تتراخى شجرةُ التوت الأحمر في زاويةٍ منَ الأرضِ البنيّة المقامة بعناية. ضجيجُ الماء المندفع من الصهريج جُعلَ نومتَهُ في الجوِّ الحار عميقةٌ.. بدأت المياه تفيضُ من الحفرةِ الطويلةِ، قَفِزِ دون إرادةٍ، أطفأ (الموتور) ثم أصلح الخطُ بالمجرفة. تفحّص صفوف الورد بنظره الضعيف، تنهّد ملء صدره، غسل وجهه المنتفخ، مسح شعره المجعّد وأعاد قبعة القماش المغمسة بآثار التراب الأحمر. شدّ الحمار الرمادي إلى غرفته الحجرية، أغلق باب الخشب المشقّق وجلس على كرسيٍ صغيرٍ متأملاً وجه أمه، مازالتْ مذ تركها عند الصباح فوق الحصير، تصفُّ ورق نبات الدخّان بالمئزر المنتهي إلى خيطٍ ثخينٍ. هزّ رأسه بسرورٍ، ثم استأنف عمله بربط ما اشتغلته فوق سقف خيمة القصب حتى تتيبس الوريقات وتحترق بلهب الشمس. تمدّد أخيراً بارتياح ناظراً إلى أعلى الخيمة: -سأ.. سأتزوج قريباً، موسم الورد كثيرٌ في الحقل.. والدخّان أيضاً. صرخت الأم العجوز وهي تقف بصعوبة تنفضُ عن فستانها غبار الورق: -حمدو.. إلحقْ إلى الطاحون، واحضر لنا كيساً من الخبز. الحمار ينظر من نافذة غرفته الصغيرة، يتطلع إلى صاحبه بعيون تعبة بعد وجبةٍ دسمةٍ من الشعير. شُدَّ ثانيةً من حجرته،.. وهذه المرة أرخى حميد ثقله عليه. البيوت تمشي إلى الوراء، وفي كلِّ حجرةٍ من تلك البيوت تجلس فتاةٌ صبيةٌ. هذا بيت (سُليمى) صاحبة الوجه الخمري الداكن الذي يمقته، وذاك بيت (نائلة) جارتها التي تتحرك بصعوبة لقصر ساقيها، وهو إلى تلك اللحظة لا يقدر أن ينسى كيف تدحرجت على الطريق الترابي المنحدر. أما (فريزة) فلها رائحةٌ ثقيلةٌ مزعجةٌ برغم شعرها المجدول والعيون الخضراء الربيعية. استحضر صور جميع فتيات القرية محاولاً أن يرشَّ على كلِّ واحدةٍ لمسةٌ من السحر. جعل كل واحدة تبتسم بجاذبية، مرتدية الحرير والحلي، فلم يفلحْ، كلّهنّ لا يحركنّ به أي شعورٍ، ابتسم باستهزاء قائلاً في نفسه (وفوق هذا كلّه... لا يَرُدُّنَّ السلام). قبل أن يصيح الديك الكبير ويوقظ الدجاجات، نهض حميد من فراشه الساخن، قضم رغيفاً مغمساً بزيت الزيتون مع فحل من البصل. وقبل أنْ تخرج الشمس من تحت الجبل العملاق كان بين شجر الورد، يقص السيقان بالمقص ويرتبها بنعومة فوق ساعده، ثم يربطها بشريطٍ، كلُّ مجموعةٍ على حدة. سعر الوردة ارتفع هذا العام حتى وصل إلى "الخمس ليرات"، وبدا ساهياً متى سيتوقف عن البيع للحظةٍ، لحظة تنام عروسه فوق حقل الورد، وتمشي فوقه كالنحلة، فكّر ببنات المدينة، نظافتهن.. مشيتهن.. كثرتهن.. غداً آخر نقلة امتلأ صندوقه بالنقود، سيبيع عدّة مسح الأحذية التي يستخدمها لتلميع الأحذية شتاءً، بيد أنه سينظف آخر حذاء، له قبل أن يقوم بذلك. مهنته لم تعد تناسبه. فالأعمال تترقى برقي الجيب. كثيراً ما يستلقي ناظراً صوب الشمس المختبئة خلف ورق الشجر متأملاً في وجوه أقربائه. رؤوسهم كثيرة في الحافلة الضيقة متعرّقة، ومرقّعة كحبات البطيخ، يضحكون كالبلهاء، لايكفون عن الثرثرة وطرح الأسئلة. أما السائق فكان طيباً كريماً يسامحه معظم الأحيان بإجرة الطريق إلى