خمسون عاماً من الاحتراق والترقب والجوع.. سلسلة طويلة من الأسى العميق.. كلها مضت، صارت إرثاً، لا هو يفخر به.. ولا الفخر على تماس معه. فهل يطفئ نظرات الجوع بالتستر الأبدي. هذا ما لاطاقة له به.. مايحرص على تغييره... مايريده ألا يظل هذا الجوع الأثري يعتمل به، ويحقق انتصاراته عليه، كأنما يحفر وشماً أزلياً فوق جلده وفي أعماق قلبه. كانت أسلحة الجوع تنخر في أنحاء جسده. كان جسده عليلاً.. كل أطباء الدرجة العاشرة في المستشفيات العامة، أقروا بأنه يشكو من سوء التغذية.. وبناء على ذلك قدمت له المدرسة القحطانية حبوب دهن السمك ووجبة فطور.. وملابس شتائية. ونشأ الطفل الذي صار في الخمسين، نشأة عوز وهموم ثقيلة، ومسؤوليات أسرية، لها أول وليس لها آخر. ... كانت طفولته مغلقة... مجهولة، عالماً سرياً لم يعرفه أبداً.. كان يحس بالشيخوخة وهو يعمل، وهو يسير واضعاً أصابع يديه في حالة تشابك مستمر.. محمولة فوق ظهره... حتى انحنى.. حتى قيل له: أحدب نوتردام، حتى لم يعد اللقب يؤذيه، وإنما يتباهى به، رجلاً يقتحم ويعمل ويتقدم.. كل شيء قابل للتأجيل.. إلا سلاح الجوع هذا.. هذا.. هذا.. هذا الذي يحاصره هو شخصياً، يحاصر ترف الشاي المحلى بالسكر، يحاصر رغيف الخبز الأبيض... مثلما يحاصر هواء نقياً يظل دائم البحث عنه... يحاصر كل أسرته... واحداً واحداً وواحدة واحدة.. ولم تكن القحطانية، المدرسة التي توازن خجل الجوع... مع خجل أكبر ينوء تحت ثقله... لا أهل لبني قحطان. جذوره مقطوعة معهم. قحطان وشم في الذاكرة، وقحطان مدرسة تقف أبوابها، وقحطان مبنى قابل للسرقة... وقحطان... قحطان نقوش منسية... لاسبيل لابن الحليب الملوث إليها، ولا سبيل لشيخوخة الخمسين الركون إلى تاريخها الآفل حتى يضيء من جديد... وحتى تصبح الإضاءة مستحيلة كذلك. ... ومرت الطفولة... قطرة، قطرة. ومرت العافية.. قطرة، قطرة. وعبرت ابتسامة خجلة على الشفتين... مثل سحابة عابرة. وجاءت الراحة بهدوء، كأنما تستحي أن تستقر في الجسد الطفولي القحطاني.... فراحت تتخفى، كأنما تستر عريها، كأنما تخشى أن تعاقب بعد أن دخلت الممنوعات وتجاوزت الخطوط الحمراء.. ذلك أنها وجدت لسواه من خلق الله. لسواه من هذا الكوكب، وسواه حسب جدير بالراحة... فلا الراحة أراحته... ولا راحته استقرت واتكأت.. لتأخذ قسطاً من الأنفاس المريحة... لتأخذه إلى شواطئ متخيلة.... إلى أحلام بعمر الورد وعطره وبسمته وانشراحه. القطرة الأولى من الراحة... مرت هكذا: تأكد بسام محتويات جيوبه في ملابسه الرثة التي ابتاعها من سوق الأرامل... بعد أن مرت على أجساد سبقته، ومناخات متقلبة...وروائح عدة. تأكد أن وجود مائة فلس تكفي لارتياد فلم الظهيرة في سينما الحمراء، وتناول قدحاً من الشاي... هذا يكفي في حالة إلغاء حاجته إلى سيارة تنقله إلى بيته وإلى صمونة ساخنة بوجه أشقر محمر اللون... بهي الطلعة. ستقوده قدماه إلى البيت. في البيت سيرضى كعادته برغيف من الرقاق.. فلا يمكن لنقوده أن يأخذ كفايته منها حسبما يشتاق لها فؤاده. حسبه أن يرضى، يقتسم الموجود، ولا يفرط به، ولا يغالي في نجله الموصلي المعتق. تسلل إلى دار سينما الحمراء بكبرياء، كأنما يغامر بشجاعته كلها دفعة واحدة، كأنما يريد أن يقتحم عتب نفسه عليه... فما حاجته إلى سينما الحمراء ببطن خاوية... لكنه قرار