و.. يا أبي..
ذاب قلبي؛ وأنا ألتقط صورتك في الحارة.
وجه طفولي مذعور، شفتان رقيقتان، تتمتمان.. تستعطفان في بأس:
-لا تذهبي.. لا تذهبي!
..........
لماذا نشأتَ يتيماً، لاسند لك ولاظهر.. لِمَ استسلمتَ لحزنك ولم تفعل شيئاً.. فتحتَ عينيك، والدنيا تناصبك العداء، تتنكّر لك. تشدّ بخناقها على عنقك الغضّ، وتنصب لك الأشراك، أكرهتك على أن تتجرّع كثيراً من الكؤوس المرّة وأنت مذهول صامت، لا تفعل شيئاً.. وماذا بمقدورك أن تفعل؟!
في الدار الصّغيرة، بعد أذان العشاء، بدا لك الضّوء المرتعش ينبعث من شبّاك "العلّية" وأمّك -هناك- تدندن مغنيّة.. وهي تطرد فراشات الليل التي تحوم حول المصباح.. بدت أمّك، أبعد من نجم. وأنت لا تستطيع الوصول إليها..
صعدت درجات العلّية، لاح ثوبها الأزرق كشراع، حاولت أن تتشبّث به، لكنّها ردّتك بحزم، وهمست:
-هذا ليس وقتك!
تهبط بسرعة، وأنت مقرور، عيناك دامعتان، وقلبك يرتجف. دجاجة خائفة تلوذ بأسفل الدّرج، تتجمّع على حزنك، وخيبتك المبكّرة. تقوقئ بأسى، تصلّ عظامك الهشّة رهبة.. و.. أنيناً..
باب العلّية يوصد دونك. والرجل الذي أخذ مكان أبيك لا ملامح له، غير عينين فهديتين مسمّرتين عليك. وشاربين أسودين دقيقين..
ماذا تريد؟
لا عودة لك إلى حضن أمّك.. وتراب قبر أبيك لم يجفّ.. وأنت عاجز عن الارتقاء. كفّاك النحيلتان تشدّان على الدرابزين، الحمّى تجتاح أطرافك المبدّدة، وحلمك المستحيل ينوس. بين اليقظة والمنام، وأنت تبحث عن صدر دافئ حنون..
ازداد إجهاشك، وارتفع أنينك..
المرّ ما يزال في فمك، ثمّة خطيئة كبرى تجثم على صدرك، تثير في نفسك الهلع، ها أنتذا تتخلّى عن كلّ شيء، أو أنّ كلّ شيء، يتخلّى عنك.. تبدو لك السماء عالية شاهقة، تفصلها عنك مسافة بعيدة، غاية في البعد، تبدو لك السماء خرساء لا مبالية، لا أنت طفل ولا هي بالصديق.. لا أنت طفل ولا هي بالعدّو، إنها بعيدة..
النجوم ترقب خطوك، والأماسي تجمّد قلبك. تنشد سكينة النفس، ولا سكينة لك في هذه الدار إلاّ أن ترى.. و.. تصمت..
أختك "وهيبة" ذات الجسد الغضّ. سنونوة هزّها البرد في ليلة شتائية ماطرة، ساقاها الهزيلتان تقصّفان تحتها كسيقان الأرجوزات، تحتمي بك، وتحتمي بها، كلاكما فوق كرسيّ بلا ظهر!
لماذا لم تتعلمّ في المدارس الحكومية، وهذه مدرسة "التطبيقات" على مرمى حجر من الدار!..
ابن البارد. قال كلمته..
طالبوك أن تخلع القنباز. تستبدل بنطالاً به، هتفْتَ:
-يا للهول.. "فلّق زمّ"!
أمّك أصدرت حكمها:
-من أين؟ لا مدرسة بعد اليوم، السوق مدرستك، السوق ينتظرك!
غدوت أجيراً في سوق الكندرجية..
تركض في الصّباح، وتركض في المساء..
تركض في الظهيرة، وتركض عند العصر..
زوج أمّك بعينيه الفهديتين لا يغفل لحظة، يريد أن يظلّ بعيداً عن الدار.. ليستأثّر بمن فيها، وأنت لم تحفظ سوى بيت من الشعر، حفظته وداومت على الترنمّ به كأنه تميمة..