المدينة. باع باقات الورد في محل أكاليل الزهور، عدّ الأوراق النقدية ودسّها في جيبه. المحلات كثيرة. خرج من المطعم يزفر من بطنه رائحة شطائر اللحم الساخنة التي يأكلها للمرة الثانية في حياته، بعد الرزق الذي انهال عليه. دخل محلاً آخر، وخرج مزيلاً عن وجهه ذقنه المعثكلة. ركب في الحافلة مختاراً مكاناً قرب فتاة يظهر أنها في الثلاثين، في كل هزّة يرتطم بها متعمداً، ولمّا لم يلحظ عليها الاستياء، وضع يده بجرأة فوق يدها، نظرت إليه بقسوة واحتقار، فسحب يده بسرعة وتأسّف. نزلت برشاقة دون أن تردّ عليه، فلحق بها، سيحاول أن يكلّمها ويطلب منها الارتباط. سيبيع حماره وأرضه ويشتري دكاناً في المدينة، وسترضى به.. بل إنها ستطير فرحاً، فهو رجل بمعنى الكلمة. تقدّم بثقة حتى صار بمحاذاتها، ألقى التحية باسماً لها بارتباك، ولمّا لم تعره اهتماماً وقف قبالتها معتذراً مرة ثانية، عمّا صدر منه من سوء أدب، فصرخت به، (إرحل عني يا أبله). تسمّر في مكانه يرمقها بحزن، وهي تنعكف وتغيب في زقاق ضيقٍ. فرك عينيه بأصابعه. امتصت الدمعة دخان وغبار الجو، (قاسيات هنّ بنات المدينة). قال في نفسه متجهاً إلى (الكاراج). الدنيا مغموسة في ضباب، نظره يضعف يوماً بعد يوم، سيسأل عن طبيب عيون قبل أن يرى العتمة والعدم. وقف في مكانه يطبق جفنيه ويفتحهما مكرراً ذلك لتتوضح الصورة أمامه، أيمكن أن يكون ما يراه حقيقة؟! رفع رأسه بثقة، فتح أزرار قميصه الأخضر عن صدر أسمر محمّر، والآن صار في منتصف المسافة بينه وبينها، غمزها بعينه فردت بابتسامة، لاحقت نظراته هيئتها الجميلة، وهي تشير له بالاقتراب. الدم يخرج من قلبه ناضجاً، صاخباً كضجيج ماء الصهريج الماص لتربة الأرض، أخفض جذعه حتى صار رأسه بمحاذاة نعله، مسح غباره، ثم تابع خطواته نحوها، يرمق جسدها الطويل بشهوة، جسدٌ يظهر أكثر مما يخفي، كأنها تعرفه، ابتسامتها طويلة ومستمرة. صار على بعد خطوتين عندما ابتسم بمرارة، مازالت تبتسم كالبلهاء.. كالساحرة المتخفية في تمثال الجمال، تحسّس شعرها اللامع بأنامله، فتلوثت الأنامل بغبار الرصيف. انطفأت حرارته، تعرّق، مرت شموس الفصول الأربعة دفعة واحدة في داخله وهي نفسها، لكنّها تنقلب على نفسها تحمّر، تصفّر.. تغيب وترجع. لايدري كيف ذهب بفكره، وفي تلك اللحظة بالذات، بصور الشمس شمس تشرين، فالفتاة من ورقٍ مصقولٍ، دخل محل التصوير لما رأى نفسه قبالة المدخل، دس الوصل في جيبه (صورةً كبيرةً.. المبلغ مدفوع). في الليلة العاشرة من هذا الحدث، وبعد جهد جهيد من العمل. ألقى بجسده المنهوك فوق السرير ناظراً في صورته المحاطة بإطار فضي في صدر الغرفة. إنّه يبتسم بأمرٍ من المصوّر... (إرفع رأسك.. انظر إلى يدي.. لا، لا تنظر هكذا، ابتسم.. واحدْ، اثنانْ.. تْشَكْ)
تتراخى شجرةُ التوت الأحمر في زاويةٍ منَ الأرضِ البنيّة المقامة بعناية. ضجيجُ الماء المندفع من الصهريج جُعلَ نومتَهُ في الجوِّ الحار عميقةٌ.. بدأت المياه تفيضُ من الحفرةِ الطويلةِ، قَفِزِ دون إرادةٍ، أطفأ (الموتور) ثم أصلح الخطُ بالمجرفة.
