خرج صوت من المطبخ، حان الوقت للفطور، صاروا في حلقة حول طاولة السفرة يزن يبتلع الطعام كسائل لا يحتاج إلى هضم، الأم منشغلة بإملاء صحنه كلما فرغ، أشعل الأب سيجارة، حدّق بملامح يزن (عيونه الغامقة، عرض أكتافه، اللحية والشارب الأسود المتصل بها عند التقاء الشفتين) أخيراً وضع ملعقته جانباً بعد جهد من المضغ والبلع. قال الأب بعد شرود: (ذكرتني بجدك... اللّه يرحمه، كان مثلك يحب الأكل).. وأعاد عليهم الحكاية كل سنة ويحكيها بفخر ونشوة كمناسبة وطنية. وهو يستحق، سجّل فوق السنة ذابت في التراب حكاية بطولة يبدأ بسردها بعد مقدمة فلسفية. قرية أفلست أرضها، قلّ القمح، والسكر، وصودر الطحين والجوع كافر. لكن ممارسة الكفر مكبوحة. وكيف يجد اللص مايلصّه. حتى الثرثرة عن تلك وذاك بطلت لتوفير أكبر قدر من الحريرات. يبحثون في كل زاوية عن شيء يأكلونه من خشاش الأرض. وحسن لم يشبع ولو مرة من كمشة الحنطة حصته اليومية التي يأكلها مسلوقة مع رشة من الملح. ليقضمها بشره. يقضي وقتاً يفتش بين الأعشاب البرية الرطبة عن الهندباء، والبقلة، مع رغيف خبز أسمر من الشعير. صالحه القدر حين أعجب بقوته القائد الألماني المشرف على تدريب الجيش الأنكشاري انتشله من بين صفوف العسكر الراحلين صوب أرض باردة يدفنون بها مغسولين بدمائهم، حرب نتائجها كلها واحدة. حين وقف جانب الضابط أحس بالحزن والفرح. انتابه القلق أيضاً أمام هدير الأحذية العسكرية فوق الطريق. أصوات تختفي يغلفها غبار كالضباب ودع شباب الضيعة واحداً واحداً بنظرات حنين. أصبح حارساً كالكلب المربوط على باب القائد في داره المشرف على السهول والبيوت المتواضعة، كان يفكر بذلك اليباس الذي يلمع كالذهب من البعيد حين تشتعل فوقه الشمس. و (كاتارينا) الكلمة الوحيدة التي حفظها من اللغة الألمانية (كاتارينا) كلامها الغريب فيه موسيقا، شعر أصفر غاف على ظهرها، هي كالشمس من يقترب منها يشتعل، ومن يحدق بها ينطفئ صرخ قلب حسن من الضربة الأولى.. أحبها كطفل يشتهي القمر تستدعيه أحياناً ليسليها في غربتها، في حياة لم تعتد عليها... حتى صار كظلها حين تخطو وحين تجلس على طاولة الطعام وجهه يحمر من الغيظ وهو يرقبها تأكل من كل صحن لقمة ثم تأتي الخادمة لترمي الباقي في الزبالة. بدأت الحدود الرسمية تزول مع الأيام وهذا ماشجعه لأن يصارحها. -أليس لكم ديانة يا سيدتي؟ -طبعاً... حسن. -ودينكم يسمح برمي نعمة من اللّه في الزبالة؟ -لكنها فضالة... أنت ... تأكل فضالة. خجل حسن أن يخرج من صدره ضحكة صاخبة من ضحكاته المعتادة. فصمتت الزوجة مدركة قصده، وبدأت تدعوه أن يأكل معها، ترقبه بلذة ودهشة وهو ينهي الصحون لا يترك فيها لحسة واحدة.. وتقز نفسها حين يمسح فمه من الزفرة بطرف كمه أول مايجلس على الطعام يتصرف بلباقة، يمضغ بهدوء وبفم مغلق وما أن تمسح ثغرها بالمنديل حتى يصبح بلعومه آلة للبلع السريع. حركاته يبالغ فيها ليحظى بضحكتها ورضاها يجعل نفسه جزءاً مسلياً من وقتها كالدّخان كالنبيذ، كآلة البيانو. كالعادة.. أكل حتى أهلكها من الضحك كان يمسح فمه وشاربيه حين وقع نظره على شيء لم يره في حياته كلها بدا جسدها واضحاً من تحت الروب الأحمر وضوح السمك السابح في حوض الماء شعر بأن الكرة الأرضية لعبة في كف طفل عابث. طلب