اتخذه ولابد من تنفيذه.. غير أن الابتسامة التي رسمها فوق شفتيه انطفأت، عندما قيل له: -بطاقات الأربعين... نفدت. فهل يعود بعد عزم اتخذه لمشاهدة الفلم، ويخرج من صف طويل من المتفرجين.. عليه أن يحسم الأمر...؟! -فليكن... أعطني بطاقة الستين. وتسلمها بانكسار، كأنما اغتيلت أمانيه في الخطوة الأولى... وعليه أن يحتمل ولا يتراجع ولا يعاني من ندم. اقتحم الظلمة... وتقدم أمامه حامل الضوء. دالاً إياه إلى المكان.. جلس على مقعد وثير... وارتاح التعب القديم... استرخى على الكرسي.. وبسط ذراعيه يميناً ويساراً.. وفوجئ... فوجئ برقة لم يعهدها من قبل.. لم يكن خشباً.. ولم يكن قطعة حديد أو جلد.. أو من اللدائن. شيء فيه طراوة ونعومة ودفء... انتقل إلى جسده كتيار كهربائي. سحب يده.. مدها ثانية... هذه المرة أحس بشيء ينبض في الظلمة. وأمسكت بيده يد أخرى.. ولم تكن يده الثانية على أية حال... تأكد من ذلك. تأكد أن يداً حنونة، حدد حنانها وألفتها حين لامست يده... فسرت نشوة غريبة في جسده... لم يعرفها من قبل. وشغل باليد الأخرى، وأدرك الغيرة التي انتابت يده الثانية، فاستسلم لرجائها وتوسلاتها وطلبها الملح في احتضان تلك النشوة التي بعثت بها تلك اليد الحنونة... كانت اليد نائمة بهدوء بين صف من أصابعه الخشنة. وخاف على النعومة أن تنتقل الخشونة إليها... وخاف من خوفه. أراد أن ينهض... غير أن لاصقاً عجيباً كان يشده إلى المقعد. كانت اليد بيضاء، ملمسها ناعم. شفافة كزجاج كريستالي. هكذا رسمها في خياله وهكذا اطمأن إليها ودعاها إلى مهرجان نفسه الذي أقامه خصيصاً لها، لها دون سواها. كانت مشاهد الفيلم تمضي والحوار يستمر فيه همس وفيه أصوات عالية كانت تتداخل مع الموسيقى.. وبسام لا يحس بسوى الألفة العجيبة التي تتجمع داخل أصابعه. وحاول أن يرى وجه النعومة أن يرى القلب الطافح بالبشر والفرح والدعوة التي تستبيح غزل الأصابع.. واندفاعها العارم... إلا أن رغبته تلك أخفقت، فقد أخفت الأنوثة معالم وجهها بإزار أسود.. مع ثلاث نسوة شكلن بكل إزار حاجزاً بينهن وبين العالم المحيط بهن. ولون بسام وجه الأنثى التي لايحجزها عنه سوى فاصل المقعد. قال: عيناها بلون البحر الأكثر زرقة، شعرها اكتسب رائحة الحناء التي يحبها. بشرتها برونزية. من ألقها بدأ النحت وجلاله... تكوينات جسدها من رخام، له مقاييس وتفاصيل وانحناءات وبروزات مثيرة. وأصابعها... أصابعها الملائكية، تزهو بين أصابعه.. أصابع عشرة، متحدة، متآلفة.. تعزف معها، وتغني وترقص وتلون بهجة الحياة.. ترسم عالمها الخاص.. تحاور الأصابع الأخرى.. أصابعه.. لأصابعه أسرارها، لأصابعها أسرارها.. للأصابع العشرة رغباتها الملحة المندفعة العارمة... التي راحت تغزل بعضها، وتغار وتستجيب وتتشهى... و.. وتطفئ لظى الحرمان وجنون الممنوع.... ثم تستوي باعتدال. تستريح لفترة وجيزة... وتعود لتمارس رغبة ملحة... وجوع قديم إلى استخدام سلاح غزل مجنون وعارم، طلق الجوع السحيق للمعدة، مختاراً إشباع جوع لاحق، وسلاحاً أمضى اسمه سلاح الغزل.. يصرخ بصمت، ويلح بقوة ولهفة مكتومة.. يؤكد الاندفاع.. ويرى الاستجابة متفقة معه... مستجيبة له... فيمضي مع تلك الاستجابة إلى أقصى مداها... ومداها لا حدود لها. ومضى الوقت عاجلاً، لم يحس بسام به، وإن كان في دخيلة نفسه يدرك أن حلمه