تفحّص صفوف الورد بنظره الضعيف، تنهّد ملء صدره، غسل وجهه المنتفخ، مسح شعره المجعّد وأعاد قبعة القماش المغمسة بآثار التراب الأحمر. شدّ الحمار الرمادي إلى غرفته الحجرية، أغلق باب الخشب المشقّق وجلس على كرسيٍ صغيرٍ متأملاً وجه أمه، مازالتْ مذ تركها عند الصباح فوق الحصير، تصفُّ ورق نبات الدخّان بالمئزر المنتهي إلى خيطٍ ثخينٍ. هزّ رأسه بسرورٍ، ثم استأنف عمله بربط ما اشتغلته فوق
سقف خيمة القصب حتى تتيبس الوريقات
وتحترق بلهب الشمس.
تمدّد أخيراً بارتياح ناظراً إلى أعلى الخيمة:
-سأ.. سأتزوج قريباً، موسم الورد كثيرٌ في الحقل.. والدخّان أيضاً.
صرخت الأم العجوز وهي تقف بصعوبة تنفضُ عن فستانها غبار الورق:
-حمدو.. إلحقْ إلى الطاحون، واحضر لنا كيساً من الخبز.
الحمار ينظر من نافذة غرفته الصغيرة، يتطلع إلى صاحبه بعيون تعبة بعد وجبةٍ دسمةٍ من الشعير. شُدَّ ثانيةً من حجرته،.. وهذه المرة أرخى حميد ثقله عليه.
البيوت تمشي إلى الوراء، وفي كلِّ حجرةٍ من تلك البيوت تجلس فتاةٌ صبيةٌ. هذا بيت (سُليمى) صاحبة الوجه الخمري الداكن الذي يمقته، وذاك بيت (نائلة) جارتها التي تتحرك بصعوبة لقصر ساقيها، وهو إلى تلك اللحظة لا يقدر أن ينسى كيف تدحرجت على الطريق الترابي المنحدر. أما (فريزة) فلها رائحةٌ ثقيلةٌ مزعجةٌ برغم شعرها المجدول والعيون الخضراء الربيعية. استحضر صور جميع فتيات القرية محاولاً أن يرشَّ على كلِّ واحدةٍ لمسةٌ من السحر. جعل كل واحدة تبتسم بجاذبية، مرتدية الحرير والحلي، فلم يفلحْ، كلّهنّ لا يحركنّ به أي شعورٍ، ابتسم باستهزاء قائلاً في نفسه (وفوق هذا كلّه... لا يَرُدُّنَّ السلام).
قبل أن يصيح الديك الكبير ويوقظ الدجاجات، نهض حميد من فراشه الساخن، قضم رغيفاً مغمساً بزيت الزيتون مع فحل من البصل. وقبل أنْ تخرج الشمس من تحت الجبل العملاق كان بين شجر الورد، يقص السيقان بالمقص ويرتبها بنعومة فوق ساعده، ثم يربطها بشريطٍ، كلُّ مجموعةٍ على حدة. سعر الوردة ارتفع هذا العام حتى وصل إلى "الخمس ليرات"، وبدا ساهياً متى سيتوقف عن البيع للحظةٍ، لحظة تنام عروسه فوق حقل الورد، وتمشي فوقه كالنحلة، فكّر ببنات المدينة، نظافتهن.. مشيتهن.. كثرتهن..
غداً آخر نقلة امتلأ صندوقه بالنقود، سيبيع عدّة مسح الأحذية التي يستخدمها لتلميع الأحذية شتاءً، بيد أنه سينظف آخر حذاء، له قبل أن يقوم بذلك. مهنته لم تعد تناسبه. فالأعمال تترقى برقي الجيب.
