الريح قوية تمرّ فوق الشارع العريض تصفع أوراق النخيل. حبّات البرد تطرق على البلور ولا أسمع سوى أنين موجع في بطني أثناء ليل مديد انقطع فيه التيار الكهربائي. تأوهت بصمت، تقيأت. وآخر ما وعيت عليه أصوات ركلات أقدام على السلم وصوت أمي العالي. كنت محمولة كطفلة في حضن أبي. -انتظر... المكان خطر، أدخل زوجتك فقط... سيارات الإسعاف تتحرك ويعلو زمورها أمام باب المشفى العريض وقف الكثيرون، وآخرون يركضون ببطء ماسكين بطونهم كلٌّ وحده. إلا أنا. فقد قوبلت بعناية خاصة ربما لصغر سني. أخذني الممرض ووضعني فوق نقالة وصرخ لأمي: اشربي حبة الدواء هذه، واتبعيني. شدّت على يد والدي وكأنها تودعه للمرة الأخيرة. لا أحب أن أموت الآن.. لن أدخل هذا المكان الموبوء. تمنيت أن أخرج من جسدي حين مررت بذاك القبر الكبير وأنا ألمح أمي وهي تركض وراءنا ناسية عمرها أمام حبها لي. الجثث في الممر مازال فيها بعض النفس. والمراحيض مشغولة يدخل مريض ليخرج آخر يمشون وخلفياتهم منحنية إلى الخلف. تدّب الحركة في ذاك المكان من المدينة لكنها حركة الموت وفي الخارج يسود صمت السيارات والباعة الذين ينعمون أو يبتلون في نوم عميق. كنت أرتجف كورقة معلقة في فرع شجرة حين قرأت كلمة مكتوبة باللون الأخضر فوق الغطاء الأبيض الذي يستر جسدي-كوليرا. خفت من أمي، ومن الطبيب، ومن يدي التي تنغرس فيها إبرة في الوريد أوردة زرقاء كديدان متوحشة. صرخت: -أنا بردانة.... ولست مصابة. لكنها القوانين الصحية، كلّ من يتقيأ مصيره هنا. أسلمت رأسي بيأس للوسادة كما الدجاجة حين تصير رقبتها بين كف البائع والسكين. لا جدوى من الرفض. أنا وجارتي على السرير الآخر أفرغنا ما عندنا من دموع، ثم ابتسمنا بسخرية وضحكنا حتى أسكتنا السعال. وتساءلت من منّا السباقة إلى الموت؟!. وأجبت ليس مجدياً أن يتسابق واحدنا للموت قبل الآخر، المهم أن ننشج في ناي الحياة حتى أخر لحن حزين. هي أيضاً تقيأت وصرخت في وجه زوجها وابنتها: -هذا الإسهال من زيادة السكر... أخرجوني. -لم يرد عليها أحد. وكأنها تصرخ في كابوس. لم يسمعها أحد غيري. -آخ... كفرت بكل شيء حتى تلوثت نفسي وتلوث دمي... لا أؤمن إلا برقعة أرض ستضمني حتى وأنا ملوثة. وقلت: -إلى متى سيتحمل هذا الوطن... لقد كثر فيك الملوثون والمعذبون! أجبرنا على شرب محلول ليس له طعم أو رائحة وبكميات كبيرة، وأنا أجبرت نفسي على الغرق في ذلك المحلول حتى صار يخرج من حلقي. لا أذكر كيف نجوت من باب الموت. بدأت الحياة من جديد كما كل النساء أزور جارتي، تزورني، نثرثر عن الأخريات ونقلب فناجين القهوة. ثم نتخلص من صخب الأولاد بإخراجهم إلى الشارع يلعبون، يشترون... يزفرون وفي ليل ذبلت فيه جفوني خرج صوت لم يكن صوت الريح لكنه صوت أسمعه يخرج من عظامي. أصوات ضحكات وصرخات نبيلة سنة كاملة مرت على فراقنا. شعرت بحقد مؤقت نحوها. وعدتني بأن نكون صديقتين، وكذبت. صداقة جمعها الموت وفرقتها هي حين لم تحاول أن تهتف لي ولو مرة. حكت لي حبّها الأول. وجعها وفرحها، زواجها وإنجابها ثم إفلاسها بصرفها النقود في عيادات الأطباء. زوجها كان يعلم تماماً بأنه حين يقذفها بسرير في قسم الأمراض السارية لن تنجو أبداً. يوم زرتها في بيتها كانت مازالت مريضة، منتفخة العينين والقدمين. جهزّت القهوة بنفسي، تصرفت بالبيت بحرية وكأنه بيتي. تفرّجت على الصور ولكل