السعيد هذا يتوجه نحو النهاية. جاءت النهاية خجلة، مثل شمس لاتريد أن تطفئ ضوءها وبهجتها، أربع نسوة مكللات بالسواد خرجن معاً.. لا يعرف أي واحدة منهن شاركته عواطفه وبهجة أوقاته، وأخرجته من كفن العزلة والأحزان المثقلة إلى عالم مفتوح مليء بالانشراح. حاول بسام أن يحددها. أن يخطط ملامحها. أن يرى أصابعها.. تلك الأصابع العجيبة المليئة بأفراح الرغبة... فلم يفلح. النسوة الأربع تسللن في الظلمة، وقبل أن تشعل أضواء السينما معلنة النهاية.. تسلل فيه مكيدة أو تستر أو استحياء أو رغبة ملحة في اختيار المجهول. اندفعن إلى الخارج. استقبلهن هواء خريفي عليل، جعل من أنفاس بسام تنشد البهجة، وتطلق للروح الزهو والمسرات كلها. الأربع.. واحدة واحدة، اخترن أول سيارة للأجرة مرت أمامهن، أشرن إليها، توقفت، وعلى عجل اتكأن على مقاعدها. وقف بسام وحيداً منكسراً أمام واجهة السينما.. فيما كانت السيارة تأخذ قلبه وتعجل بالرحيل إلى المجهول. سحب قدميه أحسهما ثقيلتين، لا تريدان أن تغادرا المكان، لا تفكران في مغادرة حلم أثير. لكنهما مرغمتان على الرحيل إلى المعلوم. إلى عمل آلي... إلى استخدام سلاح الجوع المخيم على جسد هازل، وقلب سلاحه أمضى وفيه من العلة والجوع الكثير... الكثير. خطا بسام خطوة أولى. ثانية. كانت به سعادة، شحنة سعادة، وفيه انكسار يعلمه ويبحث عن سبيل لإلغائه.. فلا يفلح.. وفيه، في أعماقه طاقة إلى الخروج كلياً من طفولة تتقطر... إلى شيخوخة يندفع موجها بقوة فرحة
خمسون عاماً من الاحتراق والترقب والجوع.. سلسلة طويلة من الأسى العميق.. كلها مضت، صارت إرثاً، لا هو يفخر به.. ولا الفخر على تماس معه. فهل يطفئ نظرات الجوع بالتستر الأبدي.
هذا ما لاطاقة له به.. مايحرص على تغييره... مايريده ألا يظل هذا الجوع الأثري يعتمل به، ويحقق انتصاراته عليه، كأنما يحفر وشماً أزلياً فوق جلده وفي أعماق قلبه.
كانت أسلحة الجوع تنخر في أنحاء جسده. كان جسده عليلاً.. كل أطباء الدرجة العاشرة في المستشفيات العامة، أقروا بأنه يشكو من سوء التغذية.. وبناء على ذلك قدمت له المدرسة القحطانية حبوب دهن السمك ووجبة فطور.. وملابس شتائية.
ونشأ الطفل الذي صار في الخمسين، نشأة عوز وهموم ثقيلة، ومسؤوليات أسرية، لها أول وليس لها آخر.
... كانت طفولته مغلقة... مجهولة، عالماً سرياً لم يعرفه أبداً.. كان يحس بالشيخوخة وهو يعمل، وهو يسير واضعاً أصابع يديه في حالة تشابك مستمر.. محمولة فوق ظهره... حتى انحنى.. حتى قيل له: أحدب نوتردام، حتى لم يعد اللقب يؤذيه، وإنما يتباهى به، رجلاً يقتحم ويعمل ويتقدم..
كل شيء قابل للتأجيل.. إلا سلاح الجوع هذا.. هذا.. هذا.. هذا الذي يحاصره هو شخصياً، يحاصر ترف الشاي المحلى بالسكر، يحاصر رغيف الخبز الأبيض... مثلما يحاصر هواء نقياً يظل دائم البحث عنه...
يحاصر كل أسرته... واحداً واحداً وواحدة واحدة.. ولم تكن القحطانية، المدرسة التي توازن خجل الجوع... مع خجل أكبر ينوء تحت ثقله... لا أهل لبني قحطان. جذوره مقطوعة معهم. قحطان وشم في الذاكرة، وقحطان مدرسة تقف أبوابها، وقحطان مبنى قابل للسرقة... وقحطان... قحطان نقوش منسية... لاسبيل لابن الحليب الملوث إليها، ولا سبيل لشيخوخة الخمسين الركون إلى تاريخها الآفل حتى يضيء من جديد... وحتى تصبح الإضاءة مستحيلة كذلك.
