هناك على الشاطئ الممتد وفي حانة كبيرة، كان ينزوي وحيداً أمام طاولة صغيرة مربعة الشكل. اليوم مشمس جميل... الشمس تتوسط الجزء الغربي من السماء، والحانة تكاد تكون فارغة إلا من مجموعتين تجلس إحداهما بالقرب من الرجل المنفرد، يتحدث أفرادها الأربعة الذين يحملون جميعاً نظارات طبية في هدوء واتزان واضحين. لعلهم يتكلمون في السياسة أو في موضوع ثقافي، أما المجموعة الثانية فإنها تحجز طاولة منزوية في الطرف الآخر من الحانة، مما يجعلها مقابلة تماماً للرجل المنفرد، وكان أفرادها يتحدثون وينكتون، ويضحكون بأصوات مرتفعة... الرجل المنفرد كان يجلس في كامل الهدوء، ينظر أمامه ثم يلقي من حين لآخر نظرة هادئة جهة البحر لكن في الفراغ، على الطاولة أمامه صحن من السمك المشوي وزجاجتان من البيرة، كان يأكل مرة ويشرب أخرى في هدوء أيضاً، يلبس بذلة جديدة زرقاء وقميصاً أبيض جميلاً ويضع في عنقه ربطة مناسبة تماماً للبذلة، كان شعره الأسود الأملس ممشطاً بعناية وحذاؤه البني يلمع بشكل واضح.. عندما انتهى من شرب الزجاجتين طلب زجاجتين أخريين، أفرغ إحداهما في الكأس الكبيرة وشربها دفعة واحدة ثم ملأها مرة أخرى إلى منتصفها ووضعها أمامه وحمل سمكة وظل لحظات ينقيها من أشواكها مما يعطي إحساساً بأن لارغبة له في الأكل، خاصة وأن صحن السمك الموجود أمامه منذ مالا يقل عن ساعة مازال يبدو مثلما جاء به النادل لم ينقص منه شيء.. كان من حين لآخر، ومنذ جلس أفراد المجموعة القريبة منه يرفع عينيه ويمر عليهم بنظرة سريعة، ثم يعود إلى شؤونه.. الحانة ماتزال مثلما هي أقرب إلى الهدوء ومجموعة الزاوية المقابلة مستغرقة في حكاية النكات والضحك، والمجموعة القريبة من الرجل المنفرد مستغرقة في المناقشات المختلفة، والرجل المنفرد ينقل نظره بين البحر والمجموعة القريبة منه وطبق السمك وكأس البيرة... الوحيد الذي كان يتحرك وبشكل منتظم تقريباً هو النادل الذي ينتقل بين هذه المجموعة أو تلك أو الرجل المنفرد لتلبية طلبات الجميع... وكانت نغمات أمواج البحر تدغدغ أحجار الشاطئ وتنقلب مخلفة زبدها الأبيض فوق الرمال النظيفة لتصنع سيمفونية عذبة جميلة ترقص لها في خفة ونشاط طيور النوارس التي تحلق بأجنحتها الجميلة على مستوى منخفض جداً متتبعة الحد الفاصل بين الموجة والرمال متجهة مرة إلى الشمال ومرة إلى اليمين، ثم ترتفع أحياناً أخرى فتحوم في مستوى عال متجهة نحو عرض البحر لتستقر بعد قليل فوق صفحته الجميلة الزرقاء مستسلمة لحركة مياه البحر الخفيفة ترقصها رقصات جميلة متزنة... عندما انتهى الرجل المنفرد من البيرة الرابعة طلب اثنتين أيضاً... ملأ كأسه وعندما لاحظ في أسفل الزجاجة قليلاً من السائل الأصفر أفرغه دفعة واحدة في جوفه ثم دفع الزجاجة بعيداً عنه وقرب الزجاجة الثانية المملوءة.. عاد ينظر في صفحة البحر وينقر بأصابع يده اليسرى نقرات خفيفة على الطاولة، ثم أخرج قلماً من جيب سترته وجعل يكتب أو يرسم شيئاً على الورق الأبيض الذي يغطي الطاولة، بعد قليل وعندما كان يعيده إلى جيبه نظر جهة الجماعة التي