منها وهي مبللة بالعرق أن تحضر غطاء السرير فعلت ذلك بدهشة، ثم أمرها أن تضعه على رأسها حتى يصل إلى أسفلها وتفتح رجليها وهي واقفة. قرأ الفاتحة وخر على البلاط بطوله وعرضه. -والآن ياسيدتي مرّي فوقي بثلاث خطوات إلى الأمام ابدئي برجلك اليمنى فعلت ذلك ظانة أنه يلاعبها ثم توقف ونفخ متنهداً كأن بركاناً خرج من صدره. أنت الآن أمي إنشاء اللّه. أمسكت خصرها، استغاثت من ألم الضحك، مسحت دموعها الزرقاء وحسن يتأمل جمالها لأول مرة حتى وصل صوتها إلى آخر الممر حيث زوجها يرنو بخطوات عسكرية فأطرق. فكر أنها نهايته (كاتارينا) لم تذعر ولم تكترث لضحكها مع رجل آخر غير زوجها بدا الضابط مثلها لم يظهر عليه الغضب ابتسم وأشار له بحركة من يده أن يتابع مهمته في الحراسة. يقول جدكم: (في البرد وجانب البيت الكبير بدأت قدمايا ترتجفان كقصبتين في ليلة عاصفة. غطاء السرير في الصالون (وكاتارينا) شبه عارية سيقتلها أم سيقتلني بل سيجعل مني طعاماً لكلابه عليّ الهرب الموت بطريقتي أرحم....). وقبل أن يفعل سمع صوت ضحكتين ومن النافذة العريضة أشار إليه أن يدخل. ضغط على كتفه بقوة محببة وشده إلى الصالون. -أصيل ياحسن.. لم يقولون أنكم تخونون؟ (كاتارينا) تحضن زوجها أمام نظره وتقول: أنا أم حسن الكبير... وعلى فراش الموت نسي حسن الجوع والجهل والبرد والألم لكنه لم ينسى كلام الضابط الذي دخل في قلبه وخرج مع روحه. لم يقولون أنكم تخونون لم يقولون بأن.... بأ.... نك.... بأنكم... تخـ.... تخـ....).
خرج صوت من المطبخ، حان الوقت للفطور، صاروا في حلقة حول طاولة السفرة يزن يبتلع الطعام كسائل لا يحتاج إلى هضم، الأم منشغلة بإملاء صحنه كلما فرغ، أشعل الأب سيجارة، حدّق بملامح يزن (عيونه الغامقة، عرض أكتافه، اللحية والشارب الأسود المتصل بها عند التقاء الشفتين) أخيراً وضع ملعقته جانباً بعد جهد من المضغ والبلع. قال الأب بعد شرود: (ذكرتني بجدك... اللّه يرحمه، كان مثلك يحب الأكل).. وأعاد عليهم الحكاية كل سنة ويحكيها بفخر ونشوة كمناسبة وطنية. وهو يستحق، سجّل فوق السنة ذابت في التراب حكاية بطولة يبدأ بسردها بعد مقدمة فلسفية.
قرية أفلست أرضها، قلّ القمح، والسكر، وصودر الطحين والجوع كافر. لكن ممارسة الكفر مكبوحة. وكيف يجد اللص مايلصّه. حتى الثرثرة عن تلك وذاك بطلت لتوفير أكبر قدر من الحريرات. يبحثون في كل زاوية عن شيء يأكلونه من خشاش الأرض.
وحسن لم يشبع ولو مرة من كمشة الحنطة حصته اليومية التي يأكلها مسلوقة مع رشة من الملح. ليقضمها بشره. يقضي وقتاً يفتش بين الأعشاب البرية الرطبة عن الهندباء، والبقلة، مع رغيف خبز أسمر من الشعير.
صالحه القدر حين أعجب بقوته القائد الألماني المشرف على تدريب الجيش الأنكشاري انتشله من بين صفوف العسكر الراحلين صوب أرض باردة يدفنون بها مغسولين بدمائهم، حرب نتائجها كلها واحدة. حين وقف جانب الضابط أحس بالحزن والفرح. انتابه القلق أيضاً أمام هدير الأحذية العسكرية فوق الطريق. أصوات تختفي يغلفها غبار كالضباب ودع شباب الضيعة واحداً واحداً بنظرات حنين. أصبح حارساً كالكلب المربوط على باب القائد في داره المشرف على السهول والبيوت المتواضعة، كان يفكر بذلك اليباس الذي يلمع كالذهب من البعيد حين تشتعل فوقه الشمس.
