كانت الصالة على أتم الهدوء، لولا صوت التلفاز الخافت، لحظة سماعي نداءً واضحاً، تصورت أول الأمر أن ما أسمعه ضربٌ من الخيال، أو نوعٌ من الترددات، التي تمتد أحياناً في الرأس تاركة ظلالها. ويصادف انبعاثها هذا في الشارع أو عند دخولي البيت، حيث أترك الظلمة تطلق أشباحها خلفي لتطاردني، إذ أسمع أصواتاً مختلفة وحوارات صافية، ذات إيقاع خاص يطلقها الأصدقاء.. وكثيراً من الأحيان أسمع من يناديني باسمي.. وما سمعته مساء ذلك اليوم. لهو أكبر من النداء، بل هو نوع من التحذير من السقوط في الهاوية، فتجمدت أعصابي، ثم أخذت بالتوتر وإصدار الذبذبات المضطربة، ذات الرنين القوي، كذلك ازدادت ضربات قلبي. لكني سرعان ما استعدت قدرتي على التركيز، وأنا أواصل ترك المكان واجتياز المسافة إلى البيت ولا يختصر هذا الوهم على الليل دون النهار ولا النهار دون الليل فقط.. إنه نداء غير محدد بزمان معين، كما لاحظت في ذلك اليوم، حيث أصغيت ملياً حتى ملأ أُذني النداء واضحاً.. وائل.. وائل.. فأصغيتُ، إذ تكرر النداء ثم قصدت غرفة المطبخ، معتقداً أن زوجي تناديني، لم تبال حين شاهدتني.. تأكدتُ أن الأصوات لا تنطلق منها، بل من زوايا خفية، إذ قصدتُ إلى الصالة، مواصلاً مشاهدة مايعرضه التلفاز، لكن سرعان ما زاد من نبرات مفعمة بالتوسل والتوالي.... وائل.. وائل.. اترك كل شيء.. نهضت على الفور استجابة للذهول الذي أحدثه الصوت في نفسي، وكبلني بالقلق، حيث دخلت المطبخ مرة أخرى، مبادراً بالقول: - ماهذه اللعبة يا أم ياسر..؟! التفتت نحوي مستغربة: - لعبة..؟! هل عرض التلفاز مثل ذلك..؟ - التلفاز..؟ مالنا وماله، أقصد نداءك عليّ إذ كررته للمرة الثانية؟! - لم أنادك..! - بل ناديتني أول الأمر بحيث قصدتك، لكني عدت إلى الصالة... - وبعد؟ - كررتي النداء والتوسل؟! - لم أنادك صدقني. قلت متداركاً: - ربما غير أني تصورت ذلك. لكن ما إن أسقطت جسدي على المسطبة، حتى سارع النداء والتردد والتكرار، غير أنه في هذه المرة، كان على درجة من التوسل، رحت أنصت إليه، وأترك مكاني، متسقطاً مصادره، كان الصوت يأتيني من الأعلى يجتاز السلالم بهدوء أصغيتُ جيداً إلى انثياله، وأنا أسير على أطراف أصابعي مرتقياً السلم درجةً درجة، مدركاً النداء المتكرر، أحني جسدي متصوراً أني ربما أدرك كل شيء خفية، وحين دخلتُ غرفة المكتبة، تأكدتُ أنه ينبعث منها. أنرت المصباح على عجل، فداهمني الصمت.. صمت قاتل بعد أن ازداد النداء، وألح عليّ كثيراً، ورحتُ أنصت بدقة وتراخ متناهيين. كان للفراغ صوت الهسيس، كما لو أنه ينم عن دبيب حشرات على قطع صفيح، أطفأت المصباح، ثم عدتُ حيثُ هبطتُ السلّم. هذا ماحدث في مساء أحد الأيام، ثم توالت الأيام، وكثرت النداءات وتعددت حركات التسلل والحذر، وأنا أحاول إدراك المصادر إلى الأعلى، كنت أتسلل، كما لو بدا لي أنه ينبعث من مصادر تثير الاستغراب والريبة والظنون كنت أترك مكاني رغم وجود أبنائي وزوجي، قاصداً على عجالة إلى الغرفة العلوية سريعاً، ثم بدأ التحرك خلفي ومراقبة كل شيء، خاصة حركاتي التي ازدادت عن الحد المعقول،وقتها قالت زوجتي: - ماذا حدث..؟! - نداءات.. - أية نداءات...؟! - أسمع من يناديني من الغرفة العلوية.. - لا يوجد شيء من هذا.. لا صوت سوى مايبثه التلفاز.. - أيعقل هذا..؟! ثم حدقت بأبنائي، إذ تحولت صفحة وجهها إلى صفرة غبراء، وانكماش مقرف أعادت النظر نحوي مرددة: - لاشيء، إطمئن يا أبا ياسر لاشيء من هذا - كيف..؟ وماهذه الأصوات التي تدركني في كل وقت. - أوهام. وأنت متعب جداً. - أبداً. لا أشعر بذلك. - خذ لك قسطاً من الراحة أفضل. - كيف يحصل أن يكرر النداء نفس الرجاء مني..؟! ومن يومها ابتدأت المفارقات، فلا هم يصدقونني، ولا ينوي أحد ذلك، فهم يستنكرون ما أسمعه من أصوات لكنهم يشاركوني الصعود والإصغاء، حيث كانت الحصيلة، عدم اقتناعهم بذلك: وأكدوا بعد عجزهم عن الصعود معي والتعرض للمفاجآت ثم الهبوط المتوالي، مؤكدين أن هذا محض وهم لا غير.. وعندما ازداد الإلحاح عليّ من الأصوات، اقتادوني إلى عيادة الطبيب. لغرض عرض حالتي عليه. ولم تجد حالة الرفض مني أية فائدة، حتى رضخت وأقنعت نفسي، أنه ربما تكون الأصوات ضرباً من الأوهام من فرط المخيلة، بحيث يستطيع الطبيب إزاحتها من رأسي وزرع مايمكن أن يكون بديلاً عنها، ولكن لا أنا اقتنعت بما ذكر وسط الأسئلة والاستفسارت، ولا أحد منهم استقر على تفسير حالتي تلك، فقط عدد من الحوارات والاستنزاف في الكلام، إذ ازداد صمتي إثر المهدئات والعقاقير، وكثرت النداءات، والذي تغير هو قدرتي على الاستجابة لها، كنت أقصد مصادرها بهدوء أعصاب، وارتخاء جسد، كما لو أني أؤدي حركات بطيئة للتصوير، أرى كل شيء، وأسمع كل الأصوات، وأتخيلها تأتي عبر خيط له تعرجات الخطوط البيانية بسيرها المتواصل، وذبذباتها المتوالية، إذ تمنيت إدراك كل صوت ولو على هذا البطء الذي كبلتني به المهدئات، وأصوات الأصدقاء الذين ودعوني. صوت أمي وأبي، يطلبون العودة والصعود نحوهم، وينعتوني بالعقوق والعجرفة، وبأني انضويت مع العصر وحركة الحياة، وتركت الأحباب. وإزاء ذلك ازداد خوفي وبكائي داخل الغرفة. أبكي مثلما كنت شاعراً بالألم والوجع، وهم يراقبونني متوسلين أن أترك هذه الحالة، التي أقلقتهم كثيراً وأتعبتهم، ثم أبعدت عنهم الاستقرار، ولم أستجب إلاّ إلى النشيج والبكاء، والذهول، والانقياد إلى الأعلى حيث الأصوات والنداءات، فقرروا مراجعة عيادة الطبيب، وأنا أحس أن جسدي أخذ يتشرب بالنداءات وصداها، أخذ يزيد التوقد في دمي، ويدفعني إلى ترك المنزل، والخروج إلى البحث عنهم، ولكني انقدت بسهولة معهم إلى الطبيب، إذ نظر نحوي متفحصاً إياي عن بعد، حيث قال: - ما الذي سمعته عنك يا أستاذ.؟! - ماذا سمعت..؟! - سمعتُ مايدل على عدم تعاونك معي لإزالة تلك الأوهام. - الأوهام..؟! - نعم الأصوات، ماهي إلاّ أوهام علينا إزالتها من رأسك وهذا يتوقف على تعاونك معنا. - إنها ليست أوهام، ولا يسمعها إلاّ أنا، وهذا ليس ذنبي. - هذا ماتتصوره أنت. - وماذا تريد غير تصوري..؟! - ليس كل ما تتصوره حقيقة، بل إن كل شيء من فرط مخيلتك، ومن عظم المرض. - هذا هو الوهم، إنك أيضاً تسقط نفسك في الوهم. حدّق بي ملياً. كبت انفعاله، ثم دار حديث طويل معه، لحظتها أطرق إلى الأسفل، ثم طلب مني النهوض والجلوس على كرسي محاط بالمجسات والأطواق، لاحظت زوجي