شعرت بنشوة وأنا أرقب عصافير الدوري في الساحة الواسعة تحت الشرفة في ذاك الصباح البارد قبل طلوع الشمس من خلف البناء المقابل.
رجعت في الزمن خمسة عشر عاماً حين كنت في العاشرة أركب حمار خالتي شفيقة الأسود أمثل دور فارسة عربية لأن الحمار كان كبيراً نسبة إلى صغري وقصر قامتي. كان لي وجه أحسد عليه حتى إن النسوة يرددن "يخزي العين.. وجه كرغيف الخبز" وتلمست في تلك اللحظة وجهي الذي صيرته السنين ككمشة من رمل الصحراء وصلت بيت سعدى الصغيرة، سعدى القوية تركض خلف دجاجاتها تضمهن في حضنها وتطعمهن في يدها واحدة إثر الأخرى كأنهن اعتدن على الطاعة والنظام.
سعدى تجمع البيض في السلال كأحجار كريمة فالبيض رزقها الوحيد الذي يبقيها في عناد الحياة هي وأخوها سليمان الذي يشحذ أحياناً بتأدب كأن يقرأ الفنجان والكف فيأخذ بضعاً من الليرات أو يدعو بعض الدعاء. أعطتني بيضة واحدة، ثم شرحت لي عدد الأكلات التي يدخل فيها البيض حتى أحسست فعلاً أنني أحمل جوهرة. فكرت أن آخذ كتكوتاً فالكتكوت يعطي مائة بيضة. أمسكت واحدة بقبضة يدي حينها غاب العالم كله عن نظري حين أوقعتني أمه الدجاجة في منخفض مليء بالحجارة المدببة وصارت تركلني بقدميها فوق صدري ووجهي وتصفعني بجناحيها، جناحين بقوة الموج حين يثور على الرمل.
جاء سليمان من الجبل المرقع بالصخور هناك يجتمع أهالي القرى بطبخون اللحم والرز أمام المقام.
لم يسكت ألمي إلا ثورة القطط التي ظهرت فجأة... من فوق أغصان الشجر من وراء الصخور... من النوافذ... نظر إليها بعيون ذابلة صغيرة كحبتي حمص لم يكترث لوجودي دس يده في جيب سرواله الواسع وأخرج قطعاً من البطاطا المسلوقة واللحمة، أطعمها بيده كما فعلت سعدى.. القطة الكبيرة لحست يده حتى نظفت من الزفرة وهو بدوره أكمل اللحس حقاً لم أقشع في حياتي قططاً سمينة بهذا الحجم كأنها نمور في قوتها... (عائلة مدهشة).
سألت سليمان إذا كانت إحدى هذه القطط على وحشيتها قد أكلت إحدى الدجاجات على جوعها حينها صرخ بي بصوت مرتجف فيه حدة وعصبية (ليست متوحشة) وأدمعت عيناه (هي أرحم من البشر أيتها الصغيرة. هي لا تأكلها بل تحميها من اللصوص والذئاب).
الكل يظن أن سليمان وسعدى بائسان لأنهما لم يتزوجا أو يرزقا بأولاد. سليمان يشحذ ليستمر في الحياة.. لكن القدر أقوى من الاستمرار... لقد مات سليمان حين انحنى ظهره وصار رأسه قريباً جداً من الأرض حتى صار يتكئ على عصاً رفيعة لكنها قوية تسند جسده الخفيف. بقدر ماكان ظهره قريباً من الأرض كان دعاؤه قريباً من السماء. القرويون قالوا جميعاً "اللّه يرحمه... ارتاح سليمان وتعذبت عشرات القطط من بعده وقبل أن تتشرد في الأحراش اجتمعت كلها في ساحة القرية وصارت تنوء وتبكي حتى حاربوها بالحجارة الصغيرة... لم يبق في القرية قط واحد يعتني به إنهم مكتفون بإطعام الدجاج والبط والأبقار تلك الذكرى جعلتني في تلك القرية أمليت عيوني بمنظر الطريق، غرفة سعدى لم تتغير الحجارة كما هي بيضاء كبيض الدجاجات... أكيد صار لفراخها أحفاد فكرت بذلك وأنا أمشي صوت خرير (العين) يُسمع، يصل إلى غرفة سعدى، غرفة عتيقة واسعة، نوافذها من حديد، لايرى منها لكثرة العشب البري، وشتلات الديس العملاقة.
شعرت بوجع في نفسي حين رأيت سعدى وقد أهلكها الدهر فوق سرير قديم من موديل أيامنا هذه له أربعة أعمدة طويلة. فوق الغطاء الذي تجلس فوقه حبات من البصل الجاف وصحون من الألمنيوم، راديو وسخ قديم وأشياء لم أعرف ماهي.