تجلس بجواره على بعد ثلاثة أمتار تقريباً، وعندما التقت هذه المرة نظرته مع نظرة أحد أفراد الجماعة، حياه الرجل المنفرد بكثير من اللياقة واللطف والتأدب، ثم لم تكد تمضي سوى لحظات قليلة حتى عادت نظراتهما تلتقي من جديد... كان رجل المجموعة يفكر أنه ربما كان يعرف هذا الرجل سابقاً، وكان ينظر إليه محاولاً التأكد من ذلك.. والمهم أن الرجل المنفرد عاد يحيي من جديد.. قام هذه المرة من على كرسيه نصف قيام واضعاً يده اليسرى على صدره، وقد علت وجهه ابتسامة عريضة مؤدبة، وقبل أن يجلس خاطب الجماعة: - متشرفين ياجماعة.. معرفة خير.. اشربوا حاجة من عندي.. وحتى دون أن يترك لهم فرصة شكره أو الاعتذار له نادى النادل وطلب منه أن يقدم لهم أربع بيرات من عنده فلم يسع الجماعة إلا أن يقبلوا منه هذه الهدية الكريمة، ويشكروا له ذلك ليعودوا إلى ماهم فيه من حديث.. عاد الرجل المنفرد إلى هدوئه، وكان من حين لآخر يخرج القلم من جيبه ليخربش به شيئاً على الورق الأبيض ثم يعيده إلى جيبه، وقد يمسد على شعره الأسود الجميل متجهاً بيده من جبهته إلى مؤخرة رأسه، أو يسوي ربطة عنقه التي يتصور أنها ربما تكون قد مالت قليلاً إلى اليمين أو اليسار.. يدفع كرسيه قليلاً ليقربه من الطاولة، وبعد ذلك يعود فيعيده إلى مكانه.. يخرج سيجارة يضعها في فمه وينساها قليلاً، وعندما يحاول أن يمتص الدخان يتنبه إلى أنه لم يشعلها بعد فيخرج الولاعة المذهبة من جيبه، وعندما يشعل طرف السيجارة يجذب منها نفساً قوياً ثم يضعها على المنفضة أمامه ويعود ينظر خارج عالم الطاولة فينسى السيجارة في مكانها إلى أن تتحول إلى رماد بارد يشوبه بعض البياض... كانت البيرة السادسة قد انتهت قبل قليل، وعندما التقى نظره مجدداً برجل الطاولة المجاورة خاطبه كما خاطب الجماعة كلها: - جماعة تفضلوا... زيدوا حاجة.. زيدوا حاجة من عندي.. والله تزيدوا حاجة... الفلوس كاين، الحمد لله... الخير موجود... ماقيمة الفلوس؟! وسخ الدنيا يلعن أبوهم... مرا يجيو، مرا يمشيو.. والحمد لله اليوم موجودين... شكرته الجماعة من جديد واعتذّروا له.. قام رجل الجماعة وذهب إليه.. صافحه باحترام وشكره على كرمه، وأقنعه بعد جهد بأن الجماعة تعتذر... عاد رجل الجماعة إلى مكانه، ولكن الرجل المنفرد ظل من حين لآخر يتحدث بكلمات أو عبارات متقطعة... كان النادل قد وضع أمامه بيرتين أخريين، وكان ينظر مرة جهة الجماعة المجاورة، ومرة جهة الجماعة الأخرى البعيدة، لم يكن أحد ينظر إليه تقريباً عدا نظرات خاطفة من أحد أفراد هذه الجماعة أو تلك عندما يرتفع صوته عن المعتاد... - المال موجود.. الحمد لله.. لأي شيء يصلح المال.. يلعن أبو المال.. ليس المهم هو المال.. المهم الرجال.. أيه الرجال.. نعم الرجال.. والرجال مازالوا موجوين.. نعم... مازالوا موجودين... تالا مازالت تصنع الرجال... رجال تالا لا يموتون... يتحدث وينتقل بنظره مابين الجماعة المجاورة والجماعة البعيدة المقابلة، ثم يخاطب النادل أحياناً عندما يمر أمامه: - أنا ولد تالا.... أنا...