بعد جهد طويل، تم حصولي على عمل. ولحظة أشار أحدهم إلى مكان شاغر في مدينة الالعاب بالإمكان إشغاله من قبلي. فرحت أيما فرح، ليس فقط بسبب البطالة وقهرها، وثقل زمنها الرصاصي الذي ينسكب كالنار في كل خلية تنبض في جسدي، بل ترتب هذا الأمر على صورة أصبحت حاجزاً ، وقطيعة مرّة، بين الحياة وبيني. أية مرارة حصدتها جرّاء ذلك الجدار الذي انتصب أمامي؟! بل مجموعة من الجدران ذات الألوان المتباينة، والمتداخلة بعضها مع بعضها. كأنها تصب في ذات اللون الأسود. لها حركة من ألوان متموجة، قاتمة، استطاعت أن تذل كبريائي، في زمن يصعب العيش في دائرته بكرامة تامة، غير أني استطعت أن أتماسك معلناً لنفسي، ماترسب وبقي عندي من أفكار أعانتني على الوقوف. وهي بمثابة الترسبات المتبقية في قاع الذاكرة. فكثير من الأصدقاء والمعارف أكدوا في مجالسهم تعطيل هذا الجانب الأخلاقي، ووضعه على الرف، ثم الدخول إلى معترك الحياة بلغة وهيئة أخرى مغايرة ومناسبة. كان إصرارهم على حقيقة توصلوا إليها، وهي: إما أن تسحقك العجلة لامحالة، أو تمنح نفسك مثل هذه التنازلات. يومها كنت متمسكاً بقيم أعتقدها ومازلت أصيلة في نفسي، وجديرة بأن تكون مناراً للدرب، وكم استغرب أحد الأصدقاء، حيث أخبرته بمشاريعي لقهر العوز.. وبأن تأجيل بعض الممارسات بات ضرورياً عندها استغرب وأخذ يلومني وقال: - لقد كان كلامك على غير هذا تماماً.. ! - الأيام يا أخي قد تراكمت ثقيلة...! - والقيم التي عرفتها عندك..؟! - كلا، إنها باقية، أنا لا ألغيها، بل من الممكن الموازنة بين هذا وذاك. لحظتها، أخذ يحدق بي باندهاش، ربما وضعني بين الخسائر الكثيرة التي قتلت الآخرين. هكذا وجدتُ نفسي محاصراً بين إلحاح زوجي، وحاجة أطفالي وأولادي، يومها هبطت من عليائي، من غرفتي العلوية، وسويت أمر كتبي ومصادري، ورفوفي المعاتبة، نحو شارع يضج بالأصوات غير المتناغمة، ولا أخفيكم سراً، أني حال دخولي إلى هذا الأتون شعرت كما لو أني كطفل يبدأ المشي، وينهض ثم يسقط- بعدها يسير الهوينا، ويسقط. كانت ثمة غصة تحتبس داخل قعر، لا أدري قراره ومكمنه في داخلي..و كم راودني اليأس والعجز، حيث يصعب العثور على عمل.. لكن لحظة سماعي بخبر عمل كهذا، سارعت إلى المدينة، محتفظاً بالورقة التي زودني بها أحدهم، كانت لحظات مليئة بالنجاح، والسهولة، فما أن دخلت إلى غرفة المدير المبرّدة، حتى استقبلني الرجل بكل احترام. وما إن أعطيته الورقة، وعرف سبب حضوري حتى زاد من احتفائه بي، مردداً استعداده لمساعدتي، مؤكداً وجود شاغر فعلاً، أستطيع العمل به. ومن يومها بدأت لحظات مازال مذاقها في فمي، مثلما بقي طعم الشاي على لساني لساعات، واكتسى جسدي ببرودة مفاجئة، وهو يواصل إنجاز أعماله الكتابية والحسابية، حيث لاحظته، يدير حاسبة يدوية بأصابعه.. التفت لي، قال: - العمل هنا يمتاز بالسهولة، وكما ترى نحن نستقبل أنواعاً من الناس، أطفالاً، وطالبي حاجة للراحة خاصة في المناسبات، إذ يزداد ازدحام الزائرين. - هذا صحيح. - لذا فالأمر يتطلب استعدادات مضاعفة، خصوصاً الاستعداد النفسي والصبر عندالعاملين. - هذا مؤكد، فالمكان يختلف عن كل مرافق الحياة، لما يتميز به من نمط إنساني. حدّق بي ملياً، وتغيرت سحنة وجهه، إذ بدت أكثر، تورداً، قال: - كم يعجبني مثل هذا القول فعلاً، أنت مصيب في كل ذلك، غير أني أدركتُ ثمة حرج يعاني منه الرجل، فقد كتم أمر العمل، ولم يفاتحني به، وصبرت كثيراً، وأنا أنتظر، حتى بدا انتظاري هذا ثقيلاً عندها سألت الرجل. - لا أدري طبيعة عملي في المدينة..؟ - ترك مابين يديه..وصمت لبرهة، ثم انبرى: - الواقع كان بودي أن يكون الشاغر في غير هذا المكان، ولكن كما تعلم، إن للضرورة أحكام. - هذا لا يهم، المهم ثمة عمل أشغله.. - إن الشاغر متوفر في جنينة الحيوانات ، سأعطيك ورقة إلى مسؤول الجنينة. قلت: - لابأس، إذ لا يهم المكان بقدر مايهم العمل نفسه.. - وها إني على استعداد للمباشرة فيه: - طيب خذها له، أرجو أن يطيب لك المكان والعمل فيه. ورحت أحملها بين أصابعي، خارجاً من برودة المكان نحو حرارة قاتلة، وبعد الاستفسار والسؤال، وصلت إلى الجنينة، لاحظت الحيوانات تدير شؤونها، داخل الأقفاص، صغيرة كانت وكبيرة نسبياً مفترسة وأليفة، ومن خلف قضبان تلك الأقفاص عثرت على باب جانبي موارب، دخلت من خلاله، استقبلني لحظتها رجل أليف الطلعة، بشّ في وجهي، دون أن يعرف قصد الزيارة. سلمته الورقة فابتسم معلقاً: - أهلاً بك، ستكون من أسرتنا هذه. قلت: - أشكرك. مما زاد في استقراري، وأبعد عني القلق، قال: - الكل في العمل الآن كما تلاحظ، ومشغولون في طبيعة عملهم، وفي أوقات يتجمعون سوية لتناول الغذاء أو شرب الماء، كل شيء متوفر هنا.. - وماطبيعة عملي أيها الأخ..؟! - ألم يخبرك المدير بذلك؟! - لا.. بل أرشدني إلى الجنينة فقط.. - الواقع أني هنا المسؤول عن هذا المكان، والكل متعاون معي، ونحن ندير شؤون الجنينة بشكل جيد ومتضامن. - وأنا على استعداد لعمل كهذا.. لحظتها دخل إلى القاعة من باب يقع في نهايته أحد القرود، كان يمشي على اثنين، اقترب محدقاً بوجهي، حياني بلغة أليفة واتجه إلى برّاد الماء، قائلاً: - الحر شديد في الخارج.. وبسرعة شعرت بالعطش. رحت أدير صورته، غير مصدق ما أرى، وربما كان الرجل يراقبني وأنا بين انقطاع حديثه ودخول القرد إلى القاعة، واقترابه من برّاد الماء، ثم عودته من الباب نفسه، كنت تائهاً ، غير مصدق، أن ماسمعته هو كلام آدمي، وليس كلام لقرد، يبدو أن الحيرة قد تلبستني، حيث انبرى الرجل مسعفاً موقفي هذا: - لا تستغرب ستراهم جميعاً. الجميع يدخلون أجسادهم في جلود جافة، ويثيرون حركات حيوانية داخل الأقفاص. لابأس في ذلك، لقمة العيش تتطلب ذلك..! وأخذ يسهب في الحديث، ومن ثم الدخول في التفاصيل التي وجدتها زائدة فهي إن حاولت إقناعي في طبيعة عملي، فإنها قد أدركت قناعاتي التي لابد منها، ضعت وسط دوامة خارج الجنينة، في الحياة الواسعة التي ضاقت أكثر من الأقفاص الحديدية تلك.. قاطعته قائلاً: - لابأس، إنه عمل على أية حال، الحمد لله على كل شيء. نظر نحوي مطمئناً إلى قناعتي الظاهرة، قال: - إن عملك سيكون داخل هذا الجلد. وأشار بإصبعه إليه كان رابضاً في زاوية غير بعيدة عنا - إنه الغوريلا، كان صاحبه رحمه الله يدخله كل يوم متجهاً نحو القفص الكبير من هذا الباب، وهو حيوان لايتطلب حركة متواصلة، بل يداعب الأولاد والأطفال، ويثير فضولهم هكذا، إنه يناسب سنك كما تلاحظ. نظرت إليه، كان غوريلا يائساً وعجوزاً، هذا الذي سأدخل جلده، وأستقر داخله عجوزاً أيضاً، ولكن بمثابة حيوان متمرس في حيوانيته، لذا فالأمر يتطلب المرونة والتدريب على حركاته وسكناته، وانتقالاته داخل القفص، وطريقة جذبه للأطفال كباراً وصغاراً، قلت في نفسي، سأتدبر الأمر، ثم نظرت إلى الرجل قائلاً: - متى سأبدأ عملي هذا..!؟ - متى شئت، ولكن الأمر يحتاج إلى بعض التمرينات التي سأرشدك إليها، فهي تكسب جسدك مرونة تساعدك. انظر إلى ماأفعله بنفسي أمامك. اقترب من هيكل الغوريلا، ثم اختفى وراء ظهره تماماً، بعدها لاحظت الحيوان تدب فيه الحياة فيتحرك في مكانه، رافعاً يديه إلى الأعلى يربت على صدره بكلتا كفيه، بعدها تحرك باتجاهي، رحت أحسب حركاته وسكناته، وهو ينتقل من مكان إلى آخر، ويقترب مني، أدار ظهره لي، وبسرعة غادر جلده بمهارة، مبتسماً، وأنا أشاركه ابتسامته، التي تحولت إلى ضحكات خافتة ورزينة. قال: - هذا كل شيء، بل مايتطلبه منك الأداء، كنت من يشغله بعد وفاة زميلنا المفاجئ: قلت: - سأكون عند حسن ظنك. ومن يومها، وأنا أختفي داخل الجلد الجاف، والذي يظهر للآخرين من خلال كثافة شعره حياً. وبعد أن أديت تمرينات عضلية، حسبتها زائدة، لكني أدركت عظمة فائدتها في حمل الجلد، والتحرك داخله بسهولة، ويسر، مما يوحي بتلقائية هذا الكائن الأليف الذي يثير الأطفال وذويهم وقد أشار الرجل بعد أن وجدته يراقبني بين الجميع المتطلع من وراء القضبان. - إنك تجيد ذلك بمهارة صديقنا الراحل. - وهذا مما يسهّل علينا الأمر. كنت أراقب الزملاء جميعاً، وهم يضجون داخل أقفاص الحديد، سواء في بدء العمل أو أثناءه، حيث يبدون حركات تطرد عن أجسادهم خمول النوم، ثم يندس كل منهم داخل جلده، ويبدون حركات من باب التدريب الصباحي أو المسائي، بعدها يغادرون كل من بابه الذي يؤدي إلى قفصه المخصص له. كانت بينهم ألفة غريبة، مزيجة من عالم الحيوان والإنسان، حيث لم أجد ثمة مايبعدني أو يفصلني عنهم ، خصوصاً ما أكدوه من أني أقوم بعملي بشكل جيد وملفت للنظر... كنتُ أداعب الأطفال و أثير فضول المارّة في الجنينة، ولا أدري هل هذا متأتي من شكلي البائس؟! أم من الحزن الذي يظهر على وجه الحيوان المسكين؟! هذا الذي أدخله كل يوم.. أم من محبتي الكبيرة للأطفال منذ كنت معلماً..؟! كل الذي أدريه، هو إلفة الأطفال وانشدادهم نحوي، مما أخافني كثيراً، إذ ربما يثير مثل هذا فضول الآخرين، داخل أقفاصهم، بحيث يبعد الأطفال عنهم، فيسري الملل والخدر إلى أجسادهم، ويطول يومهم الحار مرميّين ومحبوسين داخل أقفاص إجبارية. كان ذلك قد شغلني، لذا بدأت أقلل من حركتي، وأكثر من السكون في مكان قصي عنهم داخل القفص، منعزلاً حزيناً، عابثاً بأصابع كفي، لكن الذي أثارني وبمرور الأيام، هو شدة ارتياح عائلتي، بما يوفره لهم الأجر الأسبوعي، فاطمأنت نفسي، وخف قلقي عليهم. فحمدت الله على نعمته لكن ما أفسد عليّ طعم المذاق الحلو، هو ما أبدته زوجي، ذات يوم ودون سابق إنذار، قالت: - أرجوك اسمعني، منذ فترة وأنا أود أن أفاتحك في الأمر.. - قلت: - على راحتك، قولي ماتشتهي نفسك ولا تتهيبي، - الأطفال. - ماذا بهم.؟! - إنهم يودون زيارة المدينة، وقبل ذلك كنت أتهيب بسبب شحة المال لدينا، أما الآن والحمد لله، فأنت موظف فيها وبإمكانك اصطحابهم معك. أربكني قولها. أول الأمر، غير أني تماسكت قائلاً: - كلا، لا يمكن ذلك الآن، فمدير المدينة لا يسمح ، انتظري فترة، ريثما أُرتب الأمر. وازداد إلحاحها يوماً بعد آخر، وأنا أُدير الحديث