ذلك، وهي ترتعش. نسيت كل شيء أولاً، وافترضت أن من واجبه العمل حيث أحاطني بالأطواق، مبتعداً عني، ولا أدري كم من الوقت مضى وأنا على هذا التكبيل، سوى جسدي وهو يستجيب لارتعاشات متتالية. وخوار أفقدني السيطرة. وحين أفقت أدركتُ أن شيئاً ماقد أفرغ من رأسي. وأني مارست حمل أطنان من الحديد من مكان إلى آخر، ولعابي كالزبد يحيط بظاهر فمي. سحبت زوجتي منديلاً ونظفته، خرجت معها كالسجين، تقودني إلى خارج غرفة الطبيب هكذا، مشيعاً من الجميع في الصالة، حيث كنت أتلقف الهواء بلهفة، كما لو أني كنتُ داخل قبو مليء بالدخان والغبار الخانق. ملأت رئتي بالهواء النقي، وازدادت سيطرتي على جسدي، بعد أن انفضت الأصابع التي كبلتني قبل قليل. مستعيداً وعيي، مردداً مع نفسي، الأصوات كانت حقيقة، نعم حقيقة، وماقام به الطبيب، إلاّ استنهاضها فقط، وكم كان بودي أن أعود لعيادة الطبيب، وأداهم الغرفة ثم أصرخ في وجهه مردداً: إن الأصوات لم تكن أوهاماً، وأنا أسمعها من بعيد أو قريب ولا يبعدني عنها أي علاج أو سلوك، وهي ليست حالة مرضية. مطلقاً. وإذا سألني من أين تنبعث هذه الأصوات والنداءات؟! سأقول له إنها تأتيني كالخرير العذب من الغرفة العلوية حيث تستقر كتبي. وربما يقول : ترى من يطلقها إليك..؟! فأجيب: إنهم الأصدقاء أيها الطبيب. فيقف مستدركاً أمري.. لحظتها أدركه بأعلى صوتي مردداً، فيزداد ذهوله لحقائقي وصراحتي وبكائي، وقد يتعجل القول ويزداد اضطراباً... ويسأل كيف؟! هل يعقل هذا؟!.. فأذكر : يعقل أيها الطبيب ولِمَ لا يعقل، فإن لي حكايتي مع هذه الأصوات التي لا تسمعها أنت ولا غيرك مطلقاً، أنتم لا تدركون سرها ومكامن انبعاثها، ربما تنبعث من داخلي محلقة كالطيور لتعيد النداء لي للحاق بها بعيداً، نحو الفضاءات المفتوحة، إذ نسيت أن أذكر لك ياسيدي. أن ماينبعث من أصوات هو من غرفتي العلوية، ومن بين اتكاءات الكتب التي استقرت على رفوف من الخشب هيأتها يداي هاتان، عملتها من خشب مدمى أيها الطبيب، من قطع أعرف مصادرها وتواريخها، وأحداثها، وأسرار أصحابها واحداً واحداً..كنت أقرأها، إنها قطع من خشب توابيت الشهداء؛ أسرّة رقودها. فهل يعقل أن أكون مريضاً..؟! وهل تصدق أن هذه القطع لا تحتفظ بأصواتهم بعد أن رقدت أجسادهم طويلاً داخلها..؟؟
كانت الصالة على أتم الهدوء، لولا صوت التلفاز الخافت، لحظة سماعي نداءً واضحاً، تصورت أول الأمر أن ما أسمعه ضربٌ من الخيال، أو نوعٌ من الترددات، التي تمتد أحياناً في الرأس تاركة ظلالها. ويصادف انبعاثها هذا في الشارع أو عند دخولي البيت، حيث أترك الظلمة تطلق أشباحها خلفي لتطاردني، إذ أسمع أصواتاً مختلفة وحوارات صافية، ذات إيقاع خاص يطلقها الأصدقاء.. وكثيراً من الأحيان أسمع من يناديني باسمي.. وما سمعته مساء ذلك اليوم. لهو أكبر من النداء، بل هو نوع من التحذير من السقوط في الهاوية، فتجمدت أعصابي، ثم أخذت بالتوتر وإصدار الذبذبات المضطربة، ذات الرنين القوي، كذلك ازدادت ضربات قلبي. لكني سرعان ما استعدت قدرتي على التركيز، وأنا أواصل ترك المكان واجتياز المسافة إلى البيت ولا يختصر هذا الوهم على الليل دون النهار ولا النهار دون الليل فقط..