... ومرت الطفولة... قطرة، قطرة.
ومرت العافية.. قطرة، قطرة.
وعبرت ابتسامة خجلة على الشفتين... مثل سحابة عابرة.
وجاءت الراحة بهدوء، كأنما تستحي أن تستقر في الجسد الطفولي القحطاني.... فراحت تتخفى، كأنما تستر عريها، كأنما تخشى أن تعاقب بعد أن دخلت الممنوعات وتجاوزت الخطوط الحمراء.. ذلك أنها وجدت لسواه من خلق الله. لسواه من هذا الكوكب، وسواه حسب جدير بالراحة...
فلا الراحة أراحته... ولا راحته استقرت واتكأت.. لتأخذ قسطاً من الأنفاس المريحة... لتأخذه إلى شواطئ متخيلة.... إلى أحلام بعمر الورد وعطره وبسمته وانشراحه.
القطرة الأولى من الراحة... مرت هكذا:
تأكد بسام محتويات جيوبه في ملابسه الرثة التي ابتاعها من سوق الأرامل... بعد أن مرت على أجساد سبقته، ومناخات متقلبة...وروائح عدة.
تأكد أن وجود مائة فلس تكفي لارتياد فلم الظهيرة في سينما الحمراء، وتناول قدحاً من الشاي... هذا يكفي في حالة إلغاء حاجته إلى سيارة تنقله إلى بيته وإلى صمونة ساخنة بوجه أشقر محمر اللون... بهي الطلعة. ستقوده قدماه إلى البيت. في البيت سيرضى كعادته برغيف من الرقاق.. فلا يمكن لنقوده أن يأخذ كفايته منها حسبما يشتاق لها فؤاده.
حسبه أن يرضى، يقتسم الموجود، ولا يفرط به، ولا يغالي في نجله الموصلي المعتق.
تسلل إلى دار سينما الحمراء بكبرياء، كأنما يغامر بشجاعته كلها دفعة واحدة، كأنما يريد أن يقتحم عتب نفسه عليه... فما حاجته إلى سينما الحمراء ببطن خاوية...
لكنه قرار اتخذه ولابد من تنفيذه.. غير أن الابتسامة التي رسمها فوق شفتيه انطفأت، عندما قيل له:
-بطاقات الأربعين... نفدت.
فهل يعود بعد عزم اتخذه لمشاهدة الفلم، ويخرج من صف طويل من المتفرجين.. عليه أن يحسم الأمر...؟!
-فليكن... أعطني بطاقة الستين.
وتسلمها بانكسار، كأنما اغتيلت أمانيه في الخطوة الأولى... وعليه أن يحتمل ولا يتراجع ولا يعاني من ندم.
اقتحم الظلمة... وتقدم أمامه حامل الضوء. دالاً إياه إلى المكان.. جلس على مقعد وثير... وارتاح التعب القديم... استرخى على الكرسي.. وبسط ذراعيه يميناً ويساراً.. وفوجئ... فوجئ برقة لم يعهدها من قبل.. لم يكن خشباً.. ولم يكن قطعة حديد أو جلد.. أو من اللدائن.
شيء فيه طراوة ونعومة ودفء... انتقل إلى جسده كتيار كهربائي. سحب يده.. مدها ثانية... هذه المرة أحس بشيء ينبض في الظلمة. وأمسكت بيده يد أخرى.. ولم تكن يده الثانية على أية حال... تأكد من ذلك. تأكد أن يداً حنونة، حدد حنانها وألفتها حين لامست يده... فسرت نشوة غريبة في جسده... لم يعرفها من قبل. وشغل باليد الأخرى، وأدرك الغيرة التي انتابت يده الثانية، فاستسلم لرجائها وتوسلاتها وطلبها الملح في احتضان تلك النشوة التي بعثت بها تلك اليد الحنونة...
كانت اليد نائمة بهدوء بين صف من أصابعه الخشنة. وخاف على النعومة أن تنتقل الخشونة إليها... وخاف من خوفه. أراد أن ينهض... غير أن لاصقاً عجيباً كان يشده إلى المقعد.
كانت اليد بيضاء، ملمسها ناعم. شفافة كزجاج كريستالي.
هكذا رسمها في خياله وهكذا اطمأن إليها ودعاها إلى مهرجان نفسه الذي أقامه خصيصاً لها، لها دون سواها.