وجهة أخرى تخلصاً من إصرارها، وبشتى الأعذار، غير أن إلحاحها، لم يفتر أو يقل، بل كانت تكرر ذلك مراراً، تحرض الأطفال على ذلك. واستمر حالي هكذا. أذهب إلى المدينة، مصطحباً معي صرة الطعام في الصباح الباكر، عائداً في ساعة متأخرة من المساء، وقد اعتدت على مثل هذا العمل، فأنا لا أمل من ملاطفة الأطفال، أُبدي لهم حركات مناسبة، وهم يقابلونني برمي قشور الفاكهة نحو جوف القفص، أو حبات الرقي ، وتكورات بذور الذرة الصفراء المطبوخة، أمد كفي إلى الأرض والتقطها، ثم أضعها في فمي، إذ تسقط داخل الجلد اليابس، فيبدي الأطفال فرحهم لمثل هذه الاستجابة الماهرة ويزداد تعلقهم بهيئتي وسلوكي معهم، وتدمع عيون أكثرهم من الفرح، غير أني سكنت فجأة داخل كيسي، وأنا أُقلب هيئات أفراد عائلتي بين الجموع . كان الأولاد جميعهم برفقة أمهم، متجهين إلى الجنينة، واللهفة بادية على وجوههم لرؤيتي، تجمدت في مكاني، ولم أستطع إطلاق حركة ما، مما لفت نظر الأطفال من حولي، حيث اندّس أولادي مع الجميع، قال أحدهم: - لقد سكن الغوريلا انظروا إليه. قال آخر: - ربما يشعر بالتعب إنه عجوز.. - حقاً، إنه غوريلا بائس، وعجوز يتعب بسرعة.. قال أحد أولادي: - إنه كبير السن يا أمي وحزين، كم أحبه هكذا. قالت الأم: - يبدو هكذا، كلنا سوف نكون مثله تماماً يوماً ما. - لكنه أكثر حزناً من الحيوانات الأخرى...؟! - ربما هو حزين على أولاده الصغار. قال الولد الكبير: - أُمي لم نشاهد أبي في الجنينة..؟ ألم يذكر المدير مكان عمله هنا..؟! ابتسمت الأم مؤنبة، ثم قالت: - كيف..؟! هل تعتقد أنك تجده داخل الأقفاص مع الحيوانات المفترسة هذه؟!! - في أي مكان يكون إذاً.؟ - في المكان المخصص لعمله، حيث يدير الجنينة. - حقاً إنه يديرها بنفسه.. كنت أراقب حركاتهم، أصغي إلى حواراتهم، وأنا بين مصدق نفسي ومكذبها، لكني صدقت، كانت مسافة قصيرة تفصلني عنهم، رمى أحدهم قشور البرتقال باتجاهي، مددتُ كفي باتجاهها، كورت أصابعي حولها ثم رفعتها من على الأرض، وأطبقت عليها بأسناني... ومضغتها فعلاً، فما زاد من ضحك الأطفال وفرحهم، قال أحدهم: - لقد استعاد العم العجوز نشاطه.. وراحوا يصفقون ويمرحون، ووجوههم تتورد، بينما أولادي يحدقون بأمهم فرحين أيضاً، تكللهم هالة من السرور، طغت على وجوههم، وهندامهم، كانوا على نظافة تامة، كذلك ملابسهم، بدرجة كبيرة سرتني كثيراً، بحيث بدت على هذا الشكل الملفت للنظر، مما زاد اطمئناني غير أني مازلت منكمشاً ومتفائلاً داخل جلدي هذا، خاصة إلحاح الصغير على رؤيتي في الجنينة وبدا تأكيدهم يزداد وأنا قلق، والجلد يتسع أكثر، في حين يبدو جسدي ضامراً شيئاً فشيئاً، كقطعة ثلج صغيرة، لثبت هكذا متوارياً، وكدت أغادر القفص لولا قول زوجتي للأولاد: - لابأس. سنتجول في المدينة، وسأريكم الألعاب فيها، ريثما ينتهي أبوكم من عمله عندها يصطحبنا إلى البيت. قال الصغير: - ماما سأطلب منه أن يريني الحيوانات عن قرب. فرح الأولاد ووافقوا على هذه الفكرة، وأنا أراقبهم وهم يتابعون مسيرهم نحو ممر طويل في المدينة، مبتعدين أكثر فأكثر، حتى تلاشوا ضمن الجموع الكثيرة، وأنا ضامر داخل جلدي الجاف، الأمر الذي يتطلب حركة تلو أخرى كاسراً جمودي المفاجئ، لأنه يوفر لي علاقة أليفة مع الأطفال والآخرين ويبعد عني الملل داخل قفصي الكبير هذا.
