منذ عودته من الحرب وهو لا يفكر إلاّ بحلمه... لايحدثني بشيء سوى عن حلمه.. حلم السفر إلى أفريقيا. حلم بدا لي مثل باقي الأحلام غير أني وبمرور الأيام اكتشفت خطأي. كانت أفريقيا أكبر من حلم وأعمق من وجود. هكذا كنت منصاعة إلى حديثه اليومي وخططه مستمعة مرة ومشاركة أخرى، وشيئاً فشيئاً وجدتني لا أحلم إلاّ بأفريقيا: بأسودها ونمورها وفيلتها وقرودها و..و. سألته مرة: ماذا نفعل إذا ما هاجمنا حيوان مفترس؟ قال: نسحره. -كيف؟ -أتذكرين تلك الحكاية؟ ها.. أتتذكرين؟ لم يكن تبدو عليه السخرية وهو يسألني. كان جاداً مما شجعني على مواصلة الحديث بهذه الروحية. قلت له: أية حكاية! أتعني حكاية الموسيقى التائه بأدغال أفريقيا مع الوحوش. إذا كنت تؤمن حقاً بهذه القصة فذلك صعب. في مثل عمرنا نحتاج إلى أعوام طويلة لتعلم الموسيقى. قبل أن يعلق على كلامي، تقدم إلى طاولتنا رجل وقور في نهايات خمسينياته، أناقته واضحة ولكن بلا إفراط، شاحب الوجه، كنت قد لاحظت ومنذ زمن ليس بقصير تردده على المكان وجلوسه إلى طاولة قريبة منا. اعتذر الرجل بتهذيب مبالغ فيه لمقاطعتنا الحديث. وبصوت خافت مؤثر قال: أرجو المعذرة. لقد استمعت إلى حديثكما بمحض المصادفة. أعذراني لم أستطع منع نفسي من ذلك. تحدث واقفاً حتى دعاه زوجي بإشارة منه للجلوس. جلس وهو ينظر إلينا في العينين تماماً وفي وقت واحد. أربكتني نظراته فأمسك زوجي بكفي ضاغطاً بلطف. استمر الرجل بحديثه. "يمكنكما تحقيق أحلامكما بالسفر إلى أفريقيا.. الموسيقى أو أي حلم تشاءان بسهولة". لم نسأله كيف؟ بل استمررنا بالصمت. تلعثم قليلاً قبل أن يواصل "منذ زمن وأنا أتردد على هذا المكان غير أني أشعر وكأني أعرفكما منذ زمن طويل.. شيء ما كان يشدني إليكما ويجعلني أحضر يومياً من أجل رؤيتكما. ربما كان هذا الفيض الهائل من الحميمية الذي يربطكما. نعم، لهذا السبب بالذات. في بداية الأمر، اعتقدت أن علاقة من هذا النوع لابد أن تثير انتباه رجل عجوز مثلي، غير أني وبمرور الأيام اكتشفت أن الأمر أكبر من هذا.. صدقاني. أما ماهو (الأكبر) فهذا مالا أعرفه لكني أستطيع القول أنه جعلني أثق بكما وأحلم في أن أعيش لحظة مما تعيشان". كان ينقل نظراته بيننا وهو يتحدث، كأنه يحاول قراءة أثر كلماته فينا. همس "أعتقد أنني أخبرتكما كم اثق بكما لذا سأحدثكما عن مشروع بحث أعمل فيه يمكن أن يحقق منفعة للإنسانية فيما إذا قدمتما المساعدة". سألنا معاً: كيف؟ برقت عيناه وهو يتحدث بسرعة "مازال بحثي في مراحله الأولى ويحتاج إلى تطبيقات عملية تعززه. إنه يدور حول إمكانية تطوير وسائل الاتصال بين البشر". سأل زوجي: ماذا تقصد؟ بفرح بدأ الرجل يرسم دوائر وهمية وسهاماً وإشارات على الطاولة دون أن يرفع غطاء القلم، شارحاً وسائل الاتصال المعروفة بين البشر. تحدث طويلاً عن تلك الوسائل وعن التجارب التي أجريت حولها وعن أشياء لا أتذكرها، بل لم أسمعها. فلقد ابتعد صوته بمرور الوقت إلى الدرجة التي لم نعد نستمع إلى شيء سوى طبول أفريقيا وأصوات حيواناتها. تبادلنا الابتسامة عندما استمعنا إلى صراخ قرد صغير سقطت على رأسه ثمرة جوز الهند. فتوقف الرجل عن الحديث عندما انتبه إلى ابتسامتنا التي أوشكت أن تتحول إلى قهقهة. فقال بصوت حازم "باختصار أن بحثي يخرج باهتمامه عن وسائل الاتصال تلك ويهتم بتطويرها عبر العزلة والألم والتأمل. لذا اخترتكما لمساعدتي، لأني ومن خلال دراستي لكما عن كثب، وجدت أن صلة أحدكما بالآخر أكبر من اللغة والحواس وغيرها. أعترف أنني كنت أرصدكما بدافع الباحث وهذا ما جعلني أكتشف فيكما سمات فريدة تميزكما عن غيركما. وهي سمات ساعدتني في أن أعيد النظر في الكثير من آرائي ونتائجي النظرية". كنا منشغلان بعبث أقدامنا تحت الطاولة ومطاردة شبل لنا. لم نجب فاستمر الرجل بالحديث "لن يأخذ الأمر أكثر من أسبوع تمكثان فيه معي في المختبر والضمانات التي تطلبانها ثم يذهب كل واحد منّا إلى حاله: أنا إلى بحثي وأنتما إلى أحلامكما. ستساعدكما الجهة الممولة للبحث على السفر إلى أي مكان وفي أي شيء ترغبان فيه". نظرت إلى وجه زوجي فشعرت بالاطمئنان كان الشبل قد عاد إلى أمه دون أن يمسنا بسوء. سرنا مع الرجل بصمت ولكن بشعور خفي يجمع بين الفرح والخوف.. شعور يحمل طعم المغامرة. همس زوجي بنبرة مطمئنة وهو يمسك بيدي "لاتخشي شيئاً، لايمكن أن يكون الأمر أكثر خطورة من أسودك ونمورك وفيلتك". ونحن نأخذ أماكننا في المقعد الخلفي لسيارة فخمة، مظللة النوافذ، قلت لزوجي "بإمكان الفيل أن (يهرس) بأقدامه سيارة مثل هذه بسهولة". أكمل زوجي وهو يكتم ضحكة" لكنه لن يفعل هذا إذا مالهونا معه". سارت السيارة المسرعة بطرق لم نتبينها ومن دون أن يخفض السائق الصارم القسمات من سرعة السيارة -التي لم يدهسها الفيل- فتحت بوابة واسعة ذاتياً فوجدنا أنفسنا في ممرات تصطف على جانبيها الأشجار الضخمة. ومن دون مقدمات توقفت السيارة فجأة عند إحدى الممرات. قادنا الرجل إلى مكتب صغير، أنيق، إلى طاولته وهو يتنفس بإنشراح واضح ثم فتح درجاً مقفلاً أخرج منه أوراقاً سلمها إلينا وهو يقول "أعرف أنكما لاتكترثان بأمور مثل هذه. إنه عقد ربما وجدتماه أمراً شكلياً لكنه ضروري لضمان حقوقكما. ادرساه جيداً قبل توقيعه وبإمكاننا مناقشة كل بند من بنوده وإجراء التعديل الذي تجدانه ضرورياً. أكرر، عليكما قراءة العقد بدقة وإمعان وأنا موافق مسبقاً على كل ماتقترحان". جدية الرجل وثقته بنا وحرصه علينا أثارت خجلنا، فطافت أنظارنا على السطور بسرعة ونحن نوقع العقد، ثم غادرنا المكتب نحو الممر الواسع الطويل فوصلنا إلى باحة واسعة جداً، تمتد على مدى البصر، محاطة بأشجار كثيفة، عالية. في وسط الباحة استقر شكلان زجاجيان دائرتان، كل واحد منهما معلق بكلاليب ضخمة مرتبطة بجسور تستند إلى أربعة أعمدة مشيدة على شكل سلالم. ومن منحنى في زاوية أحد السلالم لكل دائرة زجاجية تعلق شكل زجاجي صغير مغلف بستائر داخلية. كان الشكلان الزجاجيان الدائريان جميلين من الخارج، تبينت عبر زجاجهما النظيف، بوضوح، كل محتوياتهما: كرسياً زجاجياً وسريراً شفافاً. سألت الرجل: أية غرفة سندخل؟ هل سنكون في إحداهما وتكون أنت في الأخرى؟ قال بحزم: كلا. سأواصل تجاربي عبر شاشات مختبري وسيكون كل واحد منكما في غرفة. قرأ الرجل معالم الاحتجاج في وجهي، فقال بابتسامة مطمئنة "ينبغي أن يكون كل واحد منكما في غرفة. إنها إحدى مرتكزات التجربة! لقد شرحت لكما ذلك على ما أعتقد، وإلا كيف يمكننا القيام بالتجربة وأنتما في مكان واحد، بل كيف بمقدورنا دراسة وسائل الاتصال التي حدثتكما عنها إذا كنتما، أساساً، على اتصال بوجودكما معاً؟". أحرجتني نبرة الرجل المتفهمة وهو يشرح لي ضرورة المكوث في مكانين منفصلين. همس زوجي: لاعليك. لن يطول الأمر ولن تشعري بالوحدة. سأكون قربك طوال الوقت كما كنت وأنا بعيد عنك سنوات طويلة في الحرب. التفت زوجي وسأل الرجل: ليس أكثر من أسبوع كما وعدتنا؟ قال الرجل: نعم، لكن الأمر يعتمد على مدى استجابتكما أو عدمها. قد يكون يوماً أو ربما أسبوعاً أوشهراً أو سنة. من يعرف! بالمناسبة سيكون بإمكانكما رؤية أحدكما الآخر بين حين وآخر. ولكن في الوقت الذي تحدده التجربة. أضاف بسرعة "قبل أن يدخلكما الحارسان إلى غرفتيكما أود...". صرخنا معاً: حراس!! تراجع الرجل منكمشاً وهو يقول عفواً، أقصد من سيقومان على خدمتكما. قبل أن يرشداكما إلى غرفتيكما عليكما رؤية أشخاص سيشاركون في التجربة. سألنا بصوت واحد: كيف؟ -هذا ليس من شأنكما. ولكن يمكن أن تعرفا أنهم سيكونون خارج غرفتيكما، يرونكما بوضوح ولاتستطيعان رؤيتهم. سيكون ذلك خلال الليل والنهار وبنظام ساعتي عمل لكل واحد منهم". قادنا الحارسان والبروفيسور -هكذا ناداه الحارسان- إلى قاعة زجاجية مستديرة، خلف أشجار الباحة الواسعة. قال البروفيسور: انظرا إليهم جيداً. لاتخجلي سيدتي فإنهم لا يستطيعون رؤيتك الآن. بعد قليل ستتبادلون الأدوار. نظرت. كان أحدهم بوجه مشوه خلته ينظر إليّ بوقاحة وآخر كان ضئيلاً بنظرات مخمورة متعبة. أغمضت عيني مرددة هذا لايحتمل. ممسكة بقوة بيد زوجي. سمعت البروفيسور يقول بصوت حيادي "انظرا إليهما جيداً حتى لاتشعرا بالندم، لعدم معرفة من يراقبكما" وحتى لا أشعر بالندم فتحت عيني، فاصطدمت عيناي بنظرات لزجة لرجل وسيم. صرخت: هذا يكفي. قال البروفيسور بنبرة انتصار: يبدو لنا أننا سننجز التجربة في وقت قياسي. أجاب زوجي بصوت تهدج غضباً: لن تكون هناك تجربة. سنغادر المكان حالاً واختر غيرنا لتجربة مثل هذه. ابتسم الرجل بسخرية: يبدو أنك لم تقرأ العقد جيداً. هناك فقرة تقول "إذا تراجع أحد الأطراف عن أداء التجربة فعليه تحمل تبعة ترك الآخر". التصقت بزوجي بخوف فضغط بيده على كفي بقوة مؤلمة. وهو يقرأ العقد بإمعان، تساءل: لقد قرأت هذا! ترى ماهي تبعات تركنا تجربة لم ندخلها بعد؟ هل تسببنا بأضرار مادية أو معنوية للطرف الآخر مثلاً!؟. -ليس لنا بل أحدكما للآخر. -لكننا طرف واحد. ضحك البروفيسور بقوة وهو يقول "كان عليكما قراءة العقد جيداً. الآخر أنت أو هي وليس نحن. هل تريد أن أشرح لك أكثر. إذاً استمع إليّ جيداً: إذا كنت ترفض الدخول في التجربة فاتركها واخرج أو دعها تتركك وتخرج. وأنا أستمع إلى كلمات الرجل، تجنبت النظر إلى عيني زوجي. كنت أشعر بغضبه وإحساسه بالعجز عن فعل أي شيء. كنت أعرف أن إحساسه بالعجز يمكن أن يدمره إذا ما اصطدمت نظراتي به. فغادرت المكان مسرعة من دون نظرة أو كلمة.. وحيدة حملت حزني وغضبي وعجزي متبعة الحارس وهو يقودني إلى غرفتي عبر جسر زجاجي صغير يربط بين الغرفة والسلم. كان الباب الزجاجي يفتح بأكرة من الخارج. أخبرني الحارس بهذه المعلومة وكأنه يجنبني مشقة محاولة فتح الباب. كانت الغرفة الزجاجية مطلية كلياً بماء المرايا الفضي. صورتي تباغتني إينما التفت. اقتربت من إحدى الصور تأملت وجهي مثلما أفعل كلما مررت بمرآة. نظرت إلى عيني.. أخافني الرعب المرسوم فيهما... رعب اختنق خلف رعب أكبر عندما تذكرت أن هناك من يراقبني الآن.. يراني ولا أراه. ترى أي واحد منهم يراقبني الآن؟ تراجعت إلى الكرسي المطلي بماء المرايا مسرعة وجلست لم أستطع الاستقرار في جلستي. حاولت الانشغال عن نظراتهم بالنظر إلى أي شيء. كانت الغرفة عارية من الأثاث! التفت إلى الأمام.. إلى الخلف.. إلى الجانبين.. ترى في أي مكان يجلسون؟ أمامي أم خلفي.. أم إلى الجانبين!! ضحكت بمرارة وأنا أكتشف أن السقف وأرضية الغرفة شفافة من الخارج. مطلية بلون الزئبق. إذاً لايمكنني حتى دفن وجهي في أرضية الغرفة أو التحديق بالسقف.. ستكون نظراتهم هناك أيضاً. هل يمكن أن يتسلقوا سطح الغرفة؟ أم أن البروفيسور وضع أجهزة للمراقبة بدلاً منهم على سطح الغرفة. أتذكر أني رأيت، وأنا تحت، سلالم صغيرة بمحاذاة المساند والكلاليب. أين أهرب! تركت مكاني مرعوبة. تحسست كل بقعة من الجدران المرئية علّني أعثر على منفذ!! لكني لم.. ترى أين السرير الذي شاهدته وأنا تحت؟ أكان خدعة بصرية أم تعمدوا إخفاءه؟ أتمنى لو كان حقيقة لدفنت وجهي فيه.. آخ، هل يبعد هذا نظراتهم. ربما ستلسعني نظرات ذلك الشاب الوسيم الشهوانية اللزجة وتدفعني نحو الجنون. الجنون!! ينبغي التمسك بالهدوء حتى ننتهي من كل هذا. يا إلهي وهو ماذا عنه! أعرف أنه يعاني مثلي تماماً.. لا إنه يعاني أكثر. أشعر به وهو يتحمل سياط إحساسه بالعجز وسياط نظراتهم.. هو الذي تربكه حتى نظرات الود، كيف سيقاوم نظرات أولئك. كيف يتحمل إحساسه بعدم قدرته على مساعدتي. صوت حاد عكر صفاء وجوده المنعكس في بحيرة الزئبق التي أمامي وهو يصرخ "لقد مضى ربع ساعة على وجودكما في المكان".. ربع ساعة فقط! كل هذا الزمن الطويل من نظراتهم وعذابنا في ربع ساعة فقط!! صرخت بصوت عال: إنكم وحوش.. وحوش. توجهت إلى الجدران الزجاجية. حاولت كسرها وأنا أردد لستم بشراً. لستم.. أنتم وحوش. قرعت الباب صارخة: افتحوا الباب.. يكفي هذا. أجابني الصوت بانتصار "بإمكانك الخروج. نحن لانحتجزك ولكن تذكري العقد. اخرجي واتركيه هنا". أتذكر أن تلك الحادثة كانت آخر مرة أستمع فيها إلى صوتي. بينما انزلقت أصابعي على الزجاج الأملس الصقيل بهدوء دمعة منسية. آه، لو أستطيع البكاء مثلهم.. مثل الأسود والنمور والفيلة والقرود، مثل حيوانات الغابة وهي تستمع إلى معزوفة الموسيقي التائه في أدغال أفريقيا. لكن الأمر يختلف هنا. نعم.. يختلف. فلم تكن تلك المخلوقات بوحشية هؤلاء، كما أنني لا أملك معزوفتي. كيف أبكي وصوت يردد كل ربع ساعة مذكراً إياي بالزمن البارد كالزجاج الذي يحيط بي.. والشعور بالعزلة الذي تبثه نظراتهم المحدقة بي دائماً. لقد تعبت. ألا يتعبون؟ ترى أيهم يراقبني الآن بعد مضي أربع ساعات؟ هذا يعني أن شخصاً ثالثاً مختلفاً يراقبني الآن، إذا ما صدق البروفيسور في قوله ذاك. أتراه صاحب الوجه المجدور بنظراته الثعلبية أم صاحب النظرة الصفراء من يراقبني الآن؟ يا إلهي، كيف وقعت في فخهم ونظرت إلى تلك الوجوه وأنا أستمع إلى نصيحة البروفيسور؟ يالسذاجتنا، كيف وثقنا به!! لو لم أفعل لربما اختلف الأمر. لكان عذابي قائماً على المخيلة فقط. نعم، ربما كان بمقدوري تخيل وجوه بنظرات إنسانية: نظرات حب أو مواساة.. نظرة ألم أو حيرة.. حزن. كم أتمنى أن يكونوا أكثر رأفة معه! إن كانوا كذلك، كيف يعرف أن من يراقبه عطوفاً أو رؤوفاً؟ شعرت بالتعب فجلست على أرضية الغرفة واضعة رأسي على مقعد الكرسي. هنا سأدفن وجهي بعيداً عن نظراتهم. نظراتهم!! رددت باستسلام، من هنا يمكنهم رؤيتي أيضاً. أخبرني الصوت بانقضاء ست ساعات. بعدها بثوان فتح الباب. دخل الحارس يحمل صينية طعام زجاجية مطلية بماء الزئبق قال "تناولي طعامك بسرعة حتى ترافقيني إلى الغرفة الصغيرة حيث بإمكانك الاغتسال أو الاستحمام". لم أمس الطعام. كنت مستعدة للخروج معه بحماس. ربما سأكون في مأمن منهم ولو دقائق. سرت خلف الحارس إلى زاوية السلم متجنبة النظر إلى الحشود المتجمعة في الأسفل. فتح الحارس الباب وردد العبارة ذاتها "الباب يفتح من الخارج فقط". دخلت الغرفة الزجاجية الصغيرة. كانت تشبه في تصميمها غرفتي، غير أنها مغلفة بالستائر من الداخل. أزحت جزءاً من الستار، فاصطدمت بوجهي منعكساً في جدرانها- ترى هل تناول طعامه أم أنه مثلي في الحمام الآن؟ ماذا يفعل الآن ربما ينظر إلى وجهه في المرآة مكتشفاً أن شعر ذقنه نما بسرعة عجيبة: يغمض عينيه مطبقاً على صورتي وأنا أدغدغ وجهي بذقنه. أغمضت عيني استنشقت عطره الممتزج برائحة معجون الحلاقة ورائحة المكوى في ياقة قميصه. سمعته يقول لي "أنت متعبة، حاولي النوم. سأعود سريعاً و.." لم يكمل فلقد صرخ الحارس في الخارج "أمامك خمس دقائق بعدها أفتح الباب" وأنا أغسل وجهي، اصطدمت بصورة في المرآة.. هل كانت لي؟ تحسست مسامات وجهي الشاحب. توقفت أناملي على جبيني. كنت أشعر بصداع. أحسست بضغط إبهامه عند ملتقى الحاجبين وهو يقول برقة" هل خف الصداع؟". أومأت برأسي "نعم، وأنا أفضل الآن". رأيت ابتسامته في المرآة: ابتسامة ارتياح بادلته إياها بضحكة خافتة خبت وأنا أرى وجه الحارس يشتت معالم وجهينا في المرآة. قال الحارس "انتهى الوقت. هل أنت جاهزة للخروج" وسبقني إلى الباب. تحسست مكان وجهه في المرآة. قبلت ابتسامته ثم استدرت متبعة الحارس. كم بدت المسافة طويلة بين الحمام والغرفة. مسافة محتشدة بالوجوه المحدقة بي. حاولت تجنب النظر إليهم. لم أستطع. كان الطريق مصمماً بطريقة لابد أن تصطدم فيها نظراتي بهم والسير مغمضة العينين معناه التعثر والسقوط عن الجسر الزجاجي الضيق. في البداية لم أرى سوى رؤوس سرعان ما شخصت بأنظارها إلى الأعلى. تعثرت.. أوشكت أن أسقط. أسندني الحارس في الوقت المناسب. في تلك اللحظة، أحسست أن يد الحارس كانت أكثر رقة من تلك اليد التي اصطدمت بي وهي ترشدني إلى غرفتي قبل ست ساعات وعشر دقائق. دخلت الغرفة فوجدت بدل الكرسي سريراً زجاجياً مطلياً بالزئبق. قال الحارس "يمكنك الاستلقاء خمساً وأربعين دقيقة. تفحصت الفراش بيدي، كان ملمسه فارهاً. من نسيج غريب ورقائق لدنة زئبقية الطلاء. ضحكت بسخرية. ماذا يمكن أن أتوقع. لابد أن الفراش شفاف هو الآخر. وإن لم يكن كذلك، هل بإمكانه حمايتي من نظراتهم.. هل كنت سأدفن وجهي فيه تاركة جسدي نهباً لنظراتهم وخيالاتهم. لم أستلق على السرير وجلست منتظرة صوت الرجل/ الساعة غير أني لم أستمع إليه بعد مرور أكثر من ربع ساعة وفق تقديراتي. هاهم يدخلوني في دوامة جديدة من العذاب: نظراتهم والزمن الذي بت أجهله تماماً. الزمن! الموسيقى التائه استطاع أن يخضع وحوش الغابة لمعزوفته، كيف فكرت أننا بلا معزوفة!! يا إلهي، هل ابتلعت الطعم هكذا وبسهولة.. هل تحول زمن وجوده اللانهائي في داخلي إلى محض انتظار تحدده إشارة الساعة/الحارس!! بكيت بحرقة. شعرت بدموعي وهي تثقل رموشي. غطيت وجهي بكفي. لم أكن أريد لنظراتهم أن تنال من دموعي.. أن تتجسس على روحي وهي تحاكمني. سمعت صوت الساعة/ الحارس وهو يقول "ارفعا كفيكما عن وجهيكما. إنكما بهذا تؤخران من سير التجربة. هل تنويان البقاء هنا طويلاً؟ أرجوكما ساعدانا كي تساعدا نفسيكما. ارفعا! أنه يخاطبنا معاً. إنه يبكي أيضاً. لماذا يبكي؟ يالحماقتي وأنا أتساءل. إنها ليست حماقة بل سعادة. لابد أنه سعيد وهو يستمع إلى تنبيه الحارس. إنه يدرك الآن مثلي أن زمن وجودنا معاً معزوفة لانهائية وأن انتظارنا الساعة لم يكن إلاّ وسيلة عابرة للهروب من نظراتهم. قال الحارس/ الساعة "لقد مضت تسع ساعات. أمامكما ساعتان من العمل قبل أن تخلدا للنوم". النوم!! هذا يعني أن الظلام قد أصبح حالكاً في الخارج. عندما التقينا الرجل في المقهى، كان الوقت ضحى. نعم، كان ذلك قبل الظهر وكان قد مضى شهر منذ تمتعنا بإجازتنا السنوية. تبقى منها شهران حتى نعود من أفريقيا. أفريقيا!! أثار هذا الاسم ابتسامتي. قد يتخيل الذي يراقبني أنني أبتسم له. هل سيصدق أنني أبتسم من أجل شيء لايمت بصلة إلى عالمهم هذا. ربما سيسخر مني عندما يعرف أنني أفكر بأقريقيا... بالأسود والفيلة والنمور والقردة والزرافات وبالموسيقي الضائع في غابة يكسب تعاطف أصحابها بمعزوفة على الكمان. "كان يامكان، في سالف العصر والزمان. كان هناك موسيقي شاب طيب القلب، يحب الناس والموسيقى لكن أهالي بلدته لم يكونوا ليعرفوا معنى الموسيقى.. معنى الحب. فهجر المدينة متوجهاً إلى البعيد، غير أن الأقدار قادته إلى غابة تعج بالوجوش والحيوانات المفترسة. وفي عمق الغابة تعطلت عربته فوجد نفسه وحيداً وضالاً في غابة لايعرف عنها أي شيء. أحاطت به الوحوش ولم يكن يمتلك من سلاح غير قلبه المحب وكمانه فأخذ يعزف مقطوعة موسيقية قص من خلالها حزنه وقلبه المحب.. معزوفة أبكت الجميع: الأسد والفيل والنمر والزرافة والشحرور.. معزوفة أبكت كل حيوانات الغابة. بكت الحيوانات وبكى كمان الموسيقي التائه مثلما لم يبك من قبل. وفي موكب مهيب، قادته جميع الحيوانات إلى خارج الغابة ملوحة له وهي تقول له بلغتها الخاصة: عد إلينا متى رغبت أيها الصديق. متى شاهدت هذا الفيلم! عندما كنت في الخامسة أو السادسة من عمري؟ أم اليوم صباحاً!! هذا ليس بالأمر المهم غير أن إحساسي بهذه القصة الآن هو ذات الإحساس الخفي الذي شعرت به وأنا في الخامسة أو السادسة. ربما هذا هو سر دموعي المنهمرة الآن. إنني أسمعها الآن. نعم، ترددها الجدران. لست واهمة. تركت مكاني ووضعت أذني على الجدران علني ألتقط مصدر الصوت.. ولكن لاشيء. رفعت رأسي. اصطدمت أنظاري بصورتي في سقف الغرفة. خيل إليّ أن الصوت آت من هناك فقط. التفت إلى صورتي في الجدران. استمعت إلى المعزوفة في بريق دموعي. آه، إنها هنا!! وضعت يدي على قلبي بحرص. سمعت صوت الحارس/الساعة يقول "هل أنتما بحاجة إلى طبيب.. هل تشعران بوعكة ما أو تعب في الصدر؟!". لم أجب. بعد زمن ليس بالطويل، فتح الحارس الباب ودخل رجل هرم قال لي "استلقي من فضلك كي أفحصك". وضع سماعته على صدري. قاس نبضي وسجل شيئاً ما في دفتره مردداً "لاشيء.. لاشيء. القلب طبيعي.. مثله تماماً. لماذا أرعبني البروفيسور في هذا الوقت المتأخر؟". قال هذا بتذمر تاركاً المكان بعصبية ارتسمت في ارتعاشة يديه وهو يحمل أوراقه وسماعته. سمعته يقول للحارس: يكفي هذا. دعها تنام الآن. تمتم الحارس متذمراً هو الآخر، وهو يقول بصوت حرص على أن يكون خافتاً "إنها الأوامر". كم عددهم؟ البروفيسور والحارسان والطبيب وأكثر من عشرة وجوه وهناك أجهزة المراقبة والناس الذين يجلسون خلفها والطباخ والبستاني والمنظف ومساعده و.. و... لايمكن أن يكونوا أقل من مائة شخص!! ضحكت بقوة وأنا أضيف للقائمة: نحن والموسيقي التائه وأفريقيا بحيواناتها. ردد صوت الحارس/الساعة بقسوة "يبدو أن أعصابكما متعبة، بإمكانكما النوم الآن" أخيراً سيكون بمقدوري النوم والهروب إليه من نظراتهم. ردد الصوت "بالمناسبة، العمل مستمر حتى أثناء نومكما". أثارت أعصابي هذه العبارة. شعرت أنها سرقت أمنيتي في الهروب إليه منهم. كيف أنام ونظراتهم مسلطة نحوي. تجتاح جسدي، تسقط على وجهي.. عنقي.. صدري. لم يحضروا لي حتى شرشفاً أغطي به جسدي. يالحماقتي!! هل يمنع الشرشف نظراتهم من التسلل إلى جسدي!! أبكاني هذا الاستنتاج. بكيت من ألم نظراتهم.. لشعوري أن جسدي مباح لهم.. لنظراتهم اللزجة وربما الحيوانية. بكيت حتى غفوت. أتذكر أن نظراتهم بدأت تطاردني أثناء نومي.. استقرت حيناً على صدري فصحوت مرعوبة مغطية صدري بكفيّ.. مضى زمن طويل قبل أن أغفو مرة أخرى وعندما شعرت بثقل النوم أحسست بنظرة تستقر على ساقي. جفلت وجلست في السرير حتى غفوت مرة أخرى وأنا جالسة. الحارس/الساعة "ناما جيداً. أمامكما يوم عمل طويل". استلقيت على السرير متعبة. لقد طمأنني الحارس عليه بدون قصد. لابد أن أنام. يكفي أن أبدأ التفكير به حتى أنام. لابد أنه مستلق على جانبه الآن. ماداً ساعده الأيمن لكي أضع رأسي عليه، مدركاً أنني أتأمل قسمات وجهه بين حين وآخر وهي تصبح أكثر رقة وطفولية. وعندما أغفو يتأمل وجهي. أصحو على ابتسامة نظراته. أبادله الابتسامة وأعود إلى النوم. غفوت من دون أن أدرك المكان الذي أنا فيه: نظرت إليه وهو ينام إلى جانبي.. إلى وجهه الممسك ببقايا ابتسامة. ربما مازال يحلم. قلت له صباح الخير. أشرقت ابتسامته من جديد وهو يردد كنت أحلم بك.. كنت أحلم بك. قبل أن أسأله عن حلمه سمعت الحارس/الساعة يقول "حان موعد النهوض". أشعر بالغضب والامتعاض وأنا أتذكر أننا في زمن ومكان آخر، والوجوه التي لابد أنها تراقبنا الآن.. وجه البروفيسور. دخل الحارس حاملاً الفطور، مردداً "بعد أن تنتهي، سأصحبك إلى الحمام". أوشك على ترك الفطور والخروج مع الحارس. أتردد بين البقاء والذهاب. يتردد الحارس أيضاً. أعود لتناول فطوري بلا رغبة وأنا أسمعه يقول لي: "ينبغي أن يكون الجسد قوياً كي تواصل الروح قوتها". أرافق الحارس إلى الحمام اكتشف أن مرآة الحمام قد رفعت اغتسل. أزيح جزءاً من الستارة. أتذكر الوجوه المحدقة بي من الأسفل. أعيد الستارة بسرعة.. أتحسس ملمسها الناعم. آه، إنها من الساتان الذي يحبه. ساتان أبيض تجولت أصابعي فيه. تنعشني نعومة الملمس. أدفن وجهي فيه. أشعر بطعم أنفاس حبيبي في ليالي الصيف تغسل وجهي.. تمتص حرارة عيني بعد صداع طويل. أشعر بالارتياح. يفتح الحارس الباب منتظراً إياي. أتبعه إلى الغرفة. تغلق الباب خلفي. أسير بخطوات بطيئة إلى الكرسي الذي ظهر بدلاً من السرير. أجلس مستسلمة بغضب لنظراتهم. لقد عدنا من جديد!! أجلس محاصرة بنظراتهم. أغمض عيني. أحاول تجاوز أسوار حصارهم بالهروب إليه. يباغتني سؤال يقول: هل نعود كما كنا؟ يرعبني السؤال. أهرب منه إلى رعب نظراتهم. يا إلهي متى ينتهي كل هذا. أردد هذا وأنا أحشر نظرات السخرية وشعوري بأني مباحة بنظراتهم في زاوية من كياني. أزيح تلك النظرات، أضغطها وكأنها إسفنجية. أتعب... تعود الإسفنجة إلى حجمها الطبيعي. تعود نظراتهم مكتسحة كياني. أنا فقط!! وهو كيف يشعر الآن، هل رفعوا من عنده مرآة الحمام أيضاً!! وستائره، هل هي من الساتان الأبيض؟ كدت أسأل الحارس لكني امتنعت. لو كانت كذلك فهل غاصت أنامله في ملمس الساتان الأبيض!! بماذا شعر وهو يلمسه، هل ردد مايقوله دائماً وهو يتحسس ملمس الساتان "ملمس عنق حبيبتي من الساتان "أغمضت عيني. أطبقت على صورته وهو يهمس بعبارته بصوت دافئ. أشعر بأنفاسه على عنقي. أتحسس مكانها بيدي. إلتفت إليه. يصرخ الصوت/ الساعة بنفاذ صبر "قلت اجلسا باستقامة.. اجلسا" اجلس باستقامة. أضع كفي على مساند الكرسي. آه، يالملمس الزجاج البارد!! يسألني: هل رأيت من قبل نوارس تتزلج على جليد؟ أتمتم نعم، لقد حلمت بهذا من قبل وقلت لي حينها أن جمال الجليد مثل جمال الكريستال، مميت. يا حبيبي والزجاج أيضاً. يسأل باستغراب: حقاً!؟ تتمسك كفاي بمسند الكرسي بقوة توجعني. أتأمل راحة كفي. أجدها بيضاء مشوبة بلون أحمر. أنظر إلى مسند الكرسي أرى خطوط كفي مرسومة عليها. أحاول قراءتها. يبتسم قائلاً انظري، إنه خط العمر. سنعمر طويلاً". أبادله الابتسامة ونحن ننظر إلى خطوط المستقبل... نتطلع إلى السفر إلى أفريقيا. تغيب ابتسامتي وأنا أتذكر الوحوش التي تراقبني. كيف انشغلت عنها كل هذه المدة. لابد أنهم "الوحوش البشرية" يصفونني بالجنون الآن وهم يرونني مبتسمة تارة وحزينة أخرى. لا أشعر بمعنى الوقت. يدخل الحارس حاملاً الصينية/المرآة. أنظر إليه، أرى عينيه ببريق لم آلفه فيها. أتساءل هل يمكن أن يكون الحارس ذاته الذي اصطحبني إلى هنا. يقول الحارس بصوت مهذب "آسف، لقد تأخرت عليك. عليّ أن أخدمكما معاً. لقد رحل الحارس الآخر". أشهق منتصرة. يا إلهي لقد كان عنده.. لقد رآه.. وقعت أنظاره عليه. ربما لمس كفه وهو يقدم له الطعام. هل توقف عنده طويلاً.. تأمله!! آه، لو استطعت إقناع الحارس بالاقتراب مني ربما شممت عطره فيه. يرتبك الحارس لنظراتي.. يخرج متعثراً. كم أتمنى لو امتلكت جرأة تقبيل يد الحارس.. عينيه.. وجهه.. آه لو اكن بمقدوري استنشاق الهواء المحيط به. لابد أنه معطر بأنفاسه. إنه في طريقه إليه "هاهو في الأسفل، يسير بخطوات سريعة. لقد وصل إلى بداية السلم. توقف قليلاً لالتقاط أنفاسه قبل أن يتسلق السلم. آه وصل عند باب غرفته الآن. توقف قليلاً. فتح الباب. ربما توقف مرتبكاً الآن... يقترب.. يتلعثم بالحديث وهو يخبره "آسف لتأخري، عليّ أن أخدمكما معاً. لقد رحل الحارس الآخر". يترك حبيبي الطعام. يتأمل الحارس.. يدور حوله.. يتردد في لمسه.. يرتبك الحارس. يغمض حبيبي عينيه وهو يستنشق الهواء بعمق. يصرخ الحارس/الساعة "وأنت ياسيدتي، ألا يعجبك الطعام!". وأنت؟ إذاً فإنه يخاطبنا معاً. أمسك بـ (وأنت) مستنشقة عطره... يا إلهي، ما أعطر أنفاس حبيبي وهو يقبلني. طعم قبلة حبيبي جعلني أتناول الطعام بنهم. يدخل الحارس مرتبكاً "عليّ اصطحابك إلى الحمام بسرعة كي أعود إلى رفيقك". أدخل إلى الحمام. أكتشف أنهم قد رفعوا الستائر. أصاب بالذهول. يصبح مذاق القبلة بعيداً كذكرى. أضرب الباب بعنف. أتذكر أن لا أحد يسمعني. أنهم هناك في الأسفل يرقبونني بوقاحتهم. ماذا أفعل الآن؟ أتعرى أمامهم!! كيف.. كيف.. كيف!!!. طعم القبلة حيادي في مساحة الذكريات. كان الألم مريعاً: ألم الإحساس بأني مراقبة حتى وأنا في الحمام وألم القبلة وهي تتحول إلى ذكرى باهتة والموسيقي منبوذ في المدينة .. ألم دفع كل أعضاء جسدي للأنين ولم أعد استطيع احتمال ألم مثانتي. غضبت من نفسي وأنا أتذكر أكواب الماء التي تناولتها بالأمس واليوم... ولكن إلى متى أستطيع المقاومة!. حاولت السيطرة على ألم المثانة المباغت. انهمرت دموع الألم. غسلت وجهي لكي أنتعش.. لكي أفكر بأي شيء كان.. بالماء.. بالساتان.. بالموسيقى.. بأفريقيا.. بقبلته.. به. اختفى كل شيء ولم يتبقى غير صورتهم وهم ينظرون إليّ عارية. وكلما تخيلتهم وهم يحدقون إليّ وأنا أفرغ مثانتي، ازدادت قشعريرتي إلى الحد الذي أصبح فيه طعم القبلة حاداً في مساحة الذكرى. بدأ جسدي يتعرق بصورة غير طبيعية، عندما وقع خيالي على وجه ذلك الرجل الفاسق النظرات وهو يتخيل سماع صوت تبولي. بعد تلك الصورة، لم أرَ شيئاً. أول شيء رأيته وأنا أعود إلى الوعي وجه الحارس العطوف وهو يسندني برفق، نظرت إلى عينيه، شعرت أنها متعاطفة، حنونة. تأملتها جيداً، رأيت عيني حبيبي الحزينتين وهو يقول لي "أنت هنا.. في قلبي. لاتخشي شيئاً". مرر الحارس سبابته على شفتي مرطباً فمي بالماء. شممت عطر قبلة حبيبي في قطرات الماء. لم تعد قبلة ذكرى. أغمضت عيني على مذاقها وعلى كلماته. نسيت نظراتهم المحدقة بي. تركني الحارس وأغلق الباب خلفه. شعرت بألم وأنا أتبول. دمعت عيناي.. دموع ألم وارتياح. تبعت الحارس إلى الغرفة. اكتشفت أنهم رفعوا مساند الكرسي. ترى هل سيقطعون كفي!!. دخل حارس غريب، صارم القسمات صارخاً بي "اتبعيني". تبعته وأنا أنظر إلى صديقي الحارس متسائلة. أغمض صديقي عينيه مطمئناً إياي. قادني الحارس الغريب إلى الأسفل ثم تسلقنا السلم المؤدي إلى زوجي. تسارعت نبضات قلبي وعاد الألم من جديد. كيف أستطيع النظر إليه؟ ياله من اختبار صعب! في تلك اللحظات لم أرغب في شيء مثل رغبتي بعدم رؤيته. كنت مرتبكة، خائفة، خجلة و.. ولا أدري ماذا. كم تمنيت أن تطول المسافة المؤدية إليه كي أستطيع التماسك أكثر وأن أكون أنا أمامه وليست هذه الفتاة المنهارة. لكن المسافة لم تطل كما لم أكن أنا في مواجهته. أغمضت عيني وأنا أدخل الغرفة. كنت أشعر بالخجل والتعب والألم. أطبقت جفني بقوة كي لاتنهمر دموعي لكني لم أستطع. حاولت أن أتكلم. غمغمت "حبيبي" لكن الكلمة خرجت نشيجاً. صرخ الحارس/ الساعة "ممنوع الكلام.. انظرا أحدكما إلى الآخر وإلاّ اضطررنا إلى مضاعفة زمن التجربة. فتحت عيني بقوة غير أني لم أر سوى ضباب يتأرجح على سطوح الغرفة الزجاجية: بحثت في عينيه. لم أر شيئاً. صحوت على صوت الطبيب وهو يقيس نبضي محدثاً الحارس". كل شيء طبيعي. ولكن لابد أن ينسحب أحدهما. هو يريد خروجها". أجاب الحارس بثقة "أعرف أنها لن توافق". فتحت عيني. سأل الطبيب "هل أنت على مايرام؟". أومأت: نعم. سأل "هل تودين الخروج؟". هززت رأسي "كلا". تلك كانت آخر مرة أرى فيها وجه الطبيب. بدأ الحارس يحضر في مواعيده بلا تأخير ومن دون أن يتفوه بكلمة. عرفت أنه لم يعد يذهب إلى السجن الآخر، بالرغم من أنه كان يخضع لتفتيش دقيق كلما دخل غرفتي أو غادرها. كنت أشعر أن ثمة شعوراً خفياً يربطني بهذا الحارس.. وشيجة أعمق من مجرد التعاطف. لم يقل لي كلمة خارج واجبه ولم أبادله الحديث لكني أدركت بأعماقي أنه انضم إلينا حتى بعد أن اختفى وظهر حارس آخر أصم وأبكم يتحرك مثل (الربوت) أمسك بيدي يوماً وسحبني خلفه مثل أي دمية بعد أسابيع أو شهور. لا أعرف متى، إذ كفت الساعة عن إعلان الوقت واليوم. سرت خلفه بلا تردد متسلقة سلالم لأجد نفسي وجهاً لوجه مع زوجي. أغمضت عيني لكي أستطيع السيطرة على مشاعري ثم فتحتهما قبل أن يتفوه الرجل/الساعة بأي كلمة. فتحت عيني ونظرت إليه في العينين تماماً. غادرني رعبي في أن لايكون هو. لقد كان هو.. نفسه الذي كان يحدثني طويلاً عن أفريقيا. تأملني ملياً بنظرات سمعت شهيقها.. تشربها قلبي. أغمضت عيني عليها وعلى نشيج كمان الموسيقي التائه.. أطبق قلبي عليها وغادرت المكان. أصبحت غرفتي الزجاجية أجمل وأنا أرى جدرانها ببريق زئبقي ممتزج بظل معتق لأشجار كثيفة وعتمة ممرات ضيقة في غابة امتد مداها خارج زئبقية الجدران. يا الله!! كم أنعشتني برودة الغابة. استنشقت نسيمها بعمق حتى دمعت عيناي. أحاول تذكر معزوفة الموسيقي التائه. أسمع لحناً قريباً منها. أردده. أخفق في التقاط الجملة الموسيقية، كل مرة، بتوزيع جديد، مجربين آلات موسيقية مختلفة. أترنم بمعزوفتنا وأنا أدور مع الغابة الزئبقية الخضراء، وعندما نجحنا مرة في توزيع الجملة الموسيقية على الكمان رأيت على وجه الموسيقي التائه وهو يبتسم تعباً بيمنا أحاطت به دموع حيوانات الغابة. انحنيت محيية الموسيقي وهو يبتسم وهو يسير في موكبه البهي. رافقت الموكب وهو يغادر خارج مدى الغابة الزئبقية الخضراء. أقول له "أحبهم مثلما لم أحبهم من قبل". يجيبني "أحبك.. أحبك مطوية في زاوية وقتي، تترقبينني كي أضع ساعدي حولك وتستريح". يضع ساعده حولي وأغفو. يهدهدني "آمل أن لاأكون قد طويتك بعيداً.. بعيداً جداً". أصحو على ابتسامته. أقول صباح الخير. يقول لي "كنت أحلم بك" أمسك بيده وأسير على الجدران الزئبقية.. تتحسس أقدامي برودة الزجاج، تنزلق قدمي.. يسندني ونتزلج معاً على زجاج زئبقي.. يتعثر.. نسقط معاً. يتزلج جسدانا على أرضية الغرفة.. أرانا في سقف الغرفة. أقول له "أنظر إلى الأعلى أريد أن أكون هناك". يبتسم "لاعليك، أغمضي عينيك و لاتفكري إلاّ بأن تكوني هناك". أفعل مثلما يقول غير أني لا أفكر إلاّ به. افتح عيني، أجدني سابحة في الفضاء، أتحسس بأصابعي ملامح وجهي وهي إلى جانب وجهه. أقبله. كما بقينا على ذلك الحال؟ لا أتذكر. لقد كانت نظراته تلك عالمي الذي أعيشه ليلاً ونهاراً ولم أعد أتذكر البروفيسور أو الوجوه المراقبة أو الحارس. اختفى عالمهم تماماً خلف تلك النظرة وأصبح مثل طيف خاطف مرّ في حياتي يوماً ما. يوماً ما!! إنه الزمن مرة أخرى، اضطر لاستخدامه للحديث عنهم. من أخبرني به الحارس القديم وهو يفتح لي الباب، إنه كان طويلاً جداً. قال لي بسعادة "يمكنك أن تغادري الآن سيدتي". نظرت إليه مستفهمة. فابتسم وهو يقول "عفواً، أقصد يمكنكما أن تغادرا الآن معاً. أنتما حران". تأملت الغرفة ملياً. تحسست جدرانها.. أرضيتها.. السرير.. الكرسي.. ولم أجبه بشيء ثم تبعته بهدوء أثار دهشته. قال لي: كنت أتصور أنكما بعد هذه الشهور الطويلة سترقصان فرحاً..تصرخان..تبكيان..تضحكان.. ت.. ت.. ثم استدرك مستغرباً "ألست سعيدة بخروجكما". أومأت: نعم. سار إلى جانبي وهو يتحدث بأشياء لم أسمع معظمها. كنت أستمع إليه بلا مبالاة وبلا حزن أو سعادة.. بفراغ... بضباب تحول إلى قطرات ندى زرقاء اصطدمت بتلك النظرة/الحياة فانهمرت دموعي.. دموع فرح. كان الحارس يتحدث بسرعة، يحاول قول كل شيء في وقت واحد. قاطعته "عندما حضرنا إلى هنا، كان المكان يعج بالناس.. ترى إلى أين ذهبوا؟". سألته غير أني لم أصغ إليه وهو يتحدث بتفاصيل لا أتذكرها حول مشاكل ظهرت أخيراً أثناء التجربة. سمعته يسألني "ألم تنتبهي إلى الحارس وهو يقودك يومياً في جولة حول المكان". -دعني أتذكر. نعم.. نعم.. لماذا؟ -فعل البروفيسور هذا لكي تتأكدا من أنكما مراقبان دائماً وأن التجربة تسير منذ اليوم الأول لدخولكما هنا و.. قاطعته متذكرة: أين البروفيسور؟ -لقد انتحر الليلة الماضية بعد أن ظل يهذي طوال الأسابيع الماضية بأنكما تراقبانه ليل نهار.. في يقظته ومنامه.. لقد أصيب بالجنون تماماً.. نعم، لقد انتحر بالأمس. أحزنني انتحار البروفيسور ولم أعرف كيف أعبر عن حزني فسألت الحارس عن الساعة. قال "إنها العاشرة صباحاً" لم أستطع الانتظار بالرغم من أنني أعرف احتمالية أن أكون في إحدى هذه الغرف. تهدج صوته وهو يتفوه بتلك الكلمات غير أنه حاول التماسك وهو يضيف "وربما، لا يتذكركما أحد وتظلان هنا إلى الأبد". لم أعرف ماذا أقول لصديقي الحارس. شعرت أن اللغة في أقصى حالات عجزها، فضغطت على كفه وتركته مسرعة من دون أن ألتفت. ركضت بأقصى سرعتي وقبل أن يوشك الممر على نهايته. باغتني عطره. توقفت قبل أن أواصل السير بخطوات هادئة إلى حيث كان يقف منتظراً عند البوابة. ابتسم لي. نظرنا إلى بعضنا مثلما اعتدنا من قبل، غير أن عينيه سبقتاني بالابتسامة هذه المرة. أغمضت عيني على ابتسامته.. استنشقتها. ثم غادرنا المكان بعيون مفتوحة... ربما إلى أفريقيا!!.
منذ عودته من الحرب وهو لا يفكر إلاّ بحلمه... لايحدثني بشيء سوى عن حلمه.. حلم السفر إلى أفريقيا. حلم بدا لي مثل باقي الأحلام غير أني وبمرور الأيام اكتشفت خطأي. كانت أفريقيا أكبر من حلم وأعمق من وجود.
