حكاية فؤاد تبدو اللوحة غير مكتملة في مشهد الحارة الصّغيرة، تبدو ناقصة إذا لم تدقّق النّظر في ذاك الواقف عند أول الزقاق المسدود، عيناك تتفرّسان، عيناك تمعنان في القامة المديدة. والمنكبين العريضين، والوجه الحليق النّاعم، ربّما تهتزّان قليلاً أمام زرقة العينين الهادئتين، ربّما تتأمّلان في دهشة وانبهار، لا يستطيع أحد أن يعرف الحكاية الماضية، لا يستطيع واحد أن يرويها كما تستحقّ أن تُروى هناك روايات مختلطة، روايات متباينة، هناك من يزيد على الحكاية أو ينقص منها، والرجل الطويل العريض، يذرع بقامته الضخمة الحارة صباح مساء، ماثل أمام الجميع، صار جزءاً من اللوحة العامرة، صار ركناً من المشهد الحيّ. والواقع النّابض، أهذا هو فؤاد دعدوش؟! أهذا هو الرجل الذي انطلق من الحارة يحمل مزمار القصب، بين أصابعه، متوجّهاً إلى الشام، إلى دار الإذاعة السورية هناك، في أيام نشأتها الأولى، أهذا هو الذي خرج بحنجرته الذهبية وصوته الساحر، يريد أن يُسمع الدنيا ترديده وألحانه، يريد أن ينشر أنغام مزماره، وترجيع أغانيه العذاب.. الدار المحشورة في نهاية الزقاق المسدود شهدت حكاية فؤاد المغنيّ، وقد ضاقت جدرانها بالصّوت الملائكي، واهتزّت أركانها بنقرات العود والغناء الشجيّ. أخوه أبو سليم، مصلّح الدرّاجات بارك سفره وشجّعه.. الحارة كلّها ترنّحت نشوى تحت طبقات صوته الآسر، الحارة كلّها أيّدته ودفعتْ به إلى أن ينطلق محلّقاً، إلى الشام، إلى الإذاعة الناشئة لتردّد هناك صدى ألحانه المتدفّقة شلالاً من حبّ وأصالة وعذوبة وشفافية.. صار للحارة فنانها الأصيل، صار لها مغنّيها المبدع، صار لها فؤاد إبراهيم" الذي سيصدح عبر الأثير بأنغامه الشجية، صار لها صوتها المميّز الذي سيبثّ أحلى الأغاني، ومن كل مذياع تناهي إلينا: -هنا دمشق.. تستمعون سيداتي وسادتي الآن إلى أغنية جديدة لفؤاد إبراهيم.. أية سعادة مفاجئة هبطت على الحارة.. أيّة ألحان مسكرة انهمرت عليها، أزهار الياسمين طارت في فضائها الشفيف، لم يكن هناك أروع من هذا.. لم يكن هناك أبدع من أنغام فؤاد، وترجيع ألحانه، صارت ضفائر لأزهار الربيع، صارت عصافير تطير، والحارة بتوقها وأمانيها تنهض لاستقبالها.. وصباياها تاهت بين نقرة العود، وترديد المزمار ثمّ.. هل تكتمل الحكاية؟.. لا بد من أن تنتهي فهل كانت الحارة تنتظر مثل هذه النهاية؟.. استيقظت -في ذلك الصباح- وقد أحزنها أن تستيقظ.. الزقاق المسدود رفع راية الهزيمة والانكسار، والدار المحشورة في نهايته ردّدت لحناً جنائزياً مؤثّراً.. لقد عاد فتاها الطامح الفنّان. عاد مغامرها الذي اقتحم عالم الشهرة والأضواء، عاد محطّماً مهزوزاً مهزوماً، مجـ.. نـ..و...نـ..اً التاث عقله، ولم يعد يعرف أحداً، كسر عوده وقطع أوتاره، وداس بنزق مزماره ومزّق نوتاته.. رجع فؤاد دعدوش رجلاً آخر. لفّه صمت وغموض، روحه لم تعد معنا.. وجهه الحليق الناعم يشي بابتسامة هازئة، ساخرة، مضيّعة، عيناه العميقتان بزرقة شفيفة يرسلهما في المطلق، كان لا ينظر إلى شيء، لأنه لم يكن يهتمّ بشيء، صرنا أمامه مجرّد أطياف لا وزن لها ولا شأن. وأخوةٍ أبو سليم البسكليتاتي" يحاول أن يأخذ بيده ليعيده إلى عالمنا، لكنه كان يرفض باستمرار. صباح مساء يذرع الحارة بخطواته المديدة، صباح مساء يطوف من أول الزقاق المسدود إلى نهاية الحارة إلى طرف السوق. ثم يؤوب وقد لفّه ضباب أزرق، وجهه ينطق بالمرارة، ينطق بالحزن، مثل جان فالجان، بطل هيجو، وفمه أحياناً يلتوي بابتسامة هازئة ساخرة، وهو صامت، يتحدّى بصمته الحارة، والناس والسوق والعالم، والصمت البليغ لا يفصح عن أصل الحكاية، ورواياتنا مختلطة، فصولها متباينة، لكنّ همساً يتردّد في الضّلوع، فؤاد عاشق، والعاشق حسّاس، ألحانه انهمرت على حسَان الشام، التقى واحدة منهن، فضاع.. ترك قلبه هناك، ترك ألحانه وأغاريده، ترك روحه، و.. عاد.. لم يبق منه إلاّ قامة مديدة، ومنكبان عريضان، ووجه حليق ناعم، وعينان زرقاوان، تحدّقان في الفراغ، والحكاية ما زالت مشوّشة غامضة، مبهمة، تنتظر من بعيد ترتيب فصولها!!