كانت مشاهد الفيلم تمضي والحوار يستمر فيه همس وفيه أصوات عالية كانت تتداخل مع الموسيقى.. وبسام لا يحس بسوى الألفة العجيبة التي تتجمع داخل أصابعه.
وحاول أن يرى وجه النعومة أن يرى القلب الطافح بالبشر والفرح والدعوة التي تستبيح غزل الأصابع.. واندفاعها العارم... إلا أن رغبته تلك أخفقت، فقد أخفت الأنوثة معالم وجهها بإزار أسود.. مع ثلاث نسوة شكلن بكل إزار حاجزاً بينهن وبين العالم المحيط بهن. ولون بسام وجه الأنثى التي لايحجزها عنه سوى فاصل المقعد.
قال: عيناها بلون البحر الأكثر زرقة، شعرها اكتسب رائحة الحناء التي يحبها. بشرتها برونزية. من ألقها بدأ النحت وجلاله... تكوينات جسدها من رخام، له مقاييس وتفاصيل وانحناءات وبروزات مثيرة.
وأصابعها... أصابعها الملائكية، تزهو بين أصابعه.. أصابع عشرة، متحدة، متآلفة.. تعزف معها، وتغني وترقص وتلون بهجة الحياة.. ترسم عالمها الخاص.. تحاور الأصابع الأخرى.. أصابعه..
لأصابعه أسرارها، لأصابعها أسرارها.. للأصابع العشرة رغباتها الملحة المندفعة العارمة... التي راحت تغزل بعضها، وتغار وتستجيب وتتشهى... و.. وتطفئ لظى الحرمان وجنون الممنوع.... ثم تستوي باعتدال. تستريح لفترة وجيزة... وتعود لتمارس رغبة ملحة... وجوع قديم إلى استخدام سلاح غزل مجنون وعارم، طلق الجوع السحيق للمعدة، مختاراً إشباع جوع لاحق، وسلاحاً أمضى اسمه سلاح الغزل.. يصرخ بصمت، ويلح بقوة ولهفة مكتومة.. يؤكد الاندفاع.. ويرى الاستجابة متفقة معه... مستجيبة له... فيمضي مع تلك الاستجابة إلى أقصى مداها... ومداها لا حدود لها.
ومضى الوقت عاجلاً، لم يحس بسام به، وإن كان في دخيلة نفسه يدرك أن حلمه السعيد هذا يتوجه نحو النهاية.
جاءت النهاية خجلة، مثل شمس لاتريد أن تطفئ ضوءها وبهجتها، أربع نسوة مكللات بالسواد خرجن معاً.. لا يعرف أي واحدة منهن شاركته عواطفه وبهجة أوقاته، وأخرجته من كفن العزلة والأحزان المثقلة إلى عالم مفتوح مليء بالانشراح.
حاول بسام أن يحددها. أن يخطط ملامحها. أن يرى أصابعها.. تلك الأصابع العجيبة المليئة بأفراح الرغبة... فلم يفلح.
النسوة الأربع تسللن في الظلمة، وقبل أن تشعل أضواء السينما معلنة النهاية.. تسلل فيه مكيدة أو تستر أو استحياء أو رغبة ملحة في اختيار المجهول. اندفعن إلى الخارج. استقبلهن هواء خريفي عليل، جعل من أنفاس بسام تنشد البهجة، وتطلق للروح الزهو والمسرات كلها.
الأربع.. واحدة واحدة، اخترن أول سيارة للأجرة مرت أمامهن، أشرن إليها، توقفت، وعلى عجل اتكأن على مقاعدها.
وقف بسام وحيداً منكسراً أمام واجهة السينما.. فيما كانت السيارة تأخذ قلبه وتعجل بالرحيل إلى المجهول.
سحب قدميه أحسهما ثقيلتين، لا تريدان أن تغادرا المكان، لا تفكران في مغادرة حلم أثير. لكنهما مرغمتان على الرحيل إلى المعلوم. إلى عمل آلي... إلى استخدام سلاح الجوع المخيم على جسد هازل، وقلب سلاحه أمضى وفيه من العلة والجوع الكثير... الكثير.
خطا بسام خطوة أولى. ثانية. كانت به سعادة، شحنة سعادة، وفيه انكسار يعلمه ويبحث عن سبيل لإلغائه.. فلا يفلح..
وفيه، في أعماقه طاقة إلى الخروج كلياً من طفولة تتقطر... إلى شيخوخة يندفع موجها بقوة فرحة