هكذا كنت منصاعة إلى حديثه اليومي وخططه مستمعة مرة ومشاركة أخرى، وشيئاً فشيئاً وجدتني لا أحلم إلاّ بأفريقيا: بأسودها ونمورها وفيلتها وقرودها و..و.
سألته مرة: ماذا نفعل إذا ما هاجمنا حيوان مفترس؟
قال: نسحره.
-كيف؟
-أتذكرين تلك الحكاية؟ ها.. أتتذكرين؟
لم يكن تبدو عليه السخرية وهو يسألني. كان جاداً مما شجعني على مواصلة الحديث بهذه الروحية. قلت له: أية حكاية! أتعني حكاية الموسيقى التائه بأدغال أفريقيا مع الوحوش. إذا كنت تؤمن حقاً بهذه القصة فذلك صعب. في مثل عمرنا نحتاج إلى أعوام طويلة لتعلم الموسيقى.
قبل أن يعلق على كلامي، تقدم إلى طاولتنا رجل وقور في نهايات خمسينياته، أناقته واضحة ولكن بلا إفراط، شاحب الوجه، كنت قد لاحظت ومنذ زمن ليس بقصير تردده على المكان وجلوسه إلى طاولة قريبة منا.
اعتذر الرجل بتهذيب مبالغ فيه لمقاطعتنا الحديث. وبصوت خافت مؤثر قال: أرجو المعذرة. لقد استمعت إلى حديثكما بمحض المصادفة. أعذراني لم أستطع منع نفسي من ذلك.
تحدث واقفاً حتى دعاه زوجي بإشارة منه للجلوس.
جلس وهو ينظر إلينا في العينين تماماً وفي وقت واحد. أربكتني نظراته فأمسك زوجي بكفي ضاغطاً بلطف.
استمر الرجل بحديثه. "يمكنكما تحقيق أحلامكما بالسفر إلى أفريقيا.. الموسيقى أو أي حلم تشاءان بسهولة".
لم نسأله كيف؟ بل استمررنا بالصمت.
تلعثم قليلاً قبل أن يواصل "منذ زمن وأنا أتردد على هذا المكان غير أني أشعر وكأني أعرفكما منذ زمن طويل.. شيء ما كان يشدني إليكما ويجعلني أحضر يومياً من أجل رؤيتكما. ربما كان هذا الفيض الهائل من الحميمية الذي يربطكما. نعم، لهذا السبب بالذات. في بداية الأمر، اعتقدت أن علاقة من هذا النوع لابد أن تثير انتباه رجل عجوز مثلي، غير أني وبمرور الأيام اكتشفت أن الأمر أكبر من هذا.. صدقاني. أما ماهو (الأكبر) فهذا مالا أعرفه لكني أستطيع القول أنه جعلني أثق بكما وأحلم في أن أعيش لحظة مما تعيشان".
كان ينقل نظراته بيننا وهو يتحدث، كأنه يحاول قراءة أثر كلماته فينا. همس "أعتقد أنني أخبرتكما كم اثق بكما لذا سأحدثكما عن مشروع بحث أعمل فيه يمكن أن يحقق منفعة للإنسانية فيما إذا قدمتما المساعدة".
سألنا معاً: كيف؟
برقت عيناه وهو يتحدث بسرعة "مازال بحثي في مراحله الأولى ويحتاج إلى تطبيقات عملية تعززه. إنه يدور حول إمكانية تطوير وسائل الاتصال بين البشر".
سأل زوجي: ماذا تقصد؟
بفرح بدأ الرجل يرسم دوائر وهمية وسهاماً وإشارات على الطاولة دون أن يرفع غطاء القلم، شارحاً وسائل الاتصال المعروفة بين البشر.
تحدث طويلاً عن تلك الوسائل وعن التجارب التي أجريت حولها وعن أشياء لا أتذكرها، بل لم أسمعها. فلقد ابتعد صوته بمرور الوقت إلى الدرجة التي لم نعد نستمع إلى شيء سوى طبول أفريقيا وأصوات حيواناتها.
تبادلنا الابتسامة عندما استمعنا إلى صراخ قرد صغير سقطت على رأسه ثمرة جوز الهند. فتوقف الرجل عن الحديث عندما انتبه إلى ابتسامتنا التي أوشكت أن تتحول إلى قهقهة. فقال بصوت حازم "باختصار أن بحثي يخرج باهتمامه عن وسائل الاتصال تلك ويهتم بتطويرها عبر العزلة والألم والتأمل. لذا اخترتكما لمساعدتي، لأني ومن خلال دراستي لكما عن كثب، وجدت أن صلة أحدكما بالآخر أكبر من اللغة والحواس وغيرها. أعترف أنني كنت أرصدكما بدافع الباحث وهذا ما جعلني أكتشف فيكما سمات فريدة تميزكما عن غيركما. وهي سمات ساعدتني في أن أعيد النظر في الكثير من آرائي ونتائجي النظرية".
كنا منشغلان بعبث أقدامنا تحت الطاولة ومطاردة شبل لنا. لم نجب فاستمر الرجل بالحديث "لن يأخذ الأمر أكثر من أسبوع تمكثان فيه معي في المختبر والضمانات التي تطلبانها ثم يذهب كل واحد منّا إلى حاله: أنا إلى بحثي وأنتما إلى أحلامكما. ستساعدكما الجهة الممولة للبحث على السفر إلى أي مكان وفي أي شيء ترغبان فيه".
نظرت إلى وجه زوجي فشعرت بالاطمئنان كان الشبل قد عاد إلى أمه دون أن يمسنا بسوء.
سرنا مع الرجل بصمت ولكن بشعور خفي يجمع بين الفرح والخوف.. شعور يحمل طعم المغامرة. همس زوجي بنبرة مطمئنة وهو يمسك بيدي "لاتخشي شيئاً، لايمكن أن يكون الأمر أكثر خطورة من أسودك ونمورك وفيلتك".
ونحن نأخذ أماكننا في المقعد الخلفي لسيارة فخمة، مظللة النوافذ، قلت لزوجي "بإمكان الفيل أن (يهرس) بأقدامه سيارة مثل هذه بسهولة". أكمل زوجي وهو يكتم ضحكة" لكنه لن يفعل هذا إذا مالهونا معه".
سارت السيارة المسرعة بطرق لم نتبينها ومن دون أن يخفض السائق الصارم القسمات من سرعة السيارة -التي لم يدهسها الفيل- فتحت بوابة واسعة ذاتياً فوجدنا أنفسنا في ممرات تصطف على جانبيها الأشجار الضخمة.
ومن دون مقدمات توقفت السيارة فجأة عند إحدى الممرات. قادنا الرجل إلى مكتب صغير، أنيق، إلى طاولته وهو يتنفس بإنشراح واضح ثم فتح درجاً مقفلاً أخرج منه أوراقاً سلمها إلينا وهو يقول "أعرف أنكما لاتكترثان بأمور مثل هذه. إنه عقد ربما وجدتماه أمراً شكلياً لكنه ضروري لضمان حقوقكما. ادرساه جيداً قبل توقيعه وبإمكاننا مناقشة كل بند من بنوده وإجراء التعديل الذي تجدانه ضرورياً.
أكرر، عليكما قراءة العقد بدقة وإمعان وأنا موافق مسبقاً على كل ماتقترحان".
جدية الرجل وثقته بنا وحرصه علينا أثارت خجلنا، فطافت أنظارنا على السطور بسرعة ونحن نوقع العقد، ثم غادرنا المكتب نحو الممر الواسع الطويل فوصلنا إلى باحة واسعة جداً، تمتد على مدى البصر، محاطة بأشجار كثيفة، عالية.
في وسط الباحة استقر شكلان زجاجيان دائرتان، كل واحد منهما معلق بكلاليب ضخمة مرتبطة بجسور تستند إلى أربعة أعمدة مشيدة على شكل سلالم. ومن منحنى في زاوية أحد السلالم لكل دائرة زجاجية تعلق شكل زجاجي صغير مغلف بستائر داخلية. كان الشكلان الزجاجيان الدائريان جميلين من الخارج، تبينت عبر زجاجهما النظيف، بوضوح، كل محتوياتهما: كرسياً زجاجياً وسريراً شفافاً.
سألت الرجل: أية غرفة سندخل؟ هل سنكون في إحداهما وتكون أنت في الأخرى؟
قال بحزم: كلا. سأواصل تجاربي عبر شاشات مختبري وسيكون كل واحد منكما في غرفة.
قرأ الرجل معالم الاحتجاج في وجهي، فقال بابتسامة مطمئنة "ينبغي أن يكون كل واحد منكما في غرفة. إنها إحدى مرتكزات التجربة! لقد شرحت لكما ذلك على ما أعتقد، وإلا كيف يمكننا القيام بالتجربة وأنتما في مكان واحد، بل كيف بمقدورنا دراسة وسائل الاتصال التي حدثتكما عنها إذا كنتما، أساساً، على اتصال بوجودكما معاً؟".
أحرجتني نبرة الرجل المتفهمة وهو يشرح لي ضرورة المكوث في مكانين منفصلين. همس زوجي: لاعليك. لن يطول الأمر ولن تشعري بالوحدة. سأكون قربك طوال الوقت كما كنت وأنا بعيد عنك سنوات طويلة في الحرب.
التفت زوجي وسأل الرجل: ليس أكثر من أسبوع كما وعدتنا؟
قال الرجل: نعم، لكن الأمر يعتمد على مدى استجابتكما أو عدمها.
قد يكون يوماً أو ربما أسبوعاً أوشهراً أو سنة. من يعرف! بالمناسبة سيكون بإمكانكما رؤية أحدكما الآخر بين حين وآخر. ولكن في الوقت الذي تحدده التجربة.
أضاف بسرعة "قبل أن يدخلكما الحارسان إلى غرفتيكما أود...".
صرخنا معاً: حراس!!
تراجع الرجل منكمشاً وهو يقول عفواً، أقصد من سيقومان على خدمتكما. قبل أن يرشداكما إلى غرفتيكما عليكما رؤية أشخاص سيشاركون في التجربة.
سألنا بصوت واحد: كيف؟
-هذا ليس من شأنكما. ولكن يمكن أن تعرفا أنهم سيكونون خارج غرفتيكما، يرونكما بوضوح ولاتستطيعان رؤيتهم. سيكون ذلك خلال الليل والنهار وبنظام ساعتي عمل لكل واحد منهم".
قادنا الحارسان والبروفيسور -هكذا ناداه الحارسان- إلى قاعة زجاجية مستديرة، خلف أشجار الباحة الواسعة.
قال البروفيسور: انظرا إليهم جيداً. لاتخجلي سيدتي فإنهم لا يستطيعون رؤيتك الآن. بعد قليل ستتبادلون الأدوار.
نظرت. كان أحدهم بوجه مشوه خلته ينظر إليّ بوقاحة وآخر كان ضئيلاً بنظرات مخمورة متعبة. أغمضت عيني مرددة هذا لايحتمل. ممسكة بقوة بيد زوجي. سمعت البروفيسور يقول بصوت حيادي "انظرا إليهما جيداً حتى لاتشعرا بالندم، لعدم معرفة من يراقبكما" وحتى لا أشعر بالندم فتحت عيني، فاصطدمت عيناي بنظرات لزجة لرجل وسيم.
صرخت: هذا يكفي.
قال البروفيسور بنبرة انتصار: يبدو لنا أننا سننجز التجربة في وقت قياسي.
أجاب زوجي بصوت تهدج غضباً: لن تكون هناك تجربة. سنغادر المكان حالاً واختر غيرنا لتجربة مثل هذه. ابتسم الرجل بسخرية: يبدو أنك لم تقرأ العقد جيداً. هناك فقرة تقول "إذا تراجع أحد الأطراف عن أداء التجربة فعليه تحمل تبعة ترك الآخر".
التصقت بزوجي بخوف فضغط بيده على كفي بقوة مؤلمة. وهو يقرأ العقد بإمعان، تساءل: لقد قرأت هذا! ترى ماهي تبعات تركنا تجربة لم ندخلها بعد؟ هل تسببنا بأضرار مادية أو معنوية للطرف الآخر مثلاً!؟.
-ليس لنا بل أحدكما للآخر.
-لكننا طرف واحد.