إنه نداء غير محدد بزمان معين، كما لاحظت في ذلك اليوم، حيث أصغيت ملياً حتى ملأ أُذني النداء واضحاً.. وائل.. وائل.. فأصغيتُ، إذ تكرر النداء ثم قصدت غرفة المطبخ، معتقداً أن زوجي تناديني، لم تبال حين شاهدتني.. تأكدتُ أن الأصوات لا تنطلق منها، بل من زوايا خفية، إذ قصدتُ إلى الصالة، مواصلاً مشاهدة مايعرضه التلفاز، لكن سرعان ما زاد من نبرات مفعمة بالتوسل والتوالي.... وائل.. وائل.. اترك كل شيء.. نهضت على الفور استجابة للذهول الذي أحدثه الصوت في نفسي، وكبلني بالقلق، حيث دخلت المطبخ مرة أخرى، مبادراً بالقول:
- ماهذه اللعبة يا أم ياسر..؟!
التفتت نحوي مستغربة:
- لعبة..؟! هل عرض التلفاز مثل ذلك..؟
- التلفاز..؟ مالنا وماله، أقصد نداءك عليّ إذ كررته للمرة الثانية؟!
- لم أنادك..!
- بل ناديتني أول الأمر بحيث قصدتك، لكني عدت إلى الصالة...
- وبعد؟
- كررتي النداء والتوسل؟!
- لم أنادك صدقني.
قلت متداركاً:
- ربما غير أني تصورت ذلك.
لكن ما إن أسقطت جسدي على المسطبة، حتى سارع النداء والتردد والتكرار، غير أنه في هذه المرة، كان على درجة من التوسل، رحت أنصت إليه، وأترك مكاني، متسقطاً مصادره، كان الصوت يأتيني من الأعلى يجتاز السلالم بهدوء أصغيتُ جيداً إلى انثياله، وأنا أسير على أطراف أصابعي مرتقياً السلم درجةً درجة، مدركاً النداء المتكرر، أحني جسدي متصوراً أني ربما أدرك كل شيء خفية، وحين دخلتُ غرفة المكتبة، تأكدتُ أنه ينبعث منها. أنرت المصباح على عجل، فداهمني الصمت.. صمت قاتل بعد أن ازداد النداء، وألح عليّ كثيراً، ورحتُ أنصت بدقة وتراخ متناهيين. كان للفراغ صوت الهسيس، كما لو أنه ينم عن دبيب حشرات على قطع صفيح، أطفأت المصباح، ثم عدتُ حيثُ هبطتُ السلّم. هذا ماحدث في مساء أحد الأيام، ثم توالت الأيام، وكثرت النداءات وتعددت حركات التسلل والحذر، وأنا أحاول إدراك المصادر إلى الأعلى، كنت أتسلل، كما لو بدا لي أنه ينبعث من مصادر تثير الاستغراب والريبة والظنون كنت أترك مكاني رغم وجود أبنائي وزوجي، قاصداً على عجالة إلى الغرفة العلوية سريعاً، ثم بدأ التحرك خلفي ومراقبة كل شيء، خاصة حركاتي التي ازدادت عن الحد المعقول،وقتها قالت زوجتي:
- ماذا حدث..؟!