إنّ من أشقاه ربّي
كيف أنتم تسعدونه؟
وأنت لم تكن كنزيل الحارة الجديدة، ابن الهبيان، صاحب الدكاكين في الساحة، والأملاك والأموال التي لا تأكلها النيران!
حياتك أن تظلّ في السوق، وأن تركض في السوق، وأن تحرث البحر.. لست من ذوي الحسب والنسب وأصحاب المقامات الرفيعة، تأتأتك المحبّبة تفضح ولا تفصح، كيف لك أن تفتح فمك، وتجرؤ أن تحتجّ. وعلى مَنْ تحتجّ... هكذا خلقك الله، وهكذا أراد!!
كلّ شيء سيطويه النسيان، الأفراح والأتراح في العمر المديد، الجراح التي نالت منك، الحبّ الذي كان يسلب العقل ويشعل الروح لم يعد هناك ما يُذكر.. ستار كثيف من الضباب يحجب كلّ شيء. وأنت تلوب. كمَنْ فقد عزيزاً، ما الذي ورثته أخيراً، وهذه الصّنعة لماذا علقت بها؟!
دكّانُك أصغر دكّان في السوق الطويل..
بعد دخلة جامع الشيخ إبراهيم، حين تجتاز دكّان الزّين، ودكّان الشوّاف، تستقبلك الأحذية والبواتين، لا واجهة لها ولا باب. سوى درفتين من خشب تطويان إلى اليمين بسهولة.
يكفي أن تفكّ القفل بالمفتاح الكبير فإذا أنت أمام الدكان الصّغير طاولة مخلّعة (التسكة) تتوسّط المكان، تحتها (التيغار) دلو ماء بلون الطين، لا تستغني عنه. تدفع بين الحين والحين قطع النّعل فيه حتى تلين، ويسهل عليك خرزها مع الجلد، مهنة شاقة تحتاج إلى كفّين خشنتين، بعقد وأصابع متينة ورّمها شدّ الخيطان المشمّعة. وموالاة الدقّ على النّعل القاسي، وسحب المخرز بمهارة بين الغرزة والغرزة..
فضاء دكّانك مشغول بمنمنمات لا حصر لها.. الجدران التي تقشّر كلسها، غدت لوحة فنّية أّخادة. طلاء قديم أخضر تُرك هناك في الزاوية. وسيور جلدية تدلّت من رفوف غير منتظمة في صدر الدكان. لا تدري من أين جاءت، ولا كيف وصلت.. ثم القوالب الخشبية اصطفّت في ضلعين متقابلين، جنوداً مستعدين جاهزين، يلبّون الدعوة حين مجيء أيّ زبون.. ومَنْ يجيء إلى الدكان من زُبُن.. غير فلاّحي المنطقة! حذاؤك المتين طبقت شهرته النواحي والدساكر والقرى النائية، حذاؤك الذي يصمد للحرّ والقرّ.. للطرقات الوعرة والطرقات السالكة بصعوبة. الطرقات الجبلية. والطرقات الصّخرية.. للدروب الصاعدة والدّروب النازلة للأرض المستوية، والأرض المنحدرة..
حذاء لكلّ الدروب، حذاء لكلّ الفصول، والفلاّحون يأنسون إليك، يحبّون استفساراتك عن الزرع والضّرع، والأجواء والأنواء والمواسم وتعاقب الأيام، يستندون إلى التسكة يمدّون أعينهم إلى الرفوف الحانية. والأحذية المصلوبة ببراءة وحنان، ها هنا مبتغاهم، يهمهمون بكلمات قصيرة، مبتورة:
-العصر.
-نعود.. قبل المغرب..
الحذاء الذي يخرج من بين يديك له امتيازه، والزُبن القادمون من أبعد نقطة في المنطقة ينتظرون بلهفة.