أنا... أنا رجل... يلعن أبوه الذي لا يحب الرجال... كان هذه المرة يتحدث بصوت مرتفع... بعض الرذاذ يتطاير من فمه وهو يضرب على صدره بقبضة يده اليمنى: - لكن يارب لماذا الظلم، لماذا؟ قام من مكانه، كان يتمايل قليلاً في مشيته، اتجه إلى الجماعة المجاورة: - السلام عليكم... اسمحوا لي يا أخوتي... والله كان بودي لو شربتم شيئاً آخر.. شيئاً من عندي... نعم أنتم لا تعرفونني، لكن أنا أستطيع أن أقول لكم وأؤكد لكم بأنني أنا...أنا... أنا رجل... أنا ولد تالا... وأولاد تالا ناس كرام... لكن... لكن الظلم لماذا؟! لماذا يا إلهي الظلم... لماذا؟!.... كان الجماعة قد قرروا-دون اتفاق علني- فيما بينهم أن لا يتحدثوا إليه حتى لا يفسد عليهم جلستهم، ولكن أحد الجماعة خرج عن ذلك عندما رأى الدموع تكاد تسيل من عينيه، فسأله: - خير.. ماذا وقع لك؟! من ظلمك؟! - ظلم والله ظلم يا أخي... اتهموني بأنني كنت أسوق بسرعة زائدة، وأنني لم أحترم الإشارة الحمراء التي تمنع المرور، فسحبوا مني رخصة السياقة، وعندما تكلمت لكي أدافع عن حقي زادوا فاتهموني بأنني كنت أسوق في حالة سكر، وأدخولني السجن لأبقى فيه يومين كاملين، السجن؟! ياإلهي، السجن؟! أنا.. أنا أسكر؟! أنا أدخل السجن؟! أنا رجل.. أنا صحيح أشرب.. نعم أشرب..أنا لم أنكر هذا أبداً أشرب نعم وأشرب كثيراً أحياناً.. ماذا يفعل الواحد يا أخي الهم.. الهم... لا يتركنا أشرب... نعم أشرب.... قد أشرب عشر أو حتى عشرين زجاجة بيرة في بعض الأحيان أو أكثر... ولكن هذا لا يعني أبداً بأنني أسكر.. أنا.. أنا لا أسكر أبداً. أبـ...داً... ربما أنتم لا تصدقونني... يمكنكم أن تسألوا عني... أسألوا اسألوا عني كل الأصدقاء، والحمد لله أصدقائي كثيرون.. كثيرون جداً.. يمكنكم أن تسألوا عني في جميع الحانات الموجودة على امتداد هذا الشاطئ الطويل، بل وحتى في غيرها، فقط قولوا لهم عمار.. عمار التالاتي وسترون الجواب... هاهو مثلاً أمامكم مسعود، اسألوه.مسعود خويا الله يخليك أنا أشرب هنا عندكم منذ عشر سنوات على الأقل هل رأيتني مرة واحدة سكرت؟! قل الحق يامسعود أنت حبيبي وصديقي... ياصديقي.... ياعزيزي... تعال... تعال يامسعود، دعني أقبلك، والله أنا أحبك أحبك يامسعود... الرجال أمثالك قليلون... والله ياجماعة صدقوني مسعود هذا رجل كم مرة شربت هنا... لم أشرب فقط، ولكني أكلت أيضاً... أكلت وشربتُ دون أن أدفع شيئاً... أحياناً يكون الواحد يعني الله غالب دون دينار واحد في جيبه... ولكن الحق الحق، فأنا أدفع بمجرد مايكون المال موجوداً... أول واحد أدفع له هو مسعود، الله... الله يامسعود.... آه... أين هي أيام زمان، أيام كان سعر البيرة لا يزيد عن ثلاثة دنانير... وكنا نبدأ الشرب أحياناً بعد الظهر بقليل فلا ننتهي من ذلك إلا بعد طلوع شمس اليوم التالي... إيه كل هذه السنين في الشرب ثم يتهمونني بأنني أسكر.. أنا أسكر؟! جماعة والله أعجبتموني كثيراً، واضح أنكم ناس طيبون... اشربوا من عندي بيرات أخرى رجاء أو أي شيء آخر، لا....