- نداءات..
- أية نداءات...؟!
- أسمع من يناديني من الغرفة العلوية..
- لا يوجد شيء من هذا.. لا صوت سوى مايبثه التلفاز..
- أيعقل هذا..؟!
ثم حدقت بأبنائي، إذ تحولت صفحة وجهها إلى صفرة غبراء، وانكماش مقرف أعادت النظر نحوي مرددة:
- لاشيء، إطمئن يا أبا ياسر لاشيء من هذا
- كيف..؟ وماهذه الأصوات التي تدركني في كل وقت.
- أوهام. وأنت متعب جداً.
- أبداً. لا أشعر بذلك.
- خذ لك قسطاً من الراحة أفضل.
- كيف يحصل أن يكرر النداء نفس الرجاء مني..؟!
ومن يومها ابتدأت المفارقات، فلا هم يصدقونني، ولا ينوي أحد ذلك، فهم يستنكرون ما أسمعه من أصوات لكنهم يشاركوني الصعود والإصغاء، حيث كانت الحصيلة، عدم اقتناعهم بذلك: وأكدوا بعد عجزهم عن الصعود معي والتعرض للمفاجآت ثم الهبوط المتوالي، مؤكدين أن هذا محض وهم لا غير.. وعندما ازداد الإلحاح عليّ من الأصوات، اقتادوني إلى عيادة الطبيب. لغرض عرض حالتي عليه. ولم تجد حالة الرفض مني أية فائدة، حتى رضخت وأقنعت نفسي، أنه ربما تكون الأصوات ضرباً من الأوهام من فرط المخيلة، بحيث يستطيع الطبيب إزاحتها من رأسي وزرع مايمكن أن يكون بديلاً عنها، ولكن لا أنا اقتنعت بما ذكر وسط الأسئلة والاستفسارت، ولا أحد منهم استقر على تفسير حالتي تلك، فقط عدد من الحوارات والاستنزاف في الكلام، إذ ازداد صمتي إثر المهدئات والعقاقير، وكثرت النداءات، والذي تغير هو قدرتي على الاستجابة لها، كنت أقصد مصادرها بهدوء أعصاب، وارتخاء جسد، كما لو أني أؤدي حركات بطيئة للتصوير، أرى كل شيء، وأسمع كل الأصوات، وأتخيلها تأتي عبر خيط له تعرجات الخطوط البيانية بسيرها المتواصل، وذبذباتها المتوالية، إذ تمنيت إدراك كل صوت ولو على هذا البطء الذي كبلتني به المهدئات، وأصوات الأصدقاء الذين ودعوني. صوت أمي وأبي، يطلبون العودة والصعود نحوهم، وينعتوني بالعقوق والعجرفة، وبأني انضويت مع العصر وحركة الحياة، وتركت الأحباب. وإزاء ذلك ازداد خوفي وبكائي داخل الغرفة. أبكي مثلما كنت شاعراً بالألم والوجع، وهم يراقبونني متوسلين أن أترك هذه الحالة، التي أقلقتهم كثيراً وأتعبتهم، ثم أبعدت عنهم الاستقرار، ولم أستجب إلاّ إلى النشيج والبكاء، والذهول، والانقياد إلى الأعلى حيث الأصوات والنداءات، فقرروا مراجعة عيادة الطبيب، وأنا أحس أن جسدي أخذ يتشرب بالنداءات وصداها، أخذ يزيد التوقد في دمي، ويدفعني إلى ترك المنزل، والخروج إلى البحث عنهم، ولكني انقدت بسهولة معهم إلى الطبيب، إذ نظر نحوي متفحصاً إياي عن بعد، حيث قال:
- ما الذي سمعته عنك يا أستاذ.؟!
- ماذا سمعت..؟!
- سمعتُ مايدل على عدم تعاونك معي لإزالة تلك الأوهام.