صورة حكاية مغزاها الموت. أشعلت المدفأة ثم جددت لها الماء في الكأس. لم تستمع لي حين سردت عليها حكايتي. بدأت تشخر وأنا أحادث الهواء الفاسد في الغرفة. غطيتها جيداً وقبل أن أغادر متعت نظري بالصورة المكبرة فوق سريرها. وجهان ملتصقان خد ناعم وخد آخر تغطيه لحية سوداء. لم يدعني صوتها بسلام في تلك الليلة. امرأة عزيزة غزت مخيلتي بالغصب. بحثت في ذاكرتي عن عنوانها. وفي سيارة الأجرة فكرت بابنتها الصغيرة هل دخلت المدرسة الابتدائية؟. ونبيلة ماشعورها حين ستجدني قبالتها بعد سنة. صعدت السلم إلى الطابق الثالث بخوف وقلق لم أعرف سببه صوتها يخرج من الجدران المقشرة من الرطوبة. صورتها مازالت في رأسي الساخن، امرأة بفستان أحمر وطفلة تشتبك بها في عامها الأول. امرأة واحدة وفساتين كثيرة لاصقت جسدها الفاتح. أجل مازلت أذكر ألبوم الصور أماكن كثيرة ثابتة يحركها الزمن. ضغطت الجرس بعصبية. وقفت قبالتي امرأة لم تكن هي... عيناها زرقاوان وابتسامتها مصطنعة. دخلت الصالون... أخذت ابنة نبيلة من يدها وضممتها. أين الـ ماما.. نائمة؟.... طوال عمرها بتحب النوم. صرخت المرأة في وجهي بينما خرج الزوج من الغرفة بعباءته. سلّم عليّ باحترام وأمر المرأة الشقراء بتحضير القهوة. غاب قليلاً وخرج بكتاب (فن الطبخ) غضبت منه. يرد هديتي؟ تصرف لا يليق برجل محترم مثله. لم تقرأه. وقبل أن أشرب نقطة ماء تبلل حلقي، فتحت الباب وقبل أن أغلقه ورائي صرخ بعصبية. -نبيلة أعطتك عمرها... أنت آخر من رأته قبل أن ترحل. لم أرد عليه بكلمة. نسيت أن أقول له كعادتنا حين يموت شخص
الريح قوية تمرّ فوق الشارع العريض تصفع أوراق النخيل. حبّات البرد تطرق على البلور ولا أسمع سوى أنين موجع في بطني أثناء ليل مديد انقطع فيه التيار الكهربائي. تأوهت بصمت، تقيأت.
وآخر ما وعيت عليه أصوات ركلات أقدام على السلم وصوت أمي العالي.
كنت محمولة كطفلة في حضن أبي.
-انتظر... المكان خطر، أدخل زوجتك فقط...
سيارات الإسعاف تتحرك ويعلو زمورها أمام باب المشفى العريض وقف الكثيرون، وآخرون يركضون ببطء ماسكين بطونهم كلٌّ وحده. إلا أنا.
فقد قوبلت بعناية خاصة ربما لصغر سني. أخذني الممرض ووضعني فوق نقالة وصرخ لأمي:
اشربي حبة الدواء هذه، واتبعيني.
شدّت على يد والدي وكأنها تودعه للمرة الأخيرة.
لا أحب أن أموت الآن.. لن أدخل هذا المكان الموبوء.
تمنيت أن أخرج من جسدي حين مررت بذاك القبر الكبير وأنا ألمح أمي وهي تركض وراءنا ناسية عمرها أمام حبها لي.
الجثث في الممر مازال فيها بعض النفس. والمراحيض مشغولة يدخل مريض ليخرج آخر يمشون وخلفياتهم منحنية إلى الخلف.
تدّب الحركة في ذاك المكان من المدينة لكنها حركة الموت وفي الخارج يسود صمت السيارات والباعة الذين ينعمون أو يبتلون في نوم عميق.
كنت أرتجف كورقة معلقة في فرع شجرة حين قرأت كلمة مكتوبة باللون الأخضر فوق الغطاء الأبيض الذي يستر جسدي-كوليرا.
خفت من أمي، ومن الطبيب، ومن يدي التي تنغرس فيها إبرة في الوريد أوردة زرقاء كديدان متوحشة. صرخت:
-أنا بردانة.... ولست مصابة.
لكنها القوانين الصحية، كلّ من يتقيأ مصيره هنا. أسلمت رأسي بيأس للوسادة كما الدجاجة حين تصير رقبتها بين كف البائع والسكين. لا جدوى من الرفض. أنا وجارتي على السرير الآخر أفرغنا ما عندنا من دموع، ثم ابتسمنا بسخرية وضحكنا حتى أسكتنا السعال.