لا تردوا طلبي رجاء... كان مايزال واقفاً... لم يتجرأ أحد فيدعوه إلى الجلوس.. عندما رآه النادل يلح على الجماعة في الشرب، اقترب منه وقبله، ثم بطريقة لطيفة قاده إلى مكانه، وهو يتمتم كلاماً غير مفهوم، فما كاد يجلس حتى عاد يتحدث بصوت أكثر ارتفاعاً: أنا راجل... أنا... أنا را...جل...را...جل...را...جل واللي ماعجبوش الحال يقولها.. ايوه را...جل...را...جل...را...جل... قام من مكانه واتجه ناحية الجماعة البعيدة المقابلة له وهو يردد في مقاطع موزونة: - را...جل...را...جل...را...جل...را...جل وعندما صار على بعد خطوات قليلة من الجماعة جعل أحدهم- ويبدو أنه كان ممن يحسنون الدق على الدف والدربوكة- جعل يدق على الطاولة دقات منتظمة منسجمة مع ترديد الرجل المنفرد: - را...جل...را...جل...را...جل...را...جل ويبدو أن الدقات على الطاولة التي كانت تتجاوب معها أصوات الصحون والزجاجات الفارغة الكثيرة والفرشايات والكؤوس، وتزيد نغمتها قوة وجمالاً، يبدو أنها وجدت في نفس الرجل المنفرد تجاوباً في تلك اللحظات فاهتز جسمه الذي كان قبل لحظة يتمايل يميناً وشمالاً، فبدأ رقصة منتظمة جميلة... كان جسمه كله يهتز في رعشات خفيفة وهو يتحرك في خطوات قصيرة منتظمة في الباحة وسط دقات الطاولة وتصفيقات كل الجماعة الحاضرة،وبعدما قطع على هذا النحو نصف مساحة الحانة، نزع -وهو مايزال يهتز تلك الاهتزازات الجنونية- سترته ورماها على الأرض وواصل الرقص في جنون مردداً: - را...جل...را...جل...را...جل...را...جل ..را...جل...را...جل...را...جل...را...جل
هناك على الشاطئ الممتد وفي حانة كبيرة، كان ينزوي وحيداً أمام طاولة صغيرة مربعة الشكل.
اليوم مشمس جميل... الشمس تتوسط الجزء الغربي من السماء، والحانة تكاد تكون فارغة إلا من مجموعتين تجلس إحداهما بالقرب من الرجل المنفرد، يتحدث أفرادها الأربعة الذين يحملون جميعاً نظارات طبية في هدوء واتزان واضحين. لعلهم يتكلمون في السياسة أو في موضوع ثقافي، أما المجموعة الثانية فإنها تحجز طاولة منزوية في الطرف الآخر من الحانة، مما يجعلها مقابلة تماماً للرجل المنفرد، وكان أفرادها يتحدثون وينكتون، ويضحكون بأصوات مرتفعة...
الرجل المنفرد كان يجلس في كامل الهدوء، ينظر أمامه ثم يلقي من حين لآخر نظرة هادئة جهة البحر لكن في الفراغ، على الطاولة أمامه صحن من السمك المشوي وزجاجتان من البيرة، كان يأكل مرة ويشرب أخرى في هدوء أيضاً، يلبس بذلة جديدة زرقاء وقميصاً أبيض جميلاً ويضع في عنقه ربطة مناسبة تماماً للبذلة، كان شعره الأسود الأملس ممشطاً بعناية وحذاؤه البني يلمع بشكل واضح..
عندما انتهى من شرب الزجاجتين طلب زجاجتين أخريين، أفرغ إحداهما في الكأس الكبيرة وشربها دفعة واحدة ثم ملأها مرة أخرى إلى منتصفها ووضعها أمامه وحمل سمكة وظل لحظات ينقيها من أشواكها مما يعطي إحساساً بأن لارغبة له في الأكل، خاصة وأن صحن السمك الموجود أمامه منذ مالا يقل عن ساعة مازال يبدو مثلما جاء به النادل لم ينقص منه شيء..
كان من حين لآخر، ومنذ جلس أفراد المجموعة القريبة منه يرفع عينيه ويمر عليهم بنظرة سريعة، ثم يعود إلى شؤونه..