- الأوهام..؟!
- نعم الأصوات، ماهي إلاّ أوهام علينا إزالتها من رأسك وهذا يتوقف على تعاونك معنا.
- إنها ليست أوهام، ولا يسمعها إلاّ أنا، وهذا ليس ذنبي.
- هذا ماتتصوره أنت.
- وماذا تريد غير تصوري..؟!
- ليس كل ما تتصوره حقيقة، بل إن كل شيء من فرط مخيلتك، ومن عظم المرض.
- هذا هو الوهم، إنك أيضاً تسقط نفسك في الوهم.
حدّق بي ملياً. كبت انفعاله، ثم دار حديث طويل معه، لحظتها أطرق إلى الأسفل، ثم طلب مني النهوض والجلوس على كرسي محاط بالمجسات والأطواق، لاحظت زوجي ذلك، وهي ترتعش. نسيت كل شيء أولاً، وافترضت أن من واجبه العمل حيث أحاطني بالأطواق، مبتعداً عني، ولا أدري كم من الوقت مضى وأنا على هذا التكبيل، سوى جسدي وهو يستجيب لارتعاشات متتالية. وخوار أفقدني السيطرة. وحين أفقت أدركتُ أن شيئاً ماقد أفرغ من رأسي. وأني مارست حمل أطنان من الحديد من مكان إلى آخر، ولعابي كالزبد يحيط بظاهر فمي. سحبت زوجتي منديلاً ونظفته، خرجت معها كالسجين، تقودني إلى خارج غرفة الطبيب هكذا، مشيعاً من الجميع في الصالة، حيث كنت أتلقف الهواء بلهفة، كما لو أني كنتُ داخل قبو مليء بالدخان والغبار الخانق. ملأت رئتي بالهواء النقي، وازدادت سيطرتي على جسدي، بعد أن انفضت الأصابع التي كبلتني قبل قليل. مستعيداً وعيي، مردداً مع نفسي، الأصوات كانت حقيقة، نعم حقيقة، وماقام به الطبيب، إلاّ استنهاضها فقط، وكم كان بودي أن أعود لعيادة الطبيب، وأداهم الغرفة ثم أصرخ في وجهه مردداً: إن الأصوات لم تكن أوهاماً، وأنا أسمعها من بعيد أو قريب ولا يبعدني عنها أي علاج أو سلوك، وهي ليست حالة مرضية. مطلقاً. وإذا سألني من أين تنبعث هذه الأصوات والنداءات؟! سأقول له إنها تأتيني كالخرير العذب من الغرفة العلوية حيث تستقر كتبي. وربما يقول : ترى من يطلقها إليك..؟! فأجيب: إنهم الأصدقاء أيها الطبيب. فيقف مستدركاً أمري.. لحظتها أدركه بأعلى صوتي مردداً، فيزداد ذهوله لحقائقي وصراحتي وبكائي، وقد يتعجل القول ويزداد اضطراباً... ويسأل كيف؟! هل يعقل هذا؟!.. فأذكر : يعقل أيها الطبيب ولِمَ لا يعقل، فإن لي حكايتي مع هذه الأصوات التي لا تسمعها أنت ولا غيرك مطلقاً، أنتم لا تدركون سرها ومكامن انبعاثها، ربما تنبعث من داخلي محلقة كالطيور لتعيد النداء لي للحاق بها بعيداً، نحو الفضاءات المفتوحة، إذ نسيت أن أذكر لك ياسيدي. أن ماينبعث من أصوات هو من غرفتي العلوية، ومن بين اتكاءات الكتب التي استقرت على رفوف من الخشب هيأتها يداي هاتان، عملتها من خشب مدمى أيها الطبيب، من قطع أعرف مصادرها وتواريخها، وأحداثها، وأسرار أصحابها واحداً واحداً..كنت أقرأها، إنها قطع من خشب توابيت الشهداء؛ أسرّة رقودها. فهل يعقل أن أكون مريضاً..؟! وهل تصدق أن هذه القطع لا تحتفظ بأصواتهم بعد أن رقدت أجسادهم طويلاً داخلها..؟؟