منذ الصباح الباكر، ينتظرون، قبل أن تُفتح الدكّان.. سلّة صغيرة مغطّاة بورق التين تستند هناك، قرطل عنب يتكّئ أمام الباب، خمس وعشرون بيضة بلدية في منديل أزرق، علبة لبن فوق (الدّربند)، مقدّمات لتوصيتك، وأقدام مفلطحة ضخمة تبرز. قلم الكوبيا ينتقل من فوق أذنك إلى أصابعك، تبلّ طرفه بريقك، تخربش فوق كيس من ورق أرقاماً وخطوطاً لا يعرفها غيرك.. يطير القالب الخشبيّ من صدر الدكّان، مخترقاً الصفوف، يطير إلى كفّيك، تقلّبه وأنت تروز بعينيك الأصابع المتورّمة، غير المنتظمة، تنطق قرارك الخطير:
-هذا مقاس قدمك!
تلتمع عينا الزبون بفرح طاغٍ، صار القالب مجسّماً لقدميه، وسيكتسي بالحذاء الموعود، قطعة (السختيان) - الجلد تُفرد، يُسحب النّعل، الزبون راضٍ يدفع مقدّمة الأتعاب، عربوناً، تقبّل كفّك ظهراً وبطناً ترفعها إلى جبينك، ويتهدّج صوتك:
-الحمد للّه.. الشكر للّه..
النهار بدأ، والرزق الحلال يترقرق منذ الساعات الأولى، الدكّان تضجّ سعادة، تترنّح أشياؤها الصغيرة نشوى، الشغل يفرح القلب، وزُبنك لا ينقطعون. أحذيتك تسافر من السوق إلى صوران، إلى كفر زيتا، إلى خان شيخون إلى المعرّة، وسراقب، إلى الرستن و.. حمص.. تهتف بوجد:
-جاءني زبون من قلعة الحصن!
الأحذية تركض في سهل الغاب. تصعد التّلال والنجود. تجتاز المغاوز والحدود.. تتسلّق الجبال، تمرّ بالمغاور والمسالك الصعبة، تهبط الأودية، تدقّ الأرض، أحذية مشغولة بعرق الكدح الشريف. وهذا كلّ شيء، أنت لا تبصر سوى الأحذية. لا تمدّ عينيك إلاّ إلى الأقدام والمشّايات والبوابيج والقباقيب. لا ترفع ناظريك عنها.. ولا تحاول أن تنظر إلى فوق.
ولماذا تفعل ذلك!! لماذا؟!
وأنت لم تكن كابن الكوكو!
عندما تمشي في السوق، لا تنفخ صدرك. ولا تتمّهل في خطوك، لا تضع على كتفك شالاً من الكشمير.. ولا تميل طربوشك جهة اليمين، تسرع إلى دكانك لا تلوي على شيء، لا قطعان من الغنم لك تسرح في بادية اللّه، ولا أصواف، ولا بسط، ولا سجّاد.. ولا خيام.. والنّاس لا يردّون التّحية بأحسن منها، ولا يظلّون واقفين إكراماً لك حتى تقطع الطريق، لا شيء يهمّك على الإطلاق، سوى أن تصل إلى دكّانك، وتطيّر أحذيتك!
وأنتَ لم تكن لك دار!! دار لك لا يشاركك فيها أحد.. وهذه عمّتي التي أثقل قلبها الحزن. وبناتها يحتللن نصف الدّار. وربّما يفكّرن في احتلال نصفها الآخر. وطردنا منها.. عمّتي ساخطة دائماً. زامّة شفتيها في مرارة، كبرت قبل أوانها مرتدية ثياب الأرملة التي فقدت زوجها وهي صغيرة.. عصبت رأسها بمنديل أسود، تقلّب كفّيها.. لماذا جئنا إلى هذه الدنيا! ماذا جنيت.. حتى يعاقبنا الله الرحيم!
وأمّي ما ذنبها.. حتى تُبتلى بهؤلاء جميعاً. تريد أن تتفرّغ للبيت والأولاد، ولكنّ الشجار لا ينقطع، وعمّتي لا تنام، ولا يهدأ لها بال إلاّ أن ترى عينيّ أمّي تدمعان!
طاش صوابك يا أبي..
صرت تحدّث نفسك.. تتكلّم. وتحرّك أصابعك، في الدكّان. في الطريق. في السوق، في الحارة، ومن رفسسة بغل نجوتَ.. بخطوات سريعة خفيفة حملتك أجنحة الملائكة بعيداً عن هياج البغل الحرون، وأمّي تهدل بين يديك:
وأنت لم تفكر في يوم من الأيام بشراء شيء لنا..