بعد جهد طويل، تم حصولي على عمل. ولحظة أشار أحدهم إلى مكان شاغر في مدينة الالعاب بالإمكان إشغاله من قبلي. فرحت أيما فرح، ليس فقط بسبب البطالة وقهرها، وثقل زمنها الرصاصي الذي ينسكب كالنار في كل خلية تنبض في جسدي، بل ترتب هذا الأمر على صورة أصبحت حاجزاً ، وقطيعة مرّة، بين الحياة وبيني. أية مرارة حصدتها جرّاء ذلك الجدار الذي انتصب أمامي؟! بل مجموعة من الجدران ذات الألوان المتباينة، والمتداخلة بعضها مع بعضها. كأنها تصب في ذات اللون الأسود. لها حركة من ألوان متموجة، قاتمة، استطاعت أن تذل كبريائي، في زمن يصعب العيش في دائرته بكرامة تامة، غير أني استطعت أن أتماسك معلناً لنفسي، ماترسب وبقي عندي من أفكار أعانتني على الوقوف. وهي بمثابة الترسبات المتبقية في قاع الذاكرة. فكثير من الأصدقاء والمعارف أكدوا في مجالسهم تعطيل هذا الجانب الأخلاقي، ووضعه على الرف، ثم الدخول إلى معترك الحياة بلغة وهيئة أخرى مغايرة ومناسبة.
كان إصرارهم على حقيقة توصلوا إليها، وهي: إما أن تسحقك العجلة لامحالة، أو تمنح نفسك مثل هذه التنازلات. يومها كنت متمسكاً بقيم أعتقدها ومازلت أصيلة في نفسي، وجديرة بأن تكون مناراً للدرب، وكم استغرب أحد الأصدقاء، حيث أخبرته بمشاريعي لقهر العوز.. وبأن تأجيل بعض الممارسات بات ضرورياً عندها استغرب وأخذ يلومني وقال:
- لقد كان كلامك على غير هذا تماماً.. !
- الأيام يا أخي قد تراكمت ثقيلة...!
- والقيم التي عرفتها عندك..؟!
- كلا، إنها باقية، أنا لا ألغيها، بل من الممكن الموازنة بين هذا وذاك.
لحظتها، أخذ يحدق بي باندهاش، ربما وضعني بين الخسائر الكثيرة التي قتلت الآخرين.
هكذا وجدتُ نفسي محاصراً بين إلحاح زوجي، وحاجة أطفالي وأولادي، يومها هبطت من عليائي، من غرفتي العلوية، وسويت أمر كتبي ومصادري، ورفوفي المعاتبة، نحو شارع يضج بالأصوات غير المتناغمة، ولا أخفيكم سراً، أني حال دخولي إلى هذا الأتون شعرت كما لو أني كطفل يبدأ المشي، وينهض ثم يسقط- بعدها يسير الهوينا، ويسقط. كانت ثمة غصة تحتبس داخل قعر، لا أدري قراره ومكمنه في داخلي..و كم راودني اليأس والعجز، حيث يصعب العثور على عمل.. لكن لحظة سماعي بخبر عمل كهذا، سارعت إلى المدينة، محتفظاً بالورقة التي زودني بها أحدهم، كانت لحظات مليئة بالنجاح، والسهولة، فما أن دخلت إلى غرفة المدير المبرّدة، حتى استقبلني الرجل بكل احترام. وما إن أعطيته الورقة، وعرف سبب حضوري حتى زاد من احتفائه بي، مردداً استعداده لمساعدتي، مؤكداً وجود شاغر فعلاً، أستطيع العمل به. ومن يومها بدأت لحظات مازال مذاقها في فمي، مثلما بقي طعم الشاي على لساني لساعات، واكتسى جسدي ببرودة مفاجئة، وهو يواصل إنجاز أعماله الكتابية والحسابية، حيث لاحظته، يدير حاسبة يدوية بأصابعه.. التفت لي، قال:
- العمل هنا يمتاز بالسهولة، وكما ترى نحن نستقبل أنواعاً من الناس، أطفالاً، وطالبي حاجة للراحة خاصة في المناسبات، إذ يزداد ازدحام الزائرين.
- هذا صحيح.
- لذا فالأمر يتطلب استعدادات مضاعفة، خصوصاً الاستعداد النفسي والصبر عندالعاملين.
- هذا مؤكد، فالمكان يختلف عن كل مرافق الحياة، لما يتميز به من نمط إنساني.
حدّق بي ملياً، وتغيرت سحنة وجهه، إذ بدت أكثر، تورداً، قال:
- كم يعجبني مثل هذا القول فعلاً، أنت مصيب في كل ذلك، غير أني أدركتُ ثمة حرج يعاني منه الرجل، فقد كتم أمر العمل، ولم يفاتحني به، وصبرت كثيراً، وأنا أنتظر، حتى بدا انتظاري هذا ثقيلاً عندها سألت الرجل.