صرخت عندما وقفت في الباب (ضيوف في غرفتي أشم رائحة عطر نسائية.. من بالباب تفضلي) وخبطت على السرير مشيرة لي كي أجلس قربها كأن الغطاء لم يغسل منذ أعوام طويلة، كرسي واحد في الغرفة لكنه غير صالح للجلوس عليه لأنه بلا قاعدة.
لم يكن أمامي سوى القعود عليه شاعرة بنوبة قريبة من الإقياء لم أتوقع من القدر أن يكون قاسياً لدرجة أن يجعل من سعدى امرأة ذابلة لحد اليباس، مقعدة وعمياء تأكل البكتريا عينيها العسليتين فستانها مفتوح يظهر منه ثديان متباعدان مهترئان.
تحسست يدي ببله فوقعت يدها على أساوري. قالت بغصّة: (كنت كالملكة يا حسرة على شبابي).
أدهشتني قصتها حين سردتها أيمكن أن يكون لتلك المرأة الجبلية أن تسافر من حلب إلى لبنان يوم كانت صبيّة فقط لتجعل من شعرها المسترسل شعراً مجعداً؟! قالت إن الحياة جميلة وأنها لا تريد أن تموت الآن مع أن أولاد أختها يكرهون خدمتها ولو مرة في الشهر. (اللّه لا يقطع بأحد.. يشهد اللّه وحق هذا المقام الكبير أني لم أشحذ يوماً لكني في يوماً جلست بجانب غجرية أحدثها وتحدثني ضحكنا كثيراً، فجأة وجدت نفسي في سيارة عسكرية وضعت بعدها في (الكركون) بكيت كنت أجمل عيون سحرت ذاك الشرطي الأسمر الذي ساعدني -وضحكت حينها فبانت لثتها السوداء وثلاث أسنان واحدة في الأعلى واثنتين في الأسفل- الجمارك على الحدود يسموني ذات العيون العسلية. أحبني ذالك الشرطي جلب لي رغيفاً كاملاً من الخبز وصحن حمص مع فحل من البصل، واتصل بأختي كي تأتي من سورية لمساعدتي فلم تفعل. صحيحاً كنت غسّالة وأفضل غسّالة في صيدا لكني دللت نفسي، لبست الذهب، واقتنيت الجوخ والحرير والجلد وأحمر الشفاه. عملت عند باشا، وعند أرملة مقعدة سنوات وفي بيروت عرفت الحياة رقصت.. شربت، ودخنت الدخان الأمريكي).
في تلك اللحظة أخذت لها صورة فصرخت:
-لمعت الدنيا لكأننا في حزيران.
-إنها صورة للذكرى يا جدتي.
-جدتك؟!
-آسفة... يا خالة.. كم عمرك ياخالة؟
-سبعون، ستون، خمسون اللّه أعلم.. لم يسجلوني على عمري.
والعجيب أنها تحب الدجاج من الطفولة. حدثتني عن صورة مع دجاجات في حظيرة الباشا.
لم يبق من الدجاجات ولا واحدة، أكلتها الضباع كلها. بعد هجرة القطط تجرأت الوحوش الصغيرة، وصارت تقترب من الباب وتنظر. ضحكت سعدى بمرارة (لو كان لحمي طرياً لأكلتني أيضاً).
مرة تأخر سليمان على غير العادة، فسهرت مع قططه حتى الثامنة مساءً، وحين سمعت صوت ركلات على الحصى، ظنته الثعلب، أمسكت بحجر وزمجرت القطط.
-أجيت ياخيي سليمان.. تعوّقت.
-أنا سليمان بذاتو.
ثم أخرج من جيوبه الطعام كالعادة. كان جائعاً وهو يرقب العائلة كلها وهي تنهي الطعام ليلحس ماتبقى من الزفرة على أصابعه. قبل أن يموت طلب أن يرى (رضيوان) صديقه وحقق اللّه حلمه.
تأوهت سعدى: (آخ... الأرض تضجر من تحتي.. تمضي أيام لا أكلم فيها أحداً سوى هذا القط الجاثم.. لم يبق إلاّنا من كل تلك العائلة، إنه من رائحة سليمان، آخ تيبّست أقدامي من القعود الطويل، كنت كالثور أحمل شوالات الحنطة.. كالرجال تماماً، فساتيني معلقة من سنين لم تتحرك من مكانها، لم تلبس ولم تغسل.
حملت حقيبتي ورجعت، حتى الحمار الأسود مات، مات سليمان ومات من بعده جيش من القطط وقبيلة من الدجاجات.
قبر سليمان صغير تحت ظل شجرة خرنوب أزرة، جذعاها ضخمان كأخوين يتقاطعان على شكل حرف الطاء أحدهما أخضر والآخر يابس فاستحضرني قول شاعر وأنا أسير مبتعدة لا أرى بسبب اختلاط الكحل بدمعي سوى جنازة أخرى تشيع فوق جثمان طفولتي:
أكل التراب محاسني فنسيتكم
وحجبت عن أهلي وأترابي
عليكم مني السلام تقطعّت
مني ومنكم خلّة الأحباب