لم تفكّر بشراء قطعة أرض كما فعل الصّمودي!
اشترى قطعة أرض كبيرة في المغيلة. صارت تساوي ذهباً.. أبو ريحان، الدّلاّل، وقف في رأس السوق، راح ينادي حتى بُحّت حنجرته:
-على كتف الشريعة.
في طلعت المحطة
في المغيلة.. في البياض، غربي السكّة، شرقيّ السّكة من يشتري بفرنك.. بنصف فرنك!!
شدّدْت أحذيتك.. أحكّمْت شدّها في القوالب، وردّدت ساخراً:
-كلّها لا تُسكن، لا ماء يصل إليها!
لم تكن تصغي إلاّ لوقع أحذيتك، وأطيطها الأرضي.. لم تكن تسمع إلاّ ضربات قلبك المطمئنّ الوادع.
مرةً واحدة..
مرة واحدة فقط..
في رحلة أيامك المجروحة.. أنار الله هذا القلب. وهداك.. فاضت جوانحك حباً وحناناً وسعادة.. عواطفك الجيّاشة فاقت طاقتها، لا بدّ أن يقاسمك العالمَ فرحتك، احتدمت في نفسك رغبة أن تخرج من السوق.. من الدكّان، من الدار من الحارة، أن تخرج إلى الدنيا، لتبلغ الكلمة الطيبة للناس والحجارة وأهل الحارة والسوق.. والدكّان..
الحمد لله.. الشكر لله..
لقد نجحْتَ..
ومَضَتْ نجومُ لياليك المعتمة نصالَ سيوفٍ فوق رأسك الحليق. ذات ليلة صيفية فريدة، سجّل لك الله في صفحة الخلد أن تكون إلى جانب هذه المرأة التي هي أمي.. وأن تكون هي إلى جانبك!..
أحلامك طارت، صرت سحابة تسوقُها ريح رَخاء، صرت عصفوراً تحلّق بجناحين قويين، صرت في السماء السابعة مرة واحدة، أناشيد مبهمة ردّدتها الحارة، وعلى عتبة الدار تماوجت أغنية ساحرة مع إطلالة أولى "كرتونة" من الشام، فيها أصناف من الجوارب النسائية وأصناف.. بحة ناي تدفّقت في الأركان، ودكانك الصغيرة رفعت تراتيلها وهي تشهد سقوط الأحذية، والقوالب. والنّعل والسختيان. ورحيل التّسكة المخلّصة والتيغار، والدّربند، لقد انقلبت إلى دكّان لبيع الجوارب النسائية والألبسة الداخلية، والقلب فتح بوابته لكلّ الأفراح التي أطلّت.. كل الأفراح التي هلّت بعد انتظار طويل..
ذلك ما اختارته أمّي، وقد أحنيت رأسك المعاند هذه المرّة وأصغيت..
رائحة الليمون، رائحة الياسمين، والعراتلية، وتنكات الفلّ، والورد الجوري ملأت فضاء القاعة الجوانية، صرت رجل البيت، رجل الدكّان، والعصافير تناسلت، في سقوف الدار، واليمام أطلق هديله الشجيّ آمناً، وأمّي تخطر هنا وهناك، تزيح ما يثقل الروح، راضية مبتسمة، وأنت تردّد باطمئنان رحبّ:
-كلّ شيء بارادته سبحانه وتعالى:
انظر إلى كفيّ.. افتح عينيك، هل كلّ أصابعيي متماثلة.. أصابع صغيرة، وأصابع كبيرة، الدنيا هكذا.. أناس و.. أناس.. أسماك في أعماق البحر.. الكبير هناك.. والصغير هنا.
ليغفر الله لنا.. ولك.. كأنّما تنداح نشوة غامرة أستشعرها. تهزّ كياني، ترجّ عواطفي.. لقد مضيت.. حسمت أمرك ومضيت.. والطريق ما يزال أكثر وعورة.. أكثر مشقّة.. والدّرب الذي سلكته.. ليس دربك.. سامحني.. يا أبي..