- لا أدري طبيعة عملي في المدينة..؟
- ترك مابين يديه..وصمت لبرهة، ثم انبرى:
- الواقع كان بودي أن يكون الشاغر في غير هذا المكان، ولكن كما تعلم، إن للضرورة أحكام.
- هذا لا يهم، المهم ثمة عمل أشغله..
- إن الشاغر متوفر في جنينة الحيوانات ، سأعطيك ورقة إلى مسؤول الجنينة.
قلت:
- لابأس، إذ لا يهم المكان بقدر مايهم العمل نفسه..
- وها إني على استعداد للمباشرة فيه:
- طيب خذها له، أرجو أن يطيب لك المكان والعمل فيه.
ورحت أحملها بين أصابعي، خارجاً من برودة المكان نحو حرارة قاتلة، وبعد الاستفسار والسؤال، وصلت إلى الجنينة، لاحظت الحيوانات تدير شؤونها، داخل الأقفاص، صغيرة كانت وكبيرة نسبياً مفترسة وأليفة، ومن خلف قضبان تلك الأقفاص عثرت على باب جانبي موارب، دخلت من خلاله، استقبلني لحظتها رجل أليف الطلعة، بشّ في وجهي، دون أن يعرف قصد الزيارة. سلمته الورقة فابتسم معلقاً:
- أهلاً بك، ستكون من أسرتنا هذه.
- أشكرك.
مما زاد في استقراري، وأبعد عني القلق، قال:
- الكل في العمل الآن كما تلاحظ، ومشغولون في طبيعة عملهم، وفي أوقات يتجمعون سوية لتناول الغذاء أو شرب الماء، كل شيء متوفر هنا..
- وماطبيعة عملي أيها الأخ..؟!
- ألم يخبرك المدير بذلك؟!
- لا.. بل أرشدني إلى الجنينة فقط..
- الواقع أني هنا المسؤول عن هذا المكان، والكل متعاون معي، ونحن ندير شؤون الجنينة بشكل جيد ومتضامن.
- وأنا على استعداد لعمل كهذا..
لحظتها دخل إلى القاعة من باب يقع في نهايته أحد القرود، كان يمشي على اثنين، اقترب محدقاً بوجهي، حياني بلغة أليفة واتجه إلى برّاد الماء، قائلاً:
- الحر شديد في الخارج.. وبسرعة شعرت بالعطش.
رحت أدير صورته، غير مصدق ما أرى، وربما كان الرجل يراقبني وأنا بين انقطاع حديثه ودخول القرد إلى القاعة، واقترابه من برّاد الماء، ثم عودته من الباب نفسه، كنت تائهاً ، غير مصدق، أن ماسمعته هو كلام آدمي، وليس كلام لقرد، يبدو أن الحيرة قد تلبستني، حيث انبرى الرجل مسعفاً موقفي هذا:
- لا تستغرب ستراهم جميعاً. الجميع يدخلون أجسادهم في جلود جافة، ويثيرون حركات حيوانية داخل الأقفاص. لابأس في ذلك، لقمة العيش تتطلب ذلك..!
وأخذ يسهب في الحديث، ومن ثم الدخول في التفاصيل التي وجدتها زائدة فهي إن حاولت إقناعي في طبيعة عملي، فإنها قد أدركت قناعاتي التي لابد منها، ضعت وسط دوامة خارج الجنينة، في الحياة الواسعة التي ضاقت أكثر من الأقفاص الحديدية تلك.. قاطعته قائلاً:
- لابأس، إنه عمل على أية حال، الحمد لله على كل شيء.
نظر نحوي مطمئناً إلى قناعتي الظاهرة، قال:
- إن عملك سيكون داخل هذا الجلد.
وأشار بإصبعه إليه كان رابضاً في زاوية غير بعيدة عنا
- إنه الغوريلا، كان صاحبه رحمه الله يدخله كل يوم متجهاً نحو القفص الكبير من هذا الباب، وهو حيوان لايتطلب حركة متواصلة، بل يداعب الأولاد والأطفال، ويثير فضولهم هكذا، إنه يناسب سنك كما تلاحظ.
نظرت إليه، كان غوريلا يائساً وعجوزاً، هذا الذي سأدخل جلده، وأستقر داخله عجوزاً أيضاً، ولكن بمثابة حيوان متمرس في حيوانيته، لذا فالأمر يتطلب المرونة والتدريب على حركاته وسكناته، وانتقالاته داخل القفص، وطريقة جذبه للأطفال كباراً وصغاراً، قلت في نفسي، سأتدبر الأمر، ثم نظرت إلى الرجل قائلاً:
- متى سأبدأ عملي هذا..!؟
- متى شئت، ولكن الأمر يحتاج إلى بعض التمرينات التي سأرشدك إليها، فهي تكسب جسدك مرونة تساعدك.