وتساءلت من منّا السباقة إلى الموت؟!.
وأجبت ليس مجدياً أن يتسابق واحدنا للموت قبل الآخر، المهم أن ننشج في ناي الحياة حتى أخر لحن حزين. هي أيضاً تقيأت وصرخت في وجه زوجها وابنتها:
-هذا الإسهال من زيادة السكر... أخرجوني.
-لم يرد عليها أحد. وكأنها تصرخ في كابوس. لم يسمعها أحد غيري.
-آخ... كفرت بكل شيء حتى تلوثت نفسي وتلوث دمي... لا أؤمن إلا برقعة أرض ستضمني حتى وأنا ملوثة.
وقلت:
-إلى متى سيتحمل هذا الوطن... لقد كثر فيك الملوثون والمعذبون!
أجبرنا على شرب محلول ليس له طعم أو رائحة وبكميات كبيرة، وأنا أجبرت نفسي على الغرق في ذلك المحلول حتى صار يخرج من حلقي.
لا أذكر كيف نجوت من باب الموت. بدأت الحياة من جديد كما كل النساء أزور جارتي، تزورني، نثرثر عن الأخريات ونقلب فناجين القهوة. ثم نتخلص من صخب الأولاد بإخراجهم إلى الشارع يلعبون، يشترون... يزفرون وفي ليل ذبلت فيه جفوني خرج صوت لم يكن صوت الريح لكنه صوت أسمعه يخرج من عظامي. أصوات ضحكات وصرخات نبيلة سنة كاملة مرت على فراقنا. شعرت بحقد مؤقت نحوها. وعدتني بأن نكون صديقتين، وكذبت. صداقة جمعها الموت وفرقتها هي حين لم تحاول أن تهتف لي ولو مرة. حكت لي حبّها الأول. وجعها وفرحها، زواجها وإنجابها ثم إفلاسها بصرفها النقود في عيادات الأطباء. زوجها كان يعلم تماماً بأنه حين يقذفها بسرير في قسم الأمراض السارية لن تنجو أبداً.
يوم زرتها في بيتها كانت مازالت مريضة، منتفخة العينين والقدمين.
جهزّت القهوة بنفسي، تصرفت بالبيت بحرية وكأنه بيتي. تفرّجت على الصور ولكل صورة حكاية مغزاها الموت. أشعلت المدفأة ثم جددت لها الماء في الكأس.
لم تستمع لي حين سردت عليها حكايتي. بدأت تشخر وأنا أحادث الهواء الفاسد في الغرفة. غطيتها جيداً وقبل أن أغادر متعت نظري بالصورة المكبرة فوق سريرها. وجهان ملتصقان خد ناعم وخد آخر تغطيه لحية سوداء.
لم يدعني صوتها بسلام في تلك الليلة. امرأة عزيزة غزت مخيلتي بالغصب.
بحثت في ذاكرتي عن عنوانها. وفي سيارة الأجرة فكرت بابنتها الصغيرة هل دخلت المدرسة الابتدائية؟. ونبيلة ماشعورها حين ستجدني قبالتها بعد سنة. صعدت السلم إلى الطابق الثالث بخوف وقلق لم أعرف سببه صوتها يخرج من الجدران المقشرة من الرطوبة.
صورتها مازالت في رأسي الساخن، امرأة بفستان أحمر وطفلة تشتبك بها في عامها الأول.
امرأة واحدة وفساتين كثيرة لاصقت جسدها الفاتح.
أجل مازلت أذكر ألبوم الصور أماكن كثيرة ثابتة يحركها الزمن.
ضغطت الجرس بعصبية. وقفت قبالتي امرأة لم تكن هي... عيناها زرقاوان وابتسامتها مصطنعة. دخلت الصالون... أخذت ابنة نبيلة من يدها وضممتها.
أين الـ ماما.. نائمة؟.... طوال عمرها بتحب النوم.
صرخت المرأة في وجهي بينما خرج الزوج من الغرفة بعباءته. سلّم عليّ باحترام وأمر المرأة الشقراء بتحضير القهوة.
غاب قليلاً وخرج بكتاب (فن الطبخ) غضبت منه. يرد هديتي؟ تصرف لا يليق برجل محترم مثله.
لم تقرأه.
وقبل أن أشرب نقطة ماء تبلل حلقي، فتحت الباب وقبل أن أغلقه ورائي صرخ بعصبية.
-نبيلة أعطتك عمرها... أنت آخر من رأته قبل أن ترحل.
لم أرد عليه بكلمة. نسيت أن أقول له كعادتنا حين يموت شخص