أشــــعل فيها صوت أم كلثوم حريقاً، وفجَّر في روحها حنيناً لم يسعه صدرها، طفحت عيناها بدموع الوجد، وانسكبت كأنها تطوف من إناء طافح، لم تمسحها، بل أخذت شهيقاً عميقاً وهي تتساءل بوجع: هل الحب والشوق دوماً يضيعان سدى؟ أزاحت الستارة عن النافذة، فارتسم وجهها على الزجاج مُشبعاً بألم سرمدي، ورغم أنها في الحالة القصوى من الوجد والألم، لكن لم يُفتها ملاحظة جمال وجهها البهي. ابتسمت رغماً عنها وهي تتذكر المرة الأولى التي التقت فيها أعينهما، أحسته كيف غدا أسير وجهها. افتتن بالعينين النجلاوين، وأعلن لها أنه أحبها وسيحبها حتى آخر يوم في عمره، وهي بدورها أحست كيف غمرها الزخم الأولي المصطخب لمشاعرهما. نما الحب سريعاً دون أن يحتاج أن يضرب جذوره ويمد أغصانه وتفرعاته، لم يكونا بحاجة إلى انتظار أزهار الحب وثماره لأن البرق الذي ولد بينهما، ولَّد الحب مكتملاً ناضجاً بطرفة عين، أخرجه من مخبئه كما تخرج الرعود الفطور من الأرض. كان صوت أم كلثوم يساعدها في التطهّر من المرارة، إنها تبكي تراكم الخيبات، تذكرت كم كانت صادقة حين وعدته بأنها ستعرف كيف تنتظره. قال لها متخوفاً: اثنا عشر شهراً ليست بالأمر السهل. قد تنسينني خاصة... لم تتركه يكمل وضعت راحة يدها على فمه قائلة: -لاتتفوه بأية كلمة، كانت تعرف ماسيقوله. كان خائفاً من فرق السن بينهما، فهو يكبرها بخمسة عشر عاماً، وحين اكتشفا متعة اللقاء الأولي قال لها: الشباب هو الإلهام. كانت منتشية بافتتانه، بشبابها وطراوتها وتألقها. سافر إلى باريس في مهمة علمية، كانا يعرفان أن الاتصال مكلف، وعليهما أن يقتصدا منه، صبّت كل أشواقها في الرسائل، كتبت له في الأشهر الأولى قرابة مئة رسالة، ثم أخذت رسائلها تتباعد ليس لبرود مشاعرها بل لأنها ماعادت تعرف ماذا تكتب؟ فقد استنفدت طاقتها الإبداعية في الحب، كانت تحكي له تفاصيل يومها وكيف تتذكره في الدقائق والثواني، وكيف تُسلي نفسها بحساب كم مرة ستستحم ريثما يعود، وكم تهتاج أشواقها إليه وهي تجفف شعرها الذي يحب تنشقه، وكيف أنها أقسمت ألا تنزع العقد الفيروزي الذي أهداها إياه حتى يعود. كانت تقرأ برجه وتكتبه له ولم تبالِ بأنها غالباً ماكانت تزّور الكلمات لصالحهما، وكانت تقص له قصاصات من الجرائد والمجلات لكتّاب أو شعراء يحبهم، في البداية نجحت في كظم غيظها من ندرة رسائله لكنها أخذت تشكو بعد ستة أشهر من رحيله بأنها لم تتلقَ منه سوى أربع رسائل، وبأنها متألمة لإهماله لها، وبأن سلوكه يدفعها لتشكَّ بحبه. كان ينجح دوماً في إعادتها إلى حظيرة الأمان بكلماته القليلة المضمخة بالحب والشوق، ورجاءاته الكثيرة بأن تعذره لأن مشاغله تفوق تخيلها. أحست أن روحها تكاد تنفق حين دخلت الشهر الأخير لانتظارها له، كانت قد أجّلت عمداً قص شعرها ونزع أشعار رجليها، ووضع الماسك المغذي على وجهها قبل مجيئه بأيام، وحين قامت بكل تلك العمليات المعجونة بالحب والانتظار، وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها بعينيه هو، اخترقها سهم الشهوة كشرارة برق شطرتها نصفين، ياه كم افتقدته، هل مرَّ عام حقاً ولم تره؟ لم تلمسه؟ تذكرت وصالهما الأخير كم كان متأججاً، كم كررا فعل الحب حتى أوشكا على الإغماء.. هاجت كل الذكريات دفعة واحدة قبل موعد وصوله بيومين كانت منهمكة في تحضير العديد من المفاجآت له، منها أنها طلبت من رسام مشهور أن يرسم صورته، كما غامرت وسحبت قرضاً من المصرف لتشتري المكتبة البيضاء التي أبدى إعجابه بها حين زارا معرض المفروشات يتفرجان على أثاث منزلهما الذي يطمحان إلى تأسيسه حين سيطلق زوجته اليونانية التي هجرها منذ ست سنوات، ويضمن مستقبل ولديه الذين يعيشان مع أمهما في أثينا. انهارت معنوياتها العالية حين اتصل بها قبل يومين من موعد رجوعه، ليخبرها بأنه سيمدّد إقامته في باريس أربعة أشهر إضافية لضرورات البحث العلمي، أدهشها أنها تلّقت الخبر ببرود شديد ولم تعلّق بكلمة، وكان صوتها أكثر هدوءاً من المعتاد وأكثر رقة ولطفاً وهي تقول حسناً. ليس هناك شعور أكثر لطفاً من اليأس، أكثر استسلاماً وخنوعاً منه، مرّت أيامها رتيبة، إنما بدا وجهها كأنه فقدَ القدرة على الابتسام إلى الأبد، لم تفتح أي حوار مع روحها ومع أشواقها، ولا معه أيضاً.. شيء في روحها كان متقداً، وانطفئ فجأة. لا، لم ينطفئ من تلقاء نفسه، إنما أطفأه الانتظار. بدت لها الأيام الطويلة الباردة والحارة والفاترة، والرمادية، أشبه بسراب طويلٍ معذّب، وهي ذاهبة كل يوم إلى البريد تلصق الطوابع بصمغ الحب وتودع الظرف في شق علبة البريد بعد أن تضمخه بأشواقها. إنها تحتاج لاستراحة من عواطفها، من كل أنواع العواطف الجياشة المتوثبة، المهتاجة، الحنونة، الكئيبة، تحتاج للغياب والنسيان، وربما الضياع، لكنها لم تشكّ لحظة واحدة في أنها تحبه بجنون، وستتحمل بصبر الأمهات اللامحدود مرور الشهور الأربعة حتى تلقاه، لكن الإنسان من يفهمه؟ كيف حصل ماحصل؟ ألا يعني ماحصل أنها خانته؟ كيف ارتضت أن يقبّلها آخر ويداعبها وهي تحب رجلاً آخر، وبينهما وعد! ماذا يعني ذلك سوى الخيانة؟ هل تعترف له بأنها كانت جالسة في مقهى رصيف تكتب رسالة له، وتغالب دموعها ألماً من انتظار أربعة أشهر أخرى، حين دخل صديق تعرفه منذ سنوات، وتحس بإعجابه القديم بها، لاتُنكر أنها فرحت حين استأذنها بالجلوس معها، دفع حساب القهوة ودعاها لنزهة في سيارته، لم تمانع، بل لم تفكر أبداً هل تقبل أم ترفض، كان اليأس قد تركها في حالة استسلام كلي. طلب إليها أن تختار الكاسيت الذي تفضّله اختارت أن تسمع أم كلثوم، وما أن ضغطت زر المسجلة حتى انطلق الصوت الشامخ يقول: بعيد عنك حياتي عذاب. ابتلعت دموعها وهي تتخيله في غربته، انعصر قلبها شوقاً، لم تنتبه ليد الرجل بجانبها دافئة ومتلهّفة تلتقط أطراف أصابعها وتعصرها وهو يقول: ياه، أم كلثوم تبوح بحالي، فعلاً بعيد عنك حياتي عذاب. لم تسحب يدها، تخيّلتْ أن الحبيب البعيد يُمسك يدها ويقول هذا الكلام هو البعيد البعيد، الذي اشتاق جلدها للمسة يده. سألها بصوتٍ لايخفى ولهه: هل نتغدى معاً. وباستسلام اليائس قالت: أجل. لم يخطر ببالها أنها تخونه، كانت بحاجة لأي شيء كي تخفف أشواقها الطافحة للحبيب البعيد، قادها إلى مطعم ساحر مطلّ على