ألا ما أمتع الصّيف.. وأشدّ فتنته، وأبعثه على الراحة.. والاسترخاء..
حدّث أبو أحمد نفسه..
في الصّيف يزدهر العمل، تكثر حركة البناء..
سيارات الرمل تتقيّأ حمولتها أمام مداخل العمارات..
النباتات والأبراج والطوابق ترتفع.. وترتفع..
أصحابها يريدون أن ترتفع و.. ترتفع..
أبو أحمد ينقل الرمل إلى الطوابق..
القلب يفتح بوابة للحلم، والنفس تتوق إلى أن يمضي النهار حثيثاً، .. نهاية النهار، نهاية الصعود والنزول، نهاية الألم الذي يهاجم كتفه الأيمن.. عرقه يتلألأ في ضوء المغيب.. يتقاطر مع الخطوات اللاهتة، في الحرارة القائظة، في غمرة السكون، وقد بدا كلّ شيء غارقاً في الكسل، كلّ ما حوله وسنان، وهو ما يزال يعانق ذرات الرمل، يضمّها إلى صدره ضمّاً قوّياً، لا تسمع منه نأمة، ولا صوتاً..
تنبسط أساريره آخر النهار.. يقبض أجره، ويمضي.. يرفل بثيابه العتيقة، مزهراً بعرقه وغباره..
في الطريق إلى الدار سيشتري بطيخة، يبلّ بها ريقه، مع أولاده وزوجته، خبز وجبن وبطيخ. ستقطع أم أحمد البطّيخة، وتمتد الأيدي.. وأبو أحمد يبشّ وجهه.. وهو يرنو إليهم.. سوف يقول أحمد:
-أبي.. خذنا إلى البحر
-البحر!
ضحك أبو أحمد.. ضحك حتى دمعت عيناه..
البحر.. البحر، نذهب إليه، سنذهب..
قالت أم أحمد:
-الأولاد لا يعرفون البحر.. أنا نفسي لم أشاهده إلا مرة واحدة. حين كنت في العاشرة!
أبو أحمد أيضاً لم ير البحر، منذ عشرين سنة أراد أن يشتغل في طرابلس، عتّالاً في الميناء. ذهب إلى هناك مع العمال، ثم رجع إلى بلده بعد ثلاثة أيام، حَنّ إلى داره. وهذا كلّ ما يتذكره عن البحر..
-بابا.. يوم واحد فقط.. نذهب بالقطار!
هزّ أبو أحمد رأسه، وسكت..
شعر بوخزة في كتفه، هذا الألم لا يتركه.. هل يقول:
-البحر ليس لنا.. البحر لا يحبنا..
ولكنْ.. لا.. لماذا يقول هذا.. هنالك سيارة رمل. سيرفعها إلى الطابق الخامس، سينام باكراً من أجل الغد..
.. الشاطئ هناك بدأ يزدحم بالناس الوافدين..
أولاد يهرولون.. وأبو أحمد يهرول معهم.. والأولاد وراءه. أم أحمد.. أيضاً..
ما أجمل البحر.. فضاء بلا حدود، وأشرعة مسافرة.. وزرقة شفيفة حانية.. وأمواج تسافر وتعود..
ظهرت وجوه لسماسرة وبائعين ومؤجرّين..
هذا غير مهمّ..
استقبله واحد منهم..
ابتسم له وهو يعطيه مفتاح "شاليه".. يطلّ على البحر مباشرة.. الشاطئ رمليّ هنا.. والرمل يعانق الأمواج الناعمة.. على نحو أخّاذ رائحة سمك مشوي نفذت إلى أنفه.. الله.. الله، سمك مشوي وبحر، وماء مثلج، وأولاد كالملائكة وجوههم كالأقمار، وأم أحمد حورية تخرج من البحر، نسي أبو أحمد كلّ شيء.. نسي دفعة واحدة، أجرة البيت، صخب المارة والجيران والمياه المقطوعة، هو الآن يطير، يفرد ذراعيه فوق المدى ويطير. الجوّ اللطيف، البحر الهادئ، الشاليه الحالم، الشرفة الباذخة. وهو يطير، جيبه منتفخ بالأوراق النقدية، وأم أحمد عروس البحر تمسك يده. ولكنْ.. غير معقول.. هذا النعيم كلّه، وأنتِ دامعة العينين.. تبكين.. تهتف أم أحمد، ابنك الصغير ضاع على الشاطئ. لا.. لا .. البحر غدّار، الشاطئ غدّار، شعر أنّه لم يعد يطير. صار يغوص في رمل الشاطئ، باحثاً عن ولد بطول السلامية، صار يغوص والرمل ثقيل.. ثقيل، يكاد يكتم أنفاسه..
فتح عينيه.. مصراع النافذة المخلوع يتحرّك فوق رأسه، وهو ما يزال في فراشه. الشمس بدأت تتسلّق الحائط الأسود، الأولاد يغطّون في النوم، وأم أحمد تتثاءب وهي توقظه:
-طلع النهار.. يا رجل..
ظلّ يحملق في السقف.. عبثاً حاول أن يتذكّر.. نهض إلى ثيابه المكوّمة، كان يرتديها في شرود.. لم يعرف كيف دفع الباب. اختطف التنكة المركونة وراءه، وأسرع غير عابئ بشيء...