الحانة ماتزال مثلما هي أقرب إلى الهدوء ومجموعة الزاوية المقابلة مستغرقة في حكاية النكات والضحك، والمجموعة القريبة من الرجل المنفرد مستغرقة في المناقشات المختلفة، والرجل المنفرد ينقل نظره بين البحر والمجموعة القريبة منه وطبق السمك وكأس البيرة... الوحيد الذي كان يتحرك وبشكل منتظم تقريباً هو النادل الذي ينتقل بين هذه المجموعة أو تلك أو الرجل المنفرد لتلبية طلبات الجميع... وكانت نغمات أمواج البحر تدغدغ أحجار الشاطئ وتنقلب مخلفة زبدها الأبيض فوق الرمال النظيفة لتصنع سيمفونية عذبة جميلة ترقص لها في خفة ونشاط طيور النوارس التي تحلق بأجنحتها الجميلة على مستوى منخفض جداً متتبعة الحد الفاصل بين الموجة والرمال متجهة مرة إلى الشمال ومرة إلى اليمين، ثم ترتفع أحياناً أخرى فتحوم في مستوى عال متجهة نحو عرض البحر لتستقر بعد قليل فوق صفحته الجميلة الزرقاء مستسلمة لحركة مياه البحر الخفيفة ترقصها رقصات جميلة متزنة...
عندما انتهى الرجل المنفرد من البيرة الرابعة طلب اثنتين أيضاً... ملأ كأسه وعندما لاحظ في أسفل الزجاجة قليلاً من السائل الأصفر أفرغه دفعة واحدة في جوفه ثم دفع الزجاجة بعيداً عنه وقرب الزجاجة الثانية المملوءة..
عاد ينظر في صفحة البحر وينقر بأصابع يده اليسرى نقرات خفيفة على الطاولة، ثم أخرج قلماً من جيب سترته وجعل يكتب أو يرسم شيئاً على الورق الأبيض الذي يغطي الطاولة، بعد قليل وعندما كان يعيده إلى جيبه نظر جهة الجماعة التي تجلس بجواره على بعد ثلاثة أمتار تقريباً، وعندما التقت هذه المرة نظرته مع نظرة أحد أفراد الجماعة، حياه الرجل المنفرد بكثير من اللياقة واللطف والتأدب، ثم لم تكد تمضي سوى لحظات قليلة حتى عادت نظراتهما تلتقي من جديد... كان رجل المجموعة يفكر أنه ربما كان يعرف هذا الرجل سابقاً، وكان ينظر إليه محاولاً التأكد من ذلك.. والمهم أن الرجل المنفرد عاد يحيي من جديد.. قام هذه المرة من على كرسيه نصف قيام واضعاً يده اليسرى على صدره، وقد علت وجهه ابتسامة عريضة مؤدبة، وقبل أن يجلس خاطب الجماعة:
- متشرفين ياجماعة.. معرفة خير.. اشربوا حاجة من عندي..
وحتى دون أن يترك لهم فرصة شكره أو الاعتذار له نادى النادل وطلب منه أن يقدم لهم أربع بيرات من عنده فلم يسع الجماعة إلا أن يقبلوا منه هذه الهدية الكريمة، ويشكروا له ذلك ليعودوا إلى ماهم فيه من حديث..
عاد الرجل المنفرد إلى هدوئه، وكان من حين لآخر يخرج القلم من جيبه ليخربش به شيئاً على الورق الأبيض ثم يعيده إلى جيبه، وقد يمسد على شعره الأسود الجميل متجهاً بيده من جبهته إلى مؤخرة رأسه، أو يسوي ربطة عنقه التي يتصور أنها ربما تكون قد مالت قليلاً إلى اليمين أو اليسار.. يدفع كرسيه قليلاً ليقربه من الطاولة، وبعد ذلك يعود فيعيده إلى مكانه.. يخرج سيجارة يضعها في فمه وينساها قليلاً، وعندما يحاول أن يمتص الدخان يتنبه إلى أنه لم يشعلها بعد فيخرج الولاعة المذهبة من جيبه، وعندما يشعل طرف السيجارة يجذب منها نفساً قوياً ثم يضعها على المنفضة أمامه ويعود ينظر خارج عالم الطاولة فينسى السيجارة في مكانها إلى أن تتحول إلى رماد بارد يشوبه بعض البياض...