انظر إلى ماأفعله بنفسي أمامك.
اقترب من هيكل الغوريلا، ثم اختفى وراء ظهره تماماً، بعدها لاحظت الحيوان تدب فيه الحياة فيتحرك في مكانه، رافعاً يديه إلى الأعلى يربت على صدره بكلتا كفيه، بعدها تحرك باتجاهي، رحت أحسب حركاته وسكناته، وهو ينتقل من مكان إلى آخر، ويقترب مني، أدار ظهره لي، وبسرعة غادر جلده بمهارة، مبتسماً، وأنا أشاركه ابتسامته، التي تحولت إلى ضحكات خافتة ورزينة. قال:
- هذا كل شيء، بل مايتطلبه منك الأداء، كنت من يشغله بعد وفاة زميلنا المفاجئ:
- سأكون عند حسن ظنك.
ومن يومها، وأنا أختفي داخل الجلد الجاف، والذي يظهر للآخرين من خلال كثافة شعره حياً. وبعد أن أديت تمرينات عضلية، حسبتها زائدة، لكني أدركت عظمة فائدتها في حمل الجلد، والتحرك داخله بسهولة، ويسر، مما يوحي بتلقائية هذا الكائن الأليف الذي يثير الأطفال وذويهم وقد أشار الرجل بعد أن وجدته يراقبني بين الجميع المتطلع من وراء القضبان.
- إنك تجيد ذلك بمهارة صديقنا الراحل.
- وهذا مما يسهّل علينا الأمر.
كنت أراقب الزملاء جميعاً، وهم يضجون داخل أقفاص الحديد، سواء في بدء العمل أو أثناءه، حيث يبدون حركات تطرد عن أجسادهم خمول النوم، ثم يندس كل منهم داخل جلده، ويبدون حركات من باب التدريب الصباحي أو المسائي، بعدها يغادرون كل من بابه الذي يؤدي إلى قفصه المخصص له.
كانت بينهم ألفة غريبة، مزيجة من عالم الحيوان والإنسان، حيث لم أجد ثمة مايبعدني أو يفصلني عنهم ، خصوصاً ما أكدوه من أني أقوم بعملي بشكل جيد وملفت للنظر... كنتُ أداعب الأطفال و أثير فضول المارّة في الجنينة، ولا أدري هل هذا متأتي من شكلي البائس؟! أم من الحزن الذي يظهر على وجه الحيوان المسكين؟! هذا الذي أدخله كل يوم.. أم من محبتي الكبيرة للأطفال منذ كنت معلماً..؟! كل الذي أدريه، هو إلفة الأطفال وانشدادهم نحوي، مما أخافني كثيراً، إذ ربما يثير مثل هذا فضول الآخرين، داخل أقفاصهم، بحيث يبعد الأطفال عنهم، فيسري الملل والخدر إلى أجسادهم، ويطول يومهم الحار مرميّين ومحبوسين داخل أقفاص إجبارية.
كان ذلك قد شغلني، لذا بدأت أقلل من حركتي، وأكثر من السكون في مكان قصي عنهم داخل القفص، منعزلاً حزيناً، عابثاً بأصابع كفي، لكن الذي أثارني وبمرور الأيام، هو شدة ارتياح عائلتي، بما يوفره لهم الأجر الأسبوعي، فاطمأنت نفسي، وخف قلقي عليهم. فحمدت الله على نعمته لكن ما أفسد عليّ طعم المذاق الحلو، هو ما أبدته زوجي، ذات يوم ودون سابق إنذار، قالت:
- أرجوك اسمعني، منذ فترة وأنا أود أن أفاتحك في الأمر..
- قلت:
- على راحتك، قولي ماتشتهي نفسك ولا تتهيبي،
- الأطفال.
- ماذا بهم.؟!
- إنهم يودون زيارة المدينة، وقبل ذلك كنت أتهيب بسبب شحة المال لدينا، أما الآن والحمد لله، فأنت موظف فيها وبإمكانك اصطحابهم معك.
أربكني قولها. أول الأمر، غير أني تماسكت قائلاً:
- كلا، لا يمكن ذلك الآن، فمدير المدينة لا يسمح ، انتظري فترة، ريثما أُرتب الأمر.