حكاية فؤاد
تبدو اللوحة غير مكتملة في مشهد الحارة الصّغيرة، تبدو ناقصة إذا لم تدقّق النّظر في ذاك الواقف عند أول الزقاق المسدود، عيناك تتفرّسان، عيناك تمعنان في القامة المديدة. والمنكبين العريضين، والوجه الحليق النّاعم، ربّما تهتزّان قليلاً أمام زرقة العينين الهادئتين، ربّما تتأمّلان في دهشة وانبهار، لا يستطيع أحد أن يعرف الحكاية الماضية، لا يستطيع واحد أن يرويها كما تستحقّ أن تُروى هناك روايات مختلطة، روايات متباينة، هناك من يزيد على الحكاية أو ينقص منها، والرجل الطويل العريض، يذرع بقامته الضخمة الحارة صباح مساء، ماثل أمام الجميع، صار جزءاً من اللوحة العامرة، صار ركناً من المشهد الحيّ. والواقع النّابض، أهذا هو فؤاد دعدوش؟!
أهذا هو الرجل الذي انطلق من الحارة يحمل مزمار القصب، بين أصابعه، متوجّهاً إلى الشام، إلى دار الإذاعة السورية هناك، في أيام نشأتها الأولى، أهذا هو الذي خرج بحنجرته الذهبية وصوته الساحر، يريد أن يُسمع الدنيا ترديده وألحانه، يريد أن ينشر أنغام مزماره، وترجيع أغانيه العذاب..
الدار المحشورة في نهاية الزقاق المسدود شهدت حكاية فؤاد المغنيّ، وقد ضاقت جدرانها بالصّوت الملائكي، واهتزّت أركانها بنقرات العود والغناء الشجيّ. أخوه أبو سليم، مصلّح الدرّاجات بارك سفره وشجّعه..
الحارة كلّها ترنّحت نشوى تحت طبقات صوته الآسر، الحارة كلّها أيّدته ودفعتْ به إلى أن ينطلق محلّقاً، إلى الشام، إلى الإذاعة الناشئة لتردّد هناك صدى ألحانه المتدفّقة شلالاً من حبّ وأصالة وعذوبة وشفافية..
صار للحارة فنانها الأصيل، صار لها مغنّيها المبدع، صار لها فؤاد إبراهيم" الذي سيصدح عبر الأثير بأنغامه الشجية، صار لها صوتها المميّز الذي سيبثّ أحلى الأغاني، ومن كل مذياع تناهي إلينا:
-هنا دمشق..
تستمعون سيداتي وسادتي الآن إلى أغنية جديدة لفؤاد إبراهيم.. أية سعادة مفاجئة هبطت على الحارة.. أيّة ألحان مسكرة انهمرت عليها، أزهار الياسمين طارت في فضائها الشفيف، لم يكن هناك أروع من هذا.. لم يكن هناك أبدع من أنغام فؤاد، وترجيع ألحانه، صارت ضفائر لأزهار الربيع، صارت عصافير تطير، والحارة بتوقها وأمانيها تنهض لاستقبالها.. وصباياها تاهت بين نقرة العود، وترديد المزمار ثمّ.. هل تكتمل الحكاية؟.. لا بد من أن تنتهي فهل كانت الحارة تنتظر مثل هذه النهاية؟..
استيقظت -في ذلك الصباح- وقد أحزنها أن تستيقظ.. الزقاق المسدود رفع راية الهزيمة والانكسار، والدار المحشورة في نهايته ردّدت لحناً جنائزياً مؤثّراً.. لقد عاد فتاها الطامح الفنّان.
عاد مغامرها الذي اقتحم عالم الشهرة والأضواء، عاد محطّماً مهزوزاً مهزوماً، مجـ.. نـ..و...نـ..اً التاث عقله، ولم يعد يعرف أحداً، كسر عوده وقطع أوتاره، وداس بنزق مزماره ومزّق نوتاته.. رجع فؤاد دعدوش رجلاً آخر. لفّه صمت وغموض، روحه لم تعد معنا.. وجهه الحليق الناعم يشي بابتسامة هازئة، ساخرة، مضيّعة، عيناه العميقتان بزرقة شفيفة يرسلهما في المطلق، كان لا ينظر إلى شيء، لأنه لم يكن يهتمّ بشيء، صرنا أمامه مجرّد أطياف لا وزن لها ولا شأن. وأخوةٍ أبو سليم البسكليتاتي" يحاول أن يأخذ بيده ليعيده إلى عالمنا، لكنه كان يرفض باستمرار. صباح مساء يذرع الحارة بخطواته المديدة، صباح مساء يطوف من أول الزقاق المسدود إلى نهاية الحارة إلى طرف السوق. ثم يؤوب وقد لفّه ضباب أزرق، وجهه ينطق بالمرارة، ينطق بالحزن، مثل جان فالجان، بطل هيجو، وفمه أحياناً يلتوي بابتسامة هازئة ساخرة، وهو صامت، يتحدّى بصمته الحارة، والناس والسوق والعالم، والصمت البليغ لا يفصح عن أصل الحكاية، ورواياتنا مختلطة، فصولها متباينة، لكنّ همساً يتردّد في الضّلوع، فؤاد عاشق، والعاشق حسّاس، ألحانه انهمرت على حسَان الشام، التقى واحدة منهن، فضاع.. ترك قلبه هناك، ترك ألحانه وأغاريده، ترك روحه، و.. عاد..
لم يبق منه إلاّ قامة مديدة، ومنكبان عريضان، ووجه حليق ناعم، وعينان زرقاوان، تحدّقان في الفراغ، والحكاية ما زالت مشوّشة غامضة، مبهمة، تنتظر من بعيد ترتيب فصولها!!