كانت البيرة السادسة قد انتهت قبل قليل، وعندما التقى نظره مجدداً برجل الطاولة المجاورة خاطبه كما خاطب الجماعة كلها:
- جماعة تفضلوا... زيدوا حاجة.. زيدوا حاجة من عندي.. والله تزيدوا حاجة... الفلوس كاين، الحمد لله... الخير موجود... ماقيمة الفلوس؟! وسخ الدنيا يلعن أبوهم... مرا يجيو، مرا يمشيو.. والحمد لله اليوم موجودين...
شكرته الجماعة من جديد واعتذّروا له.. قام رجل الجماعة وذهب إليه.. صافحه باحترام وشكره على كرمه، وأقنعه بعد جهد بأن الجماعة تعتذر...
عاد رجل الجماعة إلى مكانه، ولكن الرجل المنفرد ظل من حين لآخر يتحدث بكلمات أو عبارات متقطعة... كان النادل قد وضع أمامه بيرتين أخريين، وكان ينظر مرة جهة الجماعة المجاورة، ومرة جهة الجماعة الأخرى البعيدة، لم يكن أحد ينظر إليه تقريباً عدا نظرات خاطفة من أحد أفراد هذه الجماعة أو تلك عندما يرتفع صوته عن المعتاد...
- المال موجود.. الحمد لله.. لأي شيء يصلح المال.. يلعن أبو المال.. ليس المهم هو المال.. المهم الرجال.. أيه الرجال.. نعم الرجال.. والرجال مازالوا موجوين.. نعم... مازالوا موجودين... تالا مازالت تصنع الرجال... رجال تالا لا يموتون...
يتحدث وينتقل بنظره مابين الجماعة المجاورة والجماعة البعيدة المقابلة، ثم يخاطب النادل أحياناً عندما يمر أمامه:
- أنا ولد تالا.... أنا...أنا... أنا رجل... يلعن أبوه الذي لا يحب الرجال... كان هذه المرة يتحدث بصوت مرتفع... بعض الرذاذ يتطاير من فمه وهو يضرب على صدره بقبضة يده اليمنى:
- لكن يارب لماذا الظلم، لماذا؟
قام من مكانه، كان يتمايل قليلاً في مشيته، اتجه إلى الجماعة المجاورة:
- السلام عليكم... اسمحوا لي يا أخوتي... والله كان بودي لو شربتم شيئاً آخر.. شيئاً من عندي... نعم أنتم لا تعرفونني، لكن أنا أستطيع أن أقول لكم وأؤكد لكم بأنني أنا...أنا... أنا رجل... أنا ولد تالا... وأولاد تالا ناس كرام... لكن... لكن الظلم لماذا؟! لماذا يا إلهي الظلم... لماذا؟!....
كان الجماعة قد قرروا-دون اتفاق علني- فيما بينهم أن لا يتحدثوا إليه حتى لا يفسد عليهم جلستهم، ولكن أحد الجماعة خرج عن ذلك عندما رأى الدموع تكاد تسيل من عينيه، فسأله:
- خير.. ماذا وقع لك؟! من ظلمك؟!