وازداد إلحاحها يوماً بعد آخر، وأنا أُدير الحديث وجهة أخرى تخلصاً من إصرارها، وبشتى الأعذار، غير أن إلحاحها، لم يفتر أو يقل، بل كانت تكرر ذلك مراراً، تحرض الأطفال على ذلك. واستمر حالي هكذا. أذهب إلى المدينة، مصطحباً معي صرة الطعام في الصباح الباكر، عائداً في ساعة متأخرة من المساء، وقد اعتدت على مثل هذا العمل، فأنا لا أمل من ملاطفة الأطفال، أُبدي لهم حركات مناسبة، وهم يقابلونني برمي قشور الفاكهة نحو جوف القفص، أو حبات الرقي ، وتكورات بذور الذرة الصفراء المطبوخة، أمد كفي إلى الأرض والتقطها، ثم أضعها في فمي، إذ تسقط داخل الجلد اليابس، فيبدي الأطفال فرحهم لمثل هذه الاستجابة الماهرة ويزداد تعلقهم بهيئتي وسلوكي معهم، وتدمع عيون أكثرهم من الفرح، غير أني سكنت فجأة داخل كيسي، وأنا أُقلب هيئات أفراد عائلتي بين الجموع . كان الأولاد جميعهم برفقة أمهم، متجهين إلى الجنينة، واللهفة بادية على وجوههم لرؤيتي، تجمدت في مكاني، ولم أستطع إطلاق حركة ما، مما لفت نظر الأطفال من حولي، حيث اندّس أولادي مع الجميع، قال أحدهم:
- لقد سكن الغوريلا انظروا إليه.
قال آخر:
- ربما يشعر بالتعب إنه عجوز..
- حقاً، إنه غوريلا بائس، وعجوز يتعب بسرعة..
قال أحد أولادي:
- إنه كبير السن يا أمي وحزين، كم أحبه هكذا.
قالت الأم:
- يبدو هكذا، كلنا سوف نكون مثله تماماً يوماً ما.
- لكنه أكثر حزناً من الحيوانات الأخرى...؟!
- ربما هو حزين على أولاده الصغار.
قال الولد الكبير:
- أُمي لم نشاهد أبي في الجنينة..؟ ألم يذكر المدير مكان عمله هنا..؟!
ابتسمت الأم مؤنبة، ثم قالت:
- كيف..؟! هل تعتقد أنك تجده داخل الأقفاص مع الحيوانات المفترسة هذه؟!!
- في أي مكان يكون إذاً.؟
- في المكان المخصص لعمله، حيث يدير الجنينة.
- حقاً إنه يديرها بنفسه..
كنت أراقب حركاتهم، أصغي إلى حواراتهم، وأنا بين مصدق نفسي ومكذبها، لكني صدقت، كانت مسافة قصيرة تفصلني عنهم، رمى أحدهم قشور البرتقال باتجاهي، مددتُ كفي باتجاهها، كورت أصابعي حولها ثم رفعتها من على الأرض، وأطبقت عليها بأسناني... ومضغتها فعلاً، فما زاد من ضحك الأطفال وفرحهم، قال أحدهم:
- لقد استعاد العم العجوز نشاطه..
وراحوا يصفقون ويمرحون، ووجوههم تتورد، بينما أولادي يحدقون بأمهم فرحين أيضاً، تكللهم هالة من السرور، طغت على وجوههم، وهندامهم، كانوا على نظافة تامة، كذلك ملابسهم، بدرجة كبيرة سرتني كثيراً، بحيث بدت على هذا الشكل الملفت للنظر، مما زاد اطمئناني غير أني مازلت منكمشاً ومتفائلاً داخل جلدي هذا، خاصة إلحاح الصغير على رؤيتي في الجنينة وبدا تأكيدهم يزداد وأنا قلق، والجلد يتسع أكثر، في حين يبدو جسدي ضامراً شيئاً فشيئاً، كقطعة ثلج صغيرة، لثبت هكذا متوارياً، وكدت أغادر القفص لولا قول زوجتي للأولاد:
- لابأس. سنتجول في المدينة، وسأريكم الألعاب فيها، ريثما ينتهي أبوكم من عمله عندها يصطحبنا إلى البيت.
قال الصغير: - ماما سأطلب منه أن يريني الحيوانات عن قرب.
فرح الأولاد ووافقوا على هذه الفكرة، وأنا أراقبهم وهم يتابعون مسيرهم نحو ممر طويل في المدينة، مبتعدين أكثر فأكثر، حتى تلاشوا ضمن الجموع الكثيرة، وأنا ضامر داخل جلدي الجاف، الأمر الذي يتطلب حركة تلو أخرى كاسراً جمودي المفاجئ، لأنه يوفر لي علاقة أليفة مع الأطفال والآخرين ويبعد عني الملل داخل قفصي الكبير هذا.