ضحك البروفيسور بقوة وهو يقول "كان عليكما قراءة العقد جيداً. الآخر أنت أو هي وليس نحن. هل تريد أن أشرح لك أكثر. إذاً استمع إليّ جيداً: إذا كنت ترفض الدخول في التجربة فاتركها واخرج أو دعها تتركك وتخرج.
وأنا أستمع إلى كلمات الرجل، تجنبت النظر إلى عيني زوجي. كنت أشعر بغضبه وإحساسه بالعجز عن فعل أي شيء. كنت أعرف أن إحساسه بالعجز يمكن أن يدمره إذا ما اصطدمت نظراتي به.
فغادرت المكان مسرعة من دون نظرة أو كلمة..
وحيدة حملت حزني وغضبي وعجزي متبعة الحارس وهو يقودني إلى غرفتي عبر جسر زجاجي صغير يربط بين الغرفة والسلم. كان الباب الزجاجي يفتح بأكرة من الخارج. أخبرني الحارس بهذه المعلومة وكأنه يجنبني مشقة محاولة فتح الباب.
كانت الغرفة الزجاجية مطلية كلياً بماء المرايا الفضي. صورتي تباغتني إينما التفت. اقتربت من إحدى الصور تأملت وجهي مثلما أفعل كلما مررت بمرآة. نظرت إلى عيني.. أخافني الرعب المرسوم فيهما... رعب اختنق خلف رعب أكبر عندما تذكرت أن هناك من يراقبني الآن.. يراني ولا أراه. ترى أي واحد منهم يراقبني الآن؟
تراجعت إلى الكرسي المطلي بماء المرايا مسرعة وجلست لم أستطع الاستقرار في جلستي. حاولت الانشغال عن نظراتهم بالنظر إلى أي شيء. كانت الغرفة عارية من الأثاث!
التفت إلى الأمام.. إلى الخلف.. إلى الجانبين.. ترى في أي مكان يجلسون؟ أمامي أم خلفي.. أم إلى الجانبين!! ضحكت بمرارة وأنا أكتشف أن السقف وأرضية الغرفة شفافة من الخارج. مطلية بلون الزئبق.
إذاً لايمكنني حتى دفن وجهي في أرضية الغرفة أو التحديق بالسقف.. ستكون نظراتهم هناك أيضاً.
هل يمكن أن يتسلقوا سطح الغرفة؟ أم أن البروفيسور وضع أجهزة للمراقبة بدلاً منهم على سطح الغرفة. أتذكر أني رأيت، وأنا تحت، سلالم صغيرة بمحاذاة المساند والكلاليب.
أين أهرب! تركت مكاني مرعوبة. تحسست كل بقعة من الجدران المرئية علّني أعثر على منفذ!! لكني لم.. ترى أين السرير الذي شاهدته وأنا تحت؟ أكان خدعة بصرية أم تعمدوا إخفاءه؟ أتمنى لو كان حقيقة لدفنت وجهي فيه.. آخ، هل يبعد هذا نظراتهم. ربما ستلسعني نظرات ذلك الشاب الوسيم الشهوانية اللزجة وتدفعني نحو الجنون.
الجنون!!
ينبغي التمسك بالهدوء حتى ننتهي من كل هذا. يا إلهي وهو ماذا عنه! أعرف أنه يعاني مثلي تماماً.. لا إنه يعاني أكثر. أشعر به وهو يتحمل سياط إحساسه بالعجز وسياط نظراتهم.. هو الذي تربكه حتى نظرات الود، كيف سيقاوم نظرات أولئك. كيف يتحمل إحساسه بعدم قدرته على مساعدتي.
صوت حاد عكر صفاء وجوده المنعكس في بحيرة الزئبق التي أمامي وهو يصرخ "لقد مضى ربع ساعة على وجودكما في المكان"..
ربع ساعة فقط! كل هذا الزمن الطويل من نظراتهم وعذابنا في ربع ساعة فقط!!
صرخت بصوت عال: إنكم وحوش.. وحوش.
توجهت إلى الجدران الزجاجية. حاولت كسرها وأنا أردد لستم بشراً. لستم.. أنتم وحوش.
قرعت الباب صارخة: افتحوا الباب.. يكفي هذا. أجابني الصوت بانتصار "بإمكانك الخروج. نحن لانحتجزك ولكن تذكري العقد. اخرجي واتركيه هنا".
أتذكر أن تلك الحادثة كانت آخر مرة أستمع فيها إلى صوتي. بينما انزلقت أصابعي على الزجاج الأملس الصقيل بهدوء دمعة منسية.
آه، لو أستطيع البكاء مثلهم.. مثل الأسود والنمور والفيلة والقرود، مثل حيوانات الغابة وهي تستمع إلى معزوفة الموسيقي التائه في أدغال أفريقيا. لكن الأمر يختلف هنا. نعم.. يختلف. فلم تكن تلك المخلوقات بوحشية هؤلاء، كما أنني لا أملك معزوفتي. كيف أبكي وصوت يردد كل ربع ساعة مذكراً إياي بالزمن البارد كالزجاج الذي يحيط بي.. والشعور بالعزلة الذي تبثه نظراتهم المحدقة بي دائماً. لقد تعبت. ألا يتعبون؟
ترى أيهم يراقبني الآن بعد مضي أربع ساعات؟ هذا يعني أن شخصاً ثالثاً مختلفاً يراقبني الآن، إذا ما صدق البروفيسور في قوله ذاك. أتراه صاحب الوجه المجدور بنظراته الثعلبية أم صاحب النظرة الصفراء من يراقبني الآن؟
يا إلهي، كيف وقعت في فخهم ونظرت إلى تلك الوجوه وأنا أستمع إلى نصيحة البروفيسور؟ يالسذاجتنا، كيف وثقنا به!!
لو لم أفعل لربما اختلف الأمر. لكان عذابي قائماً على المخيلة فقط. نعم، ربما كان بمقدوري تخيل وجوه بنظرات إنسانية: نظرات حب أو مواساة..
نظرة ألم أو حيرة.. حزن.
كم أتمنى أن يكونوا أكثر رأفة معه! إن كانوا كذلك، كيف يعرف أن من يراقبه عطوفاً أو رؤوفاً؟ شعرت بالتعب فجلست على أرضية الغرفة واضعة رأسي على مقعد الكرسي. هنا سأدفن وجهي بعيداً عن نظراتهم.
نظراتهم!! رددت باستسلام، من هنا يمكنهم رؤيتي أيضاً.
أخبرني الصوت بانقضاء ست ساعات. بعدها بثوان فتح الباب. دخل الحارس يحمل صينية طعام زجاجية مطلية بماء الزئبق قال "تناولي طعامك بسرعة حتى ترافقيني إلى الغرفة الصغيرة حيث بإمكانك الاغتسال أو الاستحمام".
لم أمس الطعام. كنت مستعدة للخروج معه بحماس. ربما سأكون في مأمن منهم ولو دقائق. سرت خلف الحارس إلى زاوية السلم متجنبة النظر إلى الحشود المتجمعة في الأسفل. فتح الحارس الباب وردد العبارة ذاتها "الباب يفتح من الخارج فقط".
دخلت الغرفة الزجاجية الصغيرة. كانت تشبه في تصميمها غرفتي، غير أنها مغلفة بالستائر من الداخل. أزحت جزءاً من الستار، فاصطدمت بوجهي منعكساً في جدرانها- ترى هل تناول طعامه أم أنه مثلي في الحمام الآن؟ ماذا يفعل الآن ربما ينظر إلى وجهه في المرآة مكتشفاً أن شعر ذقنه نما بسرعة عجيبة: يغمض عينيه مطبقاً على صورتي وأنا أدغدغ وجهي بذقنه. أغمضت عيني استنشقت عطره الممتزج برائحة معجون الحلاقة ورائحة المكوى في ياقة قميصه. سمعته يقول لي "أنت متعبة، حاولي النوم. سأعود سريعاً و.."
لم يكمل فلقد صرخ الحارس في الخارج "أمامك خمس دقائق بعدها أفتح الباب" وأنا أغسل وجهي، اصطدمت بصورة في المرآة.. هل كانت لي؟
تحسست مسامات وجهي الشاحب. توقفت أناملي على جبيني. كنت أشعر بصداع. أحسست بضغط إبهامه عند ملتقى الحاجبين وهو يقول برقة" هل خف الصداع؟".
أومأت برأسي "نعم، وأنا أفضل الآن".
رأيت ابتسامته في المرآة: ابتسامة ارتياح بادلته إياها بضحكة خافتة خبت وأنا أرى وجه الحارس يشتت معالم وجهينا في المرآة.
قال الحارس "انتهى الوقت. هل أنت جاهزة للخروج" وسبقني إلى الباب. تحسست مكان وجهه في المرآة. قبلت ابتسامته ثم استدرت متبعة الحارس.
كم بدت المسافة طويلة بين الحمام والغرفة. مسافة محتشدة بالوجوه المحدقة بي. حاولت تجنب النظر إليهم. لم أستطع.
كان الطريق مصمماً بطريقة لابد أن تصطدم فيها نظراتي بهم والسير مغمضة العينين معناه التعثر والسقوط عن الجسر الزجاجي الضيق.
في البداية لم أرى سوى رؤوس سرعان ما شخصت بأنظارها إلى الأعلى. تعثرت.. أوشكت أن أسقط. أسندني الحارس في الوقت المناسب. في تلك اللحظة، أحسست أن يد الحارس كانت أكثر رقة من تلك اليد التي اصطدمت بي وهي ترشدني إلى غرفتي قبل ست ساعات وعشر دقائق.
دخلت الغرفة فوجدت بدل الكرسي سريراً زجاجياً مطلياً بالزئبق.
قال الحارس "يمكنك الاستلقاء خمساً وأربعين دقيقة.
تفحصت الفراش بيدي، كان ملمسه فارهاً. من نسيج غريب ورقائق لدنة زئبقية الطلاء.
ضحكت بسخرية. ماذا يمكن أن أتوقع. لابد أن الفراش شفاف هو الآخر. وإن لم يكن كذلك، هل بإمكانه حمايتي من نظراتهم.. هل كنت سأدفن وجهي فيه تاركة جسدي نهباً لنظراتهم وخيالاتهم. لم أستلق على السرير وجلست منتظرة صوت الرجل/ الساعة غير أني لم أستمع إليه بعد مرور أكثر من ربع ساعة وفق تقديراتي.
هاهم يدخلوني في دوامة جديدة من العذاب: نظراتهم والزمن الذي بت أجهله تماماً.
الزمن!
الموسيقى التائه استطاع أن يخضع وحوش الغابة لمعزوفته، كيف فكرت أننا بلا معزوفة!! يا إلهي، هل ابتلعت الطعم هكذا وبسهولة.. هل تحول زمن وجوده اللانهائي في داخلي إلى محض انتظار تحدده إشارة الساعة/الحارس!!
بكيت بحرقة. شعرت بدموعي وهي تثقل رموشي. غطيت وجهي بكفي. لم أكن أريد لنظراتهم أن تنال من دموعي.. أن تتجسس على روحي وهي تحاكمني. سمعت صوت الساعة/ الحارس وهو يقول "ارفعا كفيكما عن وجهيكما. إنكما بهذا تؤخران من سير التجربة. هل تنويان البقاء هنا طويلاً؟ أرجوكما ساعدانا كي تساعدا نفسيكما.
ارفعا! أنه يخاطبنا معاً. إنه يبكي أيضاً. لماذا يبكي؟ يالحماقتي وأنا أتساءل. إنها ليست حماقة بل سعادة. لابد أنه سعيد وهو يستمع إلى تنبيه الحارس. إنه يدرك الآن مثلي أن زمن وجودنا معاً معزوفة لانهائية وأن انتظارنا الساعة لم يكن إلاّ وسيلة عابرة للهروب من نظراتهم.
قال الحارس/ الساعة "لقد مضت تسع ساعات. أمامكما ساعتان من العمل قبل أن تخلدا للنوم".
النوم!! هذا يعني أن الظلام قد أصبح حالكاً في الخارج. عندما التقينا الرجل في المقهى، كان الوقت ضحى. نعم، كان ذلك قبل الظهر وكان قد مضى شهر منذ تمتعنا بإجازتنا السنوية. تبقى منها شهران حتى نعود من أفريقيا.