و (كاتارينا) الكلمة الوحيدة التي حفظها من اللغة الألمانية (كاتارينا) كلامها الغريب فيه موسيقا، شعر أصفر غاف على ظهرها، هي كالشمس من يقترب منها يشتعل، ومن يحدق بها ينطفئ صرخ قلب حسن من الضربة الأولى.. أحبها كطفل يشتهي القمر تستدعيه أحياناً ليسليها في غربتها، في حياة لم تعتد عليها... حتى صار كظلها حين تخطو وحين تجلس على طاولة الطعام وجهه يحمر من الغيظ وهو يرقبها تأكل من كل صحن لقمة ثم تأتي الخادمة لترمي الباقي في الزبالة.
بدأت الحدود الرسمية تزول مع الأيام وهذا ماشجعه لأن يصارحها.
-أليس لكم ديانة يا سيدتي؟
-طبعاً... حسن.
-ودينكم يسمح برمي نعمة من اللّه في الزبالة؟
-لكنها فضالة... أنت ... تأكل فضالة.
خجل حسن أن يخرج من صدره ضحكة صاخبة من ضحكاته المعتادة. فصمتت الزوجة مدركة قصده، وبدأت تدعوه أن يأكل معها، ترقبه بلذة ودهشة وهو ينهي الصحون لا يترك فيها لحسة واحدة.. وتقز نفسها حين يمسح فمه من الزفرة بطرف كمه أول مايجلس على الطعام يتصرف بلباقة، يمضغ بهدوء وبفم مغلق وما أن تمسح ثغرها بالمنديل حتى يصبح بلعومه آلة للبلع السريع. حركاته يبالغ فيها ليحظى بضحكتها ورضاها يجعل نفسه جزءاً مسلياً من وقتها كالدّخان كالنبيذ، كآلة البيانو.
كالعادة.. أكل حتى أهلكها من الضحك كان يمسح فمه وشاربيه حين وقع نظره على شيء لم يره في حياته كلها بدا جسدها واضحاً من تحت الروب الأحمر وضوح السمك السابح في حوض الماء شعر بأن الكرة الأرضية لعبة في كف طفل عابث.
طلب منها وهي مبللة بالعرق أن تحضر غطاء السرير فعلت ذلك بدهشة، ثم أمرها أن تضعه على رأسها حتى يصل إلى أسفلها وتفتح رجليها وهي واقفة. قرأ الفاتحة وخر على البلاط بطوله وعرضه.
-والآن ياسيدتي مرّي فوقي بثلاث خطوات إلى الأمام ابدئي برجلك اليمنى فعلت ذلك ظانة أنه يلاعبها ثم توقف ونفخ متنهداً كأن بركاناً خرج من صدره.
أنت الآن أمي إنشاء اللّه.
أمسكت خصرها، استغاثت من ألم الضحك، مسحت دموعها الزرقاء وحسن يتأمل جمالها لأول مرة حتى وصل صوتها إلى آخر الممر حيث زوجها يرنو بخطوات عسكرية فأطرق. فكر أنها نهايته (كاتارينا) لم تذعر ولم تكترث لضحكها مع رجل آخر غير زوجها بدا الضابط مثلها لم يظهر عليه الغضب ابتسم وأشار له بحركة من يده أن يتابع مهمته في الحراسة.
يقول جدكم:
(في البرد وجانب البيت الكبير بدأت قدمايا ترتجفان كقصبتين في ليلة عاصفة. غطاء السرير في الصالون (وكاتارينا) شبه عارية سيقتلها أم سيقتلني بل سيجعل مني طعاماً لكلابه عليّ الهرب الموت بطريقتي أرحم....).
وقبل أن يفعل سمع صوت ضحكتين ومن النافذة العريضة أشار إليه أن يدخل. ضغط على كتفه بقوة محببة وشده إلى الصالون.
-أصيل ياحسن.. لم يقولون أنكم تخونون؟
(كاتارينا) تحضن زوجها أمام نظره وتقول:
أنا أم حسن الكبير...
وعلى فراش الموت نسي حسن الجوع والجهل والبرد والألم لكنه لم ينسى كلام الضابط الذي دخل في قلبه وخرج مع روحه.
لم يقولون أنكم تخونون لم يقولون بأن.... بأ.... نك.... بأنكم... تخـ.... تخـ....).