- ظلم والله ظلم يا أخي... اتهموني بأنني كنت أسوق بسرعة زائدة، وأنني لم أحترم الإشارة الحمراء التي تمنع المرور، فسحبوا مني رخصة السياقة، وعندما تكلمت لكي أدافع عن حقي زادوا فاتهموني بأنني كنت أسوق في حالة سكر، وأدخولني السجن لأبقى فيه يومين كاملين، السجن؟! ياإلهي، السجن؟! أنا.. أنا أسكر؟! أنا أدخل السجن؟! أنا رجل.. أنا صحيح أشرب.. نعم أشرب..أنا لم أنكر هذا أبداً أشرب نعم وأشرب كثيراً أحياناً.. ماذا يفعل الواحد يا أخي الهم.. الهم... لا يتركنا أشرب... نعم أشرب.... قد أشرب عشر أو حتى عشرين زجاجة بيرة في بعض الأحيان أو أكثر... ولكن هذا لا يعني أبداً بأنني أسكر.. أنا.. أنا لا أسكر أبداً. أبـ...داً... ربما أنتم لا تصدقونني... يمكنكم أن تسألوا عني... أسألوا اسألوا عني كل الأصدقاء، والحمد لله أصدقائي كثيرون.. كثيرون جداً.. يمكنكم أن تسألوا عني في جميع الحانات الموجودة على امتداد هذا الشاطئ الطويل، بل وحتى في غيرها، فقط قولوا لهم عمار.. عمار التالاتي وسترون الجواب... هاهو مثلاً أمامكم مسعود، اسألوه.مسعود خويا الله يخليك أنا أشرب هنا عندكم منذ عشر سنوات على الأقل هل رأيتني مرة واحدة سكرت؟! قل الحق يامسعود أنت حبيبي وصديقي... ياصديقي.... ياعزيزي... تعال... تعال يامسعود، دعني أقبلك، والله أنا أحبك أحبك يامسعود... الرجال أمثالك قليلون... والله ياجماعة صدقوني مسعود هذا رجل كم مرة شربت هنا... لم أشرب فقط، ولكني أكلت أيضاً... أكلت وشربتُ دون أن أدفع شيئاً... أحياناً يكون الواحد يعني الله غالب دون دينار واحد في جيبه... ولكن الحق الحق، فأنا أدفع بمجرد مايكون المال موجوداً... أول واحد أدفع له هو مسعود، الله... الله يامسعود.... آه... أين هي أيام زمان، أيام كان سعر البيرة لا يزيد عن ثلاثة دنانير... وكنا نبدأ الشرب أحياناً بعد الظهر بقليل فلا ننتهي من ذلك إلا بعد طلوع شمس اليوم التالي... إيه كل هذه السنين في الشرب ثم يتهمونني بأنني أسكر.. أنا أسكر؟! جماعة والله أعجبتموني كثيراً، واضح أنكم ناس طيبون... اشربوا من عندي بيرات أخرى رجاء أو أي شيء آخر، لا....لا تردوا طلبي رجاء...
كان مايزال واقفاً... لم يتجرأ أحد فيدعوه إلى الجلوس.. عندما رآه النادل يلح على الجماعة في الشرب، اقترب منه وقبله، ثم بطريقة لطيفة قاده إلى مكانه، وهو يتمتم كلاماً غير مفهوم، فما كاد يجلس حتى عاد يتحدث بصوت أكثر ارتفاعاً:
أنا راجل... أنا... أنا را...جل...را...جل...را...جل واللي ماعجبوش الحال يقولها.. ايوه را...جل...را...جل...را...جل...
قام من مكانه واتجه ناحية الجماعة البعيدة المقابلة له وهو يردد في مقاطع موزونة:
- را...جل...را...جل...را...جل...را...جل
وعندما صار على بعد خطوات قليلة من الجماعة جعل أحدهم- ويبدو أنه كان ممن يحسنون الدق على الدف والدربوكة- جعل يدق على الطاولة دقات منتظمة منسجمة مع ترديد الرجل المنفرد:
ويبدو أن الدقات على الطاولة التي كانت تتجاوب معها أصوات الصحون والزجاجات الفارغة الكثيرة والفرشايات والكؤوس، وتزيد نغمتها قوة وجمالاً، يبدو أنها وجدت في نفس الرجل المنفرد تجاوباً في تلك اللحظات فاهتز جسمه الذي كان قبل لحظة يتمايل يميناً وشمالاً، فبدأ رقصة منتظمة جميلة...
كان جسمه كله يهتز في رعشات خفيفة وهو يتحرك في خطوات قصيرة منتظمة في الباحة وسط دقات الطاولة وتصفيقات كل الجماعة الحاضرة،وبعدما قطع على هذا النحو نصف مساحة الحانة، نزع -وهو مايزال يهتز تلك الاهتزازات الجنونية- سترته ورماها على الأرض وواصل الرقص في جنون مردداً:
- را...جل...را...جل...را...جل...را...جل ..را...جل...را...جل...را...جل...را...جل