أفريقيا!! أثار هذا الاسم ابتسامتي. قد يتخيل الذي يراقبني أنني أبتسم له. هل سيصدق أنني أبتسم من أجل شيء لايمت بصلة إلى عالمهم هذا. ربما سيسخر مني عندما يعرف أنني أفكر بأقريقيا... بالأسود والفيلة والنمور والقردة والزرافات وبالموسيقي الضائع في غابة يكسب تعاطف أصحابها بمعزوفة على الكمان.
"كان يامكان، في سالف العصر والزمان. كان هناك موسيقي شاب طيب القلب، يحب الناس والموسيقى لكن أهالي بلدته لم يكونوا ليعرفوا معنى الموسيقى.. معنى الحب. فهجر المدينة متوجهاً إلى البعيد، غير أن الأقدار قادته إلى غابة تعج بالوجوش والحيوانات المفترسة.
وفي عمق الغابة تعطلت عربته فوجد نفسه وحيداً وضالاً في غابة لايعرف عنها أي شيء. أحاطت به الوحوش ولم يكن يمتلك من سلاح غير قلبه المحب وكمانه فأخذ يعزف مقطوعة موسيقية قص من خلالها حزنه وقلبه المحب.. معزوفة أبكت الجميع: الأسد والفيل والنمر والزرافة والشحرور.. معزوفة أبكت كل حيوانات الغابة. بكت الحيوانات وبكى كمان الموسيقي التائه مثلما لم يبك من قبل. وفي موكب مهيب، قادته جميع الحيوانات إلى خارج الغابة ملوحة له وهي تقول له بلغتها الخاصة: عد إلينا متى رغبت أيها الصديق.
متى شاهدت هذا الفيلم! عندما كنت في الخامسة أو السادسة من عمري؟ أم اليوم صباحاً!!
هذا ليس بالأمر المهم غير أن إحساسي بهذه القصة الآن هو ذات الإحساس الخفي الذي شعرت به وأنا في الخامسة أو السادسة. ربما هذا هو سر دموعي المنهمرة الآن. إنني أسمعها الآن. نعم، ترددها الجدران. لست واهمة.
تركت مكاني ووضعت أذني على الجدران علني ألتقط مصدر الصوت.. ولكن لاشيء.
رفعت رأسي. اصطدمت أنظاري بصورتي في سقف الغرفة. خيل إليّ أن الصوت آت من هناك فقط.
التفت إلى صورتي في الجدران. استمعت إلى المعزوفة في بريق دموعي. آه، إنها هنا!! وضعت يدي على قلبي بحرص. سمعت صوت الحارس/الساعة يقول "هل أنتما بحاجة إلى طبيب.. هل تشعران بوعكة ما أو تعب في الصدر؟!".
لم أجب. بعد زمن ليس بالطويل، فتح الحارس الباب ودخل رجل هرم قال لي "استلقي من فضلك كي أفحصك". وضع سماعته على صدري. قاس نبضي وسجل شيئاً ما في دفتره مردداً "لاشيء.. لاشيء. القلب طبيعي.. مثله تماماً. لماذا أرعبني البروفيسور في هذا الوقت المتأخر؟".
قال هذا بتذمر تاركاً المكان بعصبية ارتسمت في ارتعاشة يديه وهو يحمل أوراقه وسماعته.
سمعته يقول للحارس: يكفي هذا. دعها تنام الآن. تمتم الحارس متذمراً هو الآخر، وهو يقول بصوت حرص على أن يكون خافتاً "إنها الأوامر".
كم عددهم؟ البروفيسور والحارسان والطبيب وأكثر من عشرة وجوه وهناك أجهزة المراقبة والناس الذين يجلسون خلفها والطباخ والبستاني والمنظف ومساعده و.. و...
لايمكن أن يكونوا أقل من مائة شخص!!
ضحكت بقوة وأنا أضيف للقائمة: نحن والموسيقي التائه وأفريقيا بحيواناتها.
ردد صوت الحارس/الساعة بقسوة "يبدو أن أعصابكما متعبة، بإمكانكما النوم الآن"
أخيراً سيكون بمقدوري النوم والهروب إليه من نظراتهم. ردد الصوت "بالمناسبة، العمل مستمر حتى أثناء نومكما".
أثارت أعصابي هذه العبارة. شعرت أنها سرقت أمنيتي في الهروب إليه منهم. كيف أنام ونظراتهم مسلطة نحوي. تجتاح جسدي، تسقط على وجهي.. عنقي.. صدري. لم يحضروا لي حتى شرشفاً أغطي به جسدي. يالحماقتي!! هل يمنع الشرشف نظراتهم من التسلل إلى جسدي!!
أبكاني هذا الاستنتاج. بكيت من ألم نظراتهم.. لشعوري أن جسدي مباح لهم.. لنظراتهم اللزجة وربما الحيوانية. بكيت حتى غفوت.
أتذكر أن نظراتهم بدأت تطاردني أثناء نومي..
استقرت حيناً على صدري فصحوت مرعوبة مغطية صدري بكفيّ.. مضى زمن طويل قبل أن أغفو مرة أخرى وعندما شعرت بثقل النوم أحسست بنظرة تستقر على ساقي. جفلت وجلست في السرير حتى غفوت مرة أخرى وأنا جالسة.
الحارس/الساعة "ناما جيداً. أمامكما يوم عمل طويل".
استلقيت على السرير متعبة. لقد طمأنني الحارس عليه بدون قصد. لابد أن أنام. يكفي أن أبدأ التفكير به حتى أنام.
لابد أنه مستلق على جانبه الآن. ماداً ساعده الأيمن لكي أضع رأسي عليه، مدركاً أنني أتأمل قسمات وجهه بين حين وآخر وهي تصبح أكثر رقة وطفولية. وعندما أغفو يتأمل وجهي. أصحو على ابتسامة نظراته. أبادله الابتسامة وأعود إلى النوم. غفوت من دون أن أدرك المكان الذي أنا فيه: نظرت إليه وهو ينام إلى جانبي.. إلى وجهه الممسك ببقايا ابتسامة. ربما مازال يحلم. قلت له صباح الخير. أشرقت ابتسامته من جديد وهو يردد كنت أحلم بك.. كنت أحلم بك.
قبل أن أسأله عن حلمه سمعت الحارس/الساعة يقول "حان موعد النهوض".
أشعر بالغضب والامتعاض وأنا أتذكر أننا في زمن ومكان آخر، والوجوه التي لابد أنها تراقبنا الآن.. وجه البروفيسور.
دخل الحارس حاملاً الفطور، مردداً "بعد أن تنتهي، سأصحبك إلى الحمام".
أوشك على ترك الفطور والخروج مع الحارس. أتردد بين البقاء والذهاب. يتردد الحارس أيضاً.
أعود لتناول فطوري بلا رغبة وأنا أسمعه يقول لي: "ينبغي أن يكون الجسد قوياً كي تواصل الروح قوتها".
أرافق الحارس إلى الحمام اكتشف أن مرآة الحمام قد رفعت اغتسل. أزيح جزءاً من الستارة. أتذكر الوجوه المحدقة بي من الأسفل. أعيد الستارة بسرعة..
أتحسس ملمسها الناعم. آه، إنها من الساتان الذي يحبه. ساتان أبيض تجولت أصابعي فيه. تنعشني نعومة الملمس. أدفن وجهي فيه. أشعر بطعم أنفاس حبيبي في ليالي الصيف تغسل وجهي.. تمتص حرارة عيني بعد صداع طويل. أشعر بالارتياح.
يفتح الحارس الباب منتظراً إياي. أتبعه إلى الغرفة. تغلق الباب خلفي. أسير بخطوات بطيئة إلى الكرسي الذي ظهر بدلاً من السرير. أجلس مستسلمة بغضب لنظراتهم. لقد عدنا من جديد!!
أجلس محاصرة بنظراتهم. أغمض عيني. أحاول تجاوز أسوار حصارهم بالهروب إليه. يباغتني سؤال يقول: هل نعود كما كنا؟ يرعبني السؤال. أهرب منه إلى رعب نظراتهم. يا إلهي متى ينتهي كل هذا. أردد هذا وأنا أحشر نظرات السخرية وشعوري بأني مباحة بنظراتهم في زاوية من كياني.
أزيح تلك النظرات، أضغطها وكأنها إسفنجية. أتعب...
تعود الإسفنجة إلى حجمها الطبيعي. تعود نظراتهم مكتسحة كياني. أنا فقط!! وهو كيف يشعر الآن، هل رفعوا من عنده مرآة الحمام أيضاً!! وستائره، هل هي من الساتان الأبيض؟
كدت أسأل الحارس لكني امتنعت. لو كانت كذلك فهل غاصت أنامله في ملمس الساتان الأبيض!!
بماذا شعر وهو يلمسه، هل ردد مايقوله دائماً وهو يتحسس ملمس الساتان "ملمس عنق حبيبتي من الساتان "أغمضت عيني. أطبقت على صورته وهو يهمس بعبارته بصوت دافئ. أشعر بأنفاسه على عنقي. أتحسس مكانها بيدي. إلتفت إليه.
يصرخ الصوت/ الساعة بنفاذ صبر "قلت اجلسا باستقامة.. اجلسا" اجلس باستقامة. أضع كفي على مساند الكرسي. آه، يالملمس الزجاج البارد!!
يسألني: هل رأيت من قبل نوارس تتزلج على جليد؟
أتمتم نعم، لقد حلمت بهذا من قبل وقلت لي حينها أن جمال الجليد مثل جمال الكريستال، مميت.
يا حبيبي والزجاج أيضاً.
يسأل باستغراب: حقاً!؟
تتمسك كفاي بمسند الكرسي بقوة توجعني. أتأمل راحة كفي. أجدها بيضاء مشوبة بلون أحمر. أنظر إلى مسند الكرسي أرى خطوط كفي مرسومة عليها. أحاول قراءتها. يبتسم قائلاً انظري، إنه خط العمر. سنعمر طويلاً".
أبادله الابتسامة ونحن ننظر إلى خطوط المستقبل... نتطلع إلى السفر إلى أفريقيا.
تغيب ابتسامتي وأنا أتذكر الوحوش التي تراقبني. كيف انشغلت عنها كل هذه المدة. لابد أنهم "الوحوش البشرية" يصفونني بالجنون الآن وهم يرونني مبتسمة تارة وحزينة أخرى. لا أشعر بمعنى الوقت. يدخل الحارس حاملاً الصينية/المرآة.
أنظر إليه، أرى عينيه ببريق لم آلفه فيها. أتساءل هل يمكن أن يكون الحارس ذاته الذي اصطحبني إلى هنا.
يقول الحارس بصوت مهذب "آسف، لقد تأخرت عليك.
عليّ أن أخدمكما معاً. لقد رحل الحارس الآخر".
أشهق منتصرة. يا إلهي لقد كان عنده.. لقد رآه.. وقعت أنظاره عليه. ربما لمس كفه وهو يقدم له الطعام. هل توقف عنده طويلاً.. تأمله!! آه، لو استطعت إقناع الحارس بالاقتراب مني ربما شممت عطره فيه.
يرتبك الحارس لنظراتي.. يخرج متعثراً.
كم أتمنى لو امتلكت جرأة تقبيل يد الحارس.. عينيه.. وجهه.. آه لو اكن بمقدوري استنشاق الهواء المحيط به. لابد أنه معطر بأنفاسه.
إنه في طريقه إليه "هاهو في الأسفل، يسير بخطوات سريعة. لقد وصل إلى بداية السلم. توقف قليلاً لالتقاط أنفاسه قبل أن يتسلق السلم. آه وصل عند باب غرفته الآن. توقف قليلاً. فتح الباب.
ربما توقف مرتبكاً الآن... يقترب.. يتلعثم بالحديث وهو يخبره "آسف لتأخري، عليّ أن أخدمكما معاً. لقد رحل الحارس الآخر".
يترك حبيبي الطعام. يتأمل الحارس.. يدور حوله.. يتردد في لمسه.. يرتبك الحارس. يغمض حبيبي عينيه وهو يستنشق الهواء بعمق.
يصرخ الحارس/الساعة "وأنت ياسيدتي، ألا يعجبك الطعام!".
وأنت؟ إذاً فإنه يخاطبنا معاً. أمسك بـ (وأنت) مستنشقة عطره... يا إلهي، ما أعطر أنفاس حبيبي وهو يقبلني. طعم قبلة حبيبي جعلني أتناول الطعام بنهم.