البحر، قشّر لها الخيار، وقطّع الجزر، وملأ صحنها بقطع الشوندر ورقائق البطاطا المقلية، صبّ لها البيرة وشربا نخبها مراراً. سربلها بسعادته الغامرة بوجودها معه. كانت تتجاذب معه أطراف الحديث وهي مدركة كيف أن روحها هناك، مع الرجل الذي تعبده، والذي شواها انتظارها له. في طريق العودة استأذنته أن تغمض عينيها، لأن ملاحقتها الدائمة لحركة الموج جعلها تُصاب بما يشبه الدوار، وحين أوقف سيارته عند مدخل مكتبه ورجاها أن يشربا القهوة لم تمانع، كانت تحس بتهور سلوكها ولاتقاومه. أفقدها الانتظار المديد عزم المقاومة، أكانت تبحث عن وسائل تخفيفية لحدة أشواقها للرجل الذي أضناها انتظارها له؟ كيف أخذها بين ذراعيه، وغمرها بقبلاته، وأشعلَ الحريق في جلدها بلمساته؟ أدهشها أن جلدها انتعش كأنه تربة مشققة تتلقى قطرات الغيث الأولى فتتهلل بهجة، لكنها تريد غيثه هو، قبلاته هو، أين هو؟ ياه كم طال الانتظار! لملمت نفسها متحاشية أن تلتقي عيناها بعيني الغريب، سألها: ألا تقبلين بي زوجاً؟ قالت: لا أدهشه جوابها، في عينيه سؤال لايمكنها تحاشيه: لماذا سمحتِ لي إذاً أن ألمسك؟ قالت برجاء: أرجوكَ، أنس ماحصل بيننا، اعتبره من اختلاطات البيرة. قال منهزماً بصوتٍ أحسته من خشب يتشقق: لكنكِ، كنتِ سعيدة بين ذراعي وتجاوبتِ معي. فكرت: إنه صادق ومحق، فهي فعلاً انتشت بقبلاته، عجباً، أتراها مصابة بانفصام في الشخصية، أم أن بذور فسق مخبأة في روحها؟ ودّت لو تقول له إنها تمنّت لو تكون بين ذراعي الآخر، لكن حدث التباس، شيء غامض مُلتبس، مُرتبك ليس خيانة، ولا يأساً، ولا حباً، لعله تعب، تعب مديد لانتظار رجل تاق جلدها حتى التشقق لعناقه، وتبخّرت روحها من حرارة اشتياقها له. وحده صوت أم كلثوم قادر على أن يصالحها مع نفسها، أن يبرأها من الإدانات والمحاكمات. انسكبت دموعها وهي تردد مع الصوت الساحر: بعيد عنك حياتي عذاب.
أشــــعل فيها صوت أم كلثوم حريقاً، وفجَّر في روحها حنيناً لم يسعه صدرها، طفحت عيناها بدموع الوجد، وانسكبت كأنها تطوف من إناء طافح، لم تمسحها، بل أخذت شهيقاً عميقاً وهي تتساءل بوجع: هل الحب والشوق دوماً يضيعان سدى؟
أزاحت الستارة عن النافذة، فارتسم وجهها على الزجاج مُشبعاً بألم سرمدي، ورغم أنها في الحالة القصوى من الوجد والألم، لكن لم يُفتها ملاحظة جمال وجهها البهي. ابتسمت رغماً عنها وهي تتذكر المرة الأولى التي التقت فيها أعينهما، أحسته كيف غدا أسير وجهها.
افتتن بالعينين النجلاوين، وأعلن لها أنه أحبها وسيحبها حتى آخر يوم في عمره، وهي بدورها أحست كيف غمرها الزخم الأولي المصطخب لمشاعرهما. نما الحب سريعاً دون أن يحتاج أن يضرب جذوره ويمد أغصانه وتفرعاته، لم يكونا بحاجة إلى انتظار أزهار الحب وثماره لأن البرق الذي ولد بينهما، ولَّد الحب مكتملاً ناضجاً بطرفة عين، أخرجه من مخبئه كما تخرج الرعود الفطور من الأرض.
كان صوت أم كلثوم يساعدها في التطهّر من المرارة، إنها تبكي تراكم الخيبات، تذكرت كم كانت صادقة حين وعدته بأنها ستعرف كيف تنتظره. قال لها متخوفاً: اثنا عشر شهراً ليست بالأمر السهل. قد تنسينