجاز لأداء فريضة الحج، وما تركه لها من أموال لتتدبر أمورها.
وذات يوم نادتها الفتاة لترى ما في الشارع، فأسرعت إلى النافذة، وما إن صارت أمامها حتى دفعتها، فإذا هي في الشارع، فدهشت لما فعلته، ورجتها أن تفتح لها الباب، فأبت وأكدت لها أن لامكان لها في هذا البيت.
ولجأت بنت كبير التجار إلى نخاس، يعرف والدها، ترجوه أن يبيعها في سوق الجواري، كي تجد من يؤويها لديه، فعرض عليها أن تقيم عنده مع زوجته وأولاده، ولكنها أبت إلا أن يبيعها جارية.
ونزل بها النخاس مضطراً إلى سوق الجواري، وصادف في اليوم نفسه نزول ملك تلك البلاد إلى السوق، فلما رآها اشتراها بأغلى الأثمان.
وكان ذلك الملك قد فقد ولداً شاباً، وانقطعت عنه الأخبار، فأخذها إلى قصره، لعله يجد فيها العوض من الولد، وأوصى بها كبيرة الخدم، ولكن هذه استاءت منها، وقادتها على الفور إلى المطبخ وأمرتها أن تعمل في تقشير البصل.
ولما صار الليل نام كل من في القصر، إلا بنت كبير التجار إذ أوت إلى ركن في المطبخ وقعدت، لاتغمض لها عين وبينما هي على هذه الحال إذا كبيرة الخدم تدخل المطبخ خلسة، فتجمع بقايا الطعام، ثم تخرج، وتخرج في إثرها، وتظل تتبعها من غير أن تحس بها.
وإذا هي تمضي إلى حديقة القصر، وتزيح الحشائش والأعشاب عن بقعة في الأرض صغيرة، فتظهر بلاطة لها حلقة، وترفعها، وإذا تحتها سرداب، تنزل فيه، وتنزل في إثرها بنت كبير التجار، لترى شاباً يتوسل إلى كبيرة الخدم راجياً ألا تضربه، ولكنها تخرج سوطاً من تحت طيات ثوبها، وتشرع في ضربه، وهي تعده أن تكفّ عن هذا إذا قبل بالزواج منها، وهو يؤكد أن "لا"، ثم لم تلبث أن رمت له ما تحمله من بقايا الطعام، وهمت بالخروج.
وأسرعت بنت كبير التجار إلى الخروج قبلها من السرداب، وعادت إلى موضعها من المطبخ .
وفي اليوم التالي التقت الملك، فسألته: "إذا جمعتك بولدك فهل تعتقني؟" فوعدها الملك بذلك، فاقترحت عليه أن يرسل إلى الحمام كل نساء القصر من الملكة إلى الجواري، وكان لها ذلك، وعندئذ دلته على مكان ابنه، فلما رآه فرح فرحاً كبيراً، وعرف حقيقة الأمر، فأرسل على الفور جلاداً إلى الحمام ليقتل كبيرة الخدم، ثم استدعى الطبيب ليعالج ابنه.
وبعد بعضة أيام ذكّرت الملك بوعده لها، فعرض عليها الزواج من ابنه، فاعتذرت، فعرض عليها الإقامة في القصر، فرفضت، وأبت إلا أن يعتقها، فأعتقها.
ومضت بنت كبير التجار على الفور إلى النخاس تطلب منه أن يبيعها ثانية في سوق الجواري، فذهل لطلبها، ورجاها أن تقيم عنده مع زوجته وأولاده، فأبت، فأخذها إلى سوق الجواري، وهناك كان لها ما أرادت.
وفي هذه المرة اشتراها ملك بلاد بعيدة، كان قد أتى إلى هذه البلاد للعلاج، فهو مريض معتل، ولما رجع بها إلى بلاده، نقمت عليها زوجته، واتخذتها خادمة لها، لتكون دائماً تحت سمعها وبصرها، وكانت تأمرها كل ليلة بتهييء مائدة العشاء ثم تصرفها، وفي صباح اليوم التالي تجد المائدة نظيفة لا شيء عليها، فأدهشها الأمر؟ هل يعقل أن تقوم الملكة بتنظيفها؟ وهل يعقل أن تتناول الملكة كل ماكان على المائدة من طعام؟
وذات ليلة أوهمتها أنها قد انصرفت، ولكنها ظلت وراء الباب، تنظر من ثقبه، فرأت الملكة تقدم للملك كأس شراب، ما إن شربه، حتى راح في سبات عميق، وأخذت الملكة تجمع ما على المائدة من طعام، وتضعه في كيس ثم تخرج به.
وخرجت بنت كبير التجار في إثرها، وأخذت تسير وراءها، من غير أن تحس بها، وإذا الملكة تمضي إلى غابة قريبة، لتدخل كوخاً فيه عفريت، ما إن رآها حتى لامها على تأخرها، ثم بسطت أمامه ما حملت معها من طعام، فأقبل عليه يلتهمه، ثم جلست معه بضع ساعات يتسامران ويتناجيان، حتى كاد الفجر يظهر، وعندئذ ودعته ورجعت قافلة إلى القصر.
وكانت بنت كبير التجار قد سبقتها إلى موضعها في المطبخ، واستلقت متظاهرة بالنوم ولما كان الصباح، التقت الملك، وسألته إن كان يعتقها إذا دلته على سبب مرضه واعتلاله، فوعدها بذلك، فأخبرته بكل ماكان من أمر زوجته والعفريت، ثم اتفقا على خطة.
ولما كان المساء، أعدت كعادتها مائدة العشاء، ثم تظاهرت بالانصراف وحين قدمت الملكة إلى الملك كأس الشراب طلب منها أن تحضر له عباءة يضعها على كتفيه، لأنه يحس بالبرد، ومضت لتحضر له ما طلبه، فسكب على الأرض الشراب ثم تظاهر بالنوم، ولما رجعت، غطته بالعباءة وجمعت كعادتها الطعام وخرجت إلى الغابة، وخرج في إثرها الملك تصحبه بنت كبير التجار، ورأى بعينيه ما كانت تفعله كل ليلة.
ورجع إلى القصر، ليطلب من الجند أن يذهبوا إلى الغابة ويقطعوا رأس العفريت، وليحملوه إلى القصر، ولما رجعوا برأسه، ألقاه بين يدي زوجته، فذعرت، وأخذت تبكي وتلطم وجهها مدعية أنه أخوها، ولكن الملك دحض ادعاءها، ثم أمر بقطع رأسها.
وبعد بضعة أيام ذكرت بنت كبير التجار الملك بوعده، فعرض عليها أن يتزوجها، ولكنها اعتذرت وأبت إلا أن يعتقها.
ورجعت إلى النخاس ترجوه أن يعرضها للبيع في سوق الجواري مرة ثالثة، فنصح لها، وعرض عليها أن تعيش في بيته، مع زوجته وأولاده، فأبت، وكان لها ما أرادت.
واشتراها هذه المرة أحد الملوك، وكان عنده بنت وحيدة مجنونة، حبسها في غرفة من غرف القصر، وكانت كلما أدخل عليها جارية لتخدمها أكلتها، ولما دخلت عليها بنت كبير التجار هجمت عليها بنت الملك المجنونة، وهمت بها، فقالت لها: "لايمكن أن تأكليني بما أنا عليه من غبار السفر، انتظري حتى أستحم، ثم بعد ذلك، يمكنك أن تأكليني"، ولكن ابنة الملك أعربت عن خوفها من أن تهرب، فأكدت لها أنها لن تهرب، ثم رأت في زاوية الغرفة خيطاً، فقالت لها: "اربطيني به حتى لا أهرب".
وهكذا خرجت بنت كبير التجار من القصر هاربة من ابنة الملك المجنونة، وأخذت تجري لا تعرف أين تذهب، ولمحت من بعيد ضوءاً، فاتجهت إليه، ولما بلغته رأت ناراً متقدة، تحت حلة كبيرة، فيها قطران يغلي، وإلى جانب الحلة عفريتتان تحرسان الحلّة، الأولى نائمة، والثانية مستيقظة، وقد ألقت ثدييها إلى ظهرها، فغافلتها، ورضعت من ثدييها، ثم ألقت عليها السلام، فردت العفريتة: "لولا سلامك سبق كلامك لأكلت لحمك مع عظامك"، وردت عليها منكرة أن تفعل بها ذلك وقد أصبحت ابنتها، فأثر كلامها في نفس العفريتة، وذكرت بنتاً لها كانت قد فقدتها، وسرّت كثيراً لأنها وجدت بدلاً منها ثم قالت لها: "إذن هيا راقبي النار تحت هذه الحلة، ولا تتركيها تخمد، فقد آن لي بعد سبع سنين من إيقادها أن أستريح" وهنا تشجعت بنت كبير التجار فسألت عن سر تلك النار والغاية من ذلك القطران، فأجابتها بأن ابنة الملك في تلك البلاد ستظل مجنونة ما دام القطران يغلي، فتشجعت أكثر وسألتها عن سبب ذلك، فأجابتها العفريتة بأنها تفعل ذلك انتقاماً منها لأنها رفضت أن تصبح ابنة لها بعد أن فقدت ابنتها، فطمأنتها بنت كبير التجار، وأكدت لها أنها ستكون هي بدلاً من ابنتها التي فقدتها، ثم طلبت منها أن تستريح لترعى النار بدلاً منها، وأخلدت العفريتة إلى النوم، فما كان من بنت كبير التجار إلا أن صبت القطران وهو يغلي على العفريتتين، ثم أخمدت النار. ورجعت إلى قصر الملك ودخلت على ابنة الملك، فرأتها سليمة معافاة ففرحت بذلك وألبستها أحسن الثياب، ثم دخلت على الملك وسألته إذا كانت ابنته قد شفيت فهل يعتقها؟ فوعدها بذلك، وما كان منها إلا أن دعته ليرى ابنته، ولما رآها فرح كثيراً، ودعا ابنة كبير التجار إلى العيش معها في القصر كأخت لها؟ ولكنها رجته أن ينفذ وعده؟ فكان لها ما أرادت.
ورجعت إلى النخاس مرة أخرى تطلب منه أن يعرضها للبيع في سوق الجواري، ولكنه أخبرها أن والدها قد رجع من الحجاز بعد أدائه فريضة الحج، وأكد لها أنه سيقودها إلى البيت.
وكان والدها قد فوجئ بالفتاة الغربية في منزله، فأكدت له أنها ابنته، فسألها عن سمرتها، فأخبرته أن الشمس قد لوحتها، وسألها عن احمرار عينيها؟ فأجابت أن ذلك بسبب فرط بكائها، فطلب منها أن تطبخ له الحريرة، فأكدت له بأنها نسيت طريقة طبخها.
وعاش كبير التجار مع تلك الفتاة الغريبة كارهاً، وهي تصرّ على أنها ابنته.
وذات يوم طرق الباب، فأسرع يفتحه، فرأى النخاس ومعه ابنته، فعرفها على الفور، ولكنه تظاهر بعدم معرفتها، ثم دعاها مع النخاس إلى الدخول، وجمعها بالفتاة الغريبة التي في بيته، وطلب منهما أن تطبخا له الحريرة، وأكد لهما أن التي تجيد طبخها هي ابنته.
وبادرت ابنته على الفور إلى طبخ الحريرة، على حين ترددت تلك الفتاة الغريبة، وعند ئذ ظهر الحق.
وسأل الأب ابنته عن العقاب الذي تريد أن يوقعه في الفتاة التي كانت سبب خروجها من بيتها وتشردها، فأجابت العفو.
وعادت الفتاة إلى تشردها وتسوّلها، على حين التأم شمل الأب والبنت وعاشا في هناء وسرور.
تعليق:
تؤكد الحكاية ضرورة معاملة الإنسان للآخرين انطلاقاً من مبادئه وقيمه، لا كما يعاملونه، وأن يقابل الإساءة بالإحسان، وأن يظل مريداً للخير ولو أراد به الآخرون الشر.
وهي مبنية على حب الآخرين، ونذر الذات لأجلهم، والتضحية في سبيل التقليل من آلامهم مع نكران الذات، وتحمل المصاعب، والشعور بالمتعة في الشقاء لسعادة الآخرين.
والحكاية توحي بأن ذلك كله لا يكون إلا بحسن التربية، إذ تشير منذ البدء إلى أن الأب قد ربى ابنته فأحسن تربيتها، ولذلك صدرت عنها مثل تلك المواقف النبيلة.
وتعدّ بنت كبير التجار نموذجاً فريداً للمرأة في النقاء والطهر والتضحية وحب الآخرين، وهي خلاف معظم من التقت من نساء، من ملكات وجاريات.
والحكاية مركبة من حكاية إطارية هي حكاية بنت كبير التجار، وتضم في داخلها ثلاث حكايات.
والناظم بينهما جميعاً بنت كبير التجار التي تبدو أشبه بالبطل المخلّص.
وحكاية الفتى الذي تحبسه الجارية وتهينه مكرورة وردت في حكاية أخرى، وحكاية زوجة الملك التي تترك زوجها نائماً لتسامر العفريت تشبه حكاية شهرزاد أو بعض حكايات ألف ليلة وليلة.
ولعل أهم عنصر في بناء الحكاية هو حرصها على ثلاثية الحدث، وهي ظاهرة شائعة في الحكايات عامة.