يدخل الحارس مرتبكاً "عليّ اصطحابك إلى الحمام بسرعة كي أعود إلى رفيقك".
أدخل إلى الحمام. أكتشف أنهم قد رفعوا الستائر.
أصاب بالذهول. يصبح مذاق القبلة بعيداً كذكرى.
أضرب الباب بعنف. أتذكر أن لا أحد يسمعني.
أنهم هناك في الأسفل يرقبونني بوقاحتهم. ماذا أفعل الآن؟ أتعرى أمامهم!! كيف.. كيف.. كيف!!!.
طعم القبلة حيادي في مساحة الذكريات. كان الألم مريعاً: ألم الإحساس بأني مراقبة حتى وأنا في الحمام وألم القبلة وهي تتحول إلى ذكرى باهتة والموسيقي منبوذ في المدينة .. ألم دفع كل أعضاء جسدي للأنين ولم أعد استطيع احتمال ألم مثانتي. غضبت من نفسي وأنا أتذكر أكواب الماء التي تناولتها بالأمس واليوم... ولكن إلى متى أستطيع المقاومة!.
حاولت السيطرة على ألم المثانة المباغت. انهمرت دموع الألم.
غسلت وجهي لكي أنتعش.. لكي أفكر بأي شيء كان.. بالماء..
بالساتان.. بالموسيقى.. بأفريقيا.. بقبلته.. به.
اختفى كل شيء ولم يتبقى غير صورتهم وهم ينظرون إليّ عارية. وكلما تخيلتهم وهم يحدقون إليّ وأنا أفرغ مثانتي، ازدادت قشعريرتي إلى الحد الذي أصبح فيه طعم القبلة حاداً في مساحة الذكرى.
بدأ جسدي يتعرق بصورة غير طبيعية، عندما وقع خيالي على وجه ذلك الرجل الفاسق النظرات وهو يتخيل سماع صوت تبولي.
بعد تلك الصورة، لم أرَ شيئاً. أول شيء رأيته وأنا أعود إلى الوعي وجه الحارس العطوف وهو يسندني برفق، نظرت إلى عينيه، شعرت أنها متعاطفة، حنونة. تأملتها جيداً، رأيت عيني حبيبي الحزينتين وهو يقول لي "أنت هنا.. في قلبي. لاتخشي شيئاً".
مرر الحارس سبابته على شفتي مرطباً فمي بالماء. شممت عطر قبلة حبيبي في قطرات الماء. لم تعد قبلة ذكرى.
أغمضت عيني على مذاقها وعلى كلماته. نسيت نظراتهم المحدقة بي.
تركني الحارس وأغلق الباب خلفه. شعرت بألم وأنا أتبول. دمعت عيناي.. دموع ألم وارتياح.
تبعت الحارس إلى الغرفة. اكتشفت أنهم رفعوا مساند الكرسي.
ترى هل سيقطعون كفي!!.
دخل حارس غريب، صارم القسمات صارخاً بي "اتبعيني". تبعته وأنا أنظر إلى صديقي الحارس متسائلة. أغمض صديقي عينيه مطمئناً إياي. قادني الحارس الغريب إلى الأسفل ثم تسلقنا السلم المؤدي إلى زوجي. تسارعت نبضات قلبي وعاد الألم من جديد. كيف أستطيع النظر إليه؟ ياله من اختبار صعب!
في تلك اللحظات لم أرغب في شيء مثل رغبتي بعدم رؤيته. كنت مرتبكة، خائفة، خجلة و.. ولا أدري ماذا. كم تمنيت أن تطول المسافة المؤدية إليه كي أستطيع التماسك أكثر وأن أكون أنا أمامه وليست هذه الفتاة المنهارة. لكن المسافة لم تطل كما لم أكن أنا في مواجهته.
أغمضت عيني وأنا أدخل الغرفة. كنت أشعر بالخجل والتعب والألم. أطبقت جفني بقوة كي لاتنهمر دموعي لكني لم أستطع.
حاولت أن أتكلم. غمغمت "حبيبي" لكن الكلمة خرجت نشيجاً. صرخ الحارس/ الساعة "ممنوع الكلام.. انظرا أحدكما إلى الآخر وإلاّ اضطررنا إلى مضاعفة زمن التجربة. فتحت عيني بقوة غير أني لم أر سوى ضباب يتأرجح على سطوح الغرفة الزجاجية: بحثت في عينيه. لم أر شيئاً. صحوت على صوت الطبيب وهو يقيس نبضي محدثاً الحارس". كل شيء طبيعي. ولكن لابد أن ينسحب أحدهما. هو يريد خروجها".
أجاب الحارس بثقة "أعرف أنها لن توافق".
فتحت عيني. سأل الطبيب "هل أنت على مايرام؟".
أومأت: نعم.
سأل "هل تودين الخروج؟".
هززت رأسي "كلا".
تلك كانت آخر مرة أرى فيها وجه الطبيب.
بدأ الحارس يحضر في مواعيده بلا تأخير ومن دون أن يتفوه بكلمة. عرفت أنه لم يعد يذهب إلى السجن الآخر، بالرغم من أنه كان يخضع لتفتيش دقيق كلما دخل غرفتي أو غادرها.
كنت أشعر أن ثمة شعوراً خفياً يربطني بهذا الحارس.. وشيجة أعمق من مجرد التعاطف. لم يقل لي كلمة خارج واجبه ولم أبادله الحديث لكني أدركت بأعماقي أنه انضم إلينا حتى بعد أن اختفى وظهر حارس آخر أصم وأبكم يتحرك مثل (الربوت) أمسك بيدي يوماً وسحبني خلفه مثل أي دمية بعد أسابيع أو شهور. لا أعرف متى، إذ كفت الساعة عن إعلان الوقت واليوم. سرت خلفه بلا تردد متسلقة سلالم لأجد نفسي وجهاً لوجه مع زوجي. أغمضت عيني لكي أستطيع السيطرة على مشاعري ثم فتحتهما قبل أن يتفوه الرجل/الساعة بأي كلمة.
فتحت عيني ونظرت إليه في العينين تماماً. غادرني رعبي في أن لايكون هو. لقد كان هو.. نفسه الذي كان يحدثني طويلاً عن أفريقيا. تأملني ملياً بنظرات سمعت شهيقها.. تشربها قلبي. أغمضت عيني عليها وعلى نشيج كمان الموسيقي التائه.. أطبق قلبي عليها وغادرت المكان.
أصبحت غرفتي الزجاجية أجمل وأنا أرى جدرانها ببريق زئبقي ممتزج بظل معتق لأشجار كثيفة وعتمة ممرات ضيقة في غابة امتد مداها خارج زئبقية الجدران.
يا الله!! كم أنعشتني برودة الغابة. استنشقت نسيمها بعمق حتى دمعت عيناي.
أحاول تذكر معزوفة الموسيقي التائه. أسمع لحناً قريباً منها. أردده. أخفق في التقاط الجملة الموسيقية، كل مرة، بتوزيع جديد، مجربين آلات موسيقية مختلفة. أترنم بمعزوفتنا وأنا أدور مع الغابة الزئبقية الخضراء، وعندما نجحنا مرة في توزيع الجملة الموسيقية على الكمان رأيت على وجه الموسيقي التائه وهو يبتسم تعباً بيمنا أحاطت به دموع حيوانات الغابة.
انحنيت محيية الموسيقي وهو يبتسم وهو يسير في موكبه البهي.
رافقت الموكب وهو يغادر خارج مدى الغابة الزئبقية الخضراء.
أقول له "أحبهم مثلما لم أحبهم من قبل".
يجيبني "أحبك.. أحبك مطوية في زاوية وقتي، تترقبينني كي أضع ساعدي حولك وتستريح".
يضع ساعده حولي وأغفو.
يهدهدني "آمل أن لاأكون قد طويتك بعيداً.. بعيداً جداً". أصحو على ابتسامته. أقول صباح الخير.
يقول لي "كنت أحلم بك" أمسك بيده وأسير على الجدران الزئبقية.. تتحسس أقدامي برودة الزجاج، تنزلق قدمي..
يسندني ونتزلج معاً على زجاج زئبقي.. يتعثر.. نسقط معاً.
يتزلج جسدانا على أرضية الغرفة.. أرانا في سقف الغرفة.
أقول له "أنظر إلى الأعلى أريد أن أكون هناك".
يبتسم "لاعليك، أغمضي عينيك و لاتفكري إلاّ بأن تكوني هناك".
أفعل مثلما يقول غير أني لا أفكر إلاّ به. افتح عيني، أجدني سابحة في الفضاء، أتحسس بأصابعي ملامح وجهي وهي إلى جانب وجهه.
أقبله. كما بقينا على ذلك الحال؟ لا أتذكر. لقد كانت نظراته تلك عالمي الذي أعيشه ليلاً ونهاراً ولم أعد أتذكر البروفيسور أو الوجوه المراقبة أو الحارس. اختفى عالمهم تماماً خلف تلك النظرة وأصبح مثل طيف خاطف مرّ في حياتي يوماً ما.
يوماً ما!! إنه الزمن مرة أخرى، اضطر لاستخدامه للحديث عنهم. من أخبرني به الحارس القديم وهو يفتح لي الباب، إنه كان طويلاً جداً. قال لي بسعادة "يمكنك أن تغادري الآن سيدتي".
نظرت إليه مستفهمة. فابتسم وهو يقول "عفواً، أقصد يمكنكما أن تغادرا الآن معاً. أنتما حران".
تأملت الغرفة ملياً. تحسست جدرانها.. أرضيتها.. السرير.. الكرسي.. ولم أجبه بشيء ثم تبعته بهدوء أثار دهشته.
قال لي: كنت أتصور أنكما بعد هذه الشهور الطويلة سترقصان فرحاً..تصرخان..تبكيان..تضحكان.. ت.. ت..
ثم استدرك مستغرباً "ألست سعيدة بخروجكما".
سار إلى جانبي وهو يتحدث بأشياء لم أسمع معظمها.
كنت أستمع إليه بلا مبالاة وبلا حزن أو سعادة.. بفراغ... بضباب تحول إلى قطرات ندى زرقاء اصطدمت بتلك النظرة/الحياة فانهمرت دموعي.. دموع فرح.
كان الحارس يتحدث بسرعة، يحاول قول كل شيء في وقت واحد.
قاطعته "عندما حضرنا إلى هنا، كان المكان يعج بالناس.. ترى إلى أين ذهبوا؟".
سألته غير أني لم أصغ إليه وهو يتحدث بتفاصيل لا أتذكرها حول مشاكل ظهرت أخيراً أثناء التجربة. سمعته يسألني "ألم تنتبهي إلى الحارس وهو يقودك يومياً في جولة حول المكان".
-دعني أتذكر. نعم.. نعم.. لماذا؟
-فعل البروفيسور هذا لكي تتأكدا من أنكما مراقبان دائماً وأن التجربة تسير منذ اليوم الأول لدخولكما هنا و..
قاطعته متذكرة: أين البروفيسور؟
-لقد انتحر الليلة الماضية بعد أن ظل يهذي طوال الأسابيع الماضية بأنكما تراقبانه ليل نهار.. في يقظته ومنامه.. لقد أصيب بالجنون تماماً.. نعم، لقد انتحر بالأمس.
أحزنني انتحار البروفيسور ولم أعرف كيف أعبر عن حزني فسألت الحارس عن الساعة.
قال "إنها العاشرة صباحاً" لم أستطع الانتظار بالرغم من أنني أعرف احتمالية أن أكون في إحدى هذه الغرف. تهدج صوته وهو يتفوه بتلك الكلمات غير أنه حاول التماسك وهو يضيف "وربما، لا يتذكركما أحد وتظلان هنا إلى الأبد".
لم أعرف ماذا أقول لصديقي الحارس. شعرت أن اللغة في أقصى حالات عجزها، فضغطت على كفه وتركته مسرعة من دون أن ألتفت.
ركضت بأقصى سرعتي وقبل أن يوشك الممر على نهايته. باغتني عطره. توقفت قبل أن أواصل السير بخطوات هادئة إلى حيث كان يقف منتظراً عند البوابة. ابتسم لي. نظرنا إلى بعضنا مثلما اعتدنا من قبل، غير أن عينيه سبقتاني بالابتسامة هذه المرة.
أغمضت عيني على ابتسامته.. استنشقتها.
ثم غادرنا المكان بعيون مفتوحة... ربما إلى أفريقيا!!.