كثيراً ما يستلقي ناظراً صوب الشمس المختبئة خلف ورق الشجر متأملاً في وجوه أقربائه. رؤوسهم كثيرة في الحافلة الضيقة متعرّقة، ومرقّعة كحبات البطيخ، يضحكون كالبلهاء، لايكفون عن الثرثرة وطرح الأسئلة. أما السائق فكان طيباً كريماً يسامحه معظم الأحيان بإجرة الطريق إلى المدينة.
باع باقات الورد في محل أكاليل الزهور، عدّ الأوراق النقدية ودسّها في جيبه. المحلات كثيرة. خرج من المطعم يزفر من بطنه رائحة شطائر اللحم الساخنة التي يأكلها للمرة الثانية في حياته، بعد الرزق الذي انهال عليه.
دخل محلاً آخر، وخرج مزيلاً عن وجهه ذقنه المعثكلة. ركب في الحافلة مختاراً مكاناً قرب فتاة يظهر أنها في الثلاثين، في كل هزّة يرتطم بها متعمداً، ولمّا لم يلحظ عليها الاستياء، وضع يده بجرأة فوق يدها، نظرت إليه بقسوة واحتقار، فسحب يده بسرعة وتأسّف. نزلت برشاقة دون أن تردّ عليه، فلحق بها، سيحاول أن يكلّمها ويطلب منها الارتباط. سيبيع حماره وأرضه ويشتري دكاناً في المدينة، وسترضى به.. بل إنها ستطير فرحاً، فهو رجل بمعنى الكلمة.
تقدّم بثقة حتى صار بمحاذاتها، ألقى التحية باسماً لها بارتباك، ولمّا لم تعره اهتماماً وقف قبالتها معتذراً مرة ثانية، عمّا صدر منه من سوء أدب، فصرخت به، (إرحل عني يا أبله). تسمّر في مكانه يرمقها بحزن، وهي تنعكف وتغيب في زقاق ضيقٍ. فرك عينيه بأصابعه. امتصت الدمعة دخان وغبار الجو، (قاسيات هنّ بنات المدينة). قال في نفسه متجهاً إلى (الكاراج).
الدنيا مغموسة في ضباب، نظره يضعف يوماً بعد يوم، سيسأل عن طبيب عيون قبل أن يرى العتمة والعدم. وقف في مكانه يطبق جفنيه ويفتحهما مكرراً ذلك لتتوضح الصورة أمامه، أيمكن أن يكون ما يراه حقيقة؟!
رفع رأسه بثقة، فتح أزرار قميصه الأخضر عن صدر أسمر محمّر، والآن صار في منتصف المسافة بينه وبينها، غمزها بعينه فردت بابتسامة، لاحقت نظراته هيئتها الجميلة، وهي تشير له بالاقتراب. الدم يخرج من قلبه ناضجاً، صاخباً كضجيج ماء الصهريج الماص لتربة الأرض، أخفض جذعه حتى صار رأسه بمحاذاة نعله، مسح غباره، ثم تابع خطواته نحوها، يرمق جسدها الطويل بشهوة، جسدٌ يظهر أكثر مما يخفي، كأنها تعرفه، ابتسامتها طويلة ومستمرة. صار على بعد خطوتين عندما ابتسم بمرارة، مازالت تبتسم كالبلهاء.. كالساحرة المتخفية في تمثال الجمال، تحسّس شعرها اللامع بأنامله، فتلوثت الأنامل بغبار الرصيف. انطفأت حرارته، تعرّق، مرت شموس الفصول الأربعة دفعة واحدة في داخله وهي نفسها، لكنّها تنقلب على نفسها تحمّر، تصفّر.. تغيب وترجع. لايدري كيف ذهب بفكره، وفي تلك اللحظة بالذات، بصور الشمس شمس تشرين، فالفتاة من ورقٍ مصقولٍ، دخل محل التصوير لما رأى نفسه قبالة المدخل، دس الوصل في جيبه (صورةً كبيرةً.. المبلغ مدفوع).
في الليلة العاشرة من هذا الحدث، وبعد جهد جهيد من العمل. ألقى بجسده المنهوك فوق السرير ناظراً في صورته المحاطة بإطار فضي في صدر الغرفة.
إنّه يبتسم بأمرٍ من المصوّر... (إرفع رأسك.. انظر إلى يدي.. لا، لا تنظر هكذا، ابتسم.. واحدْ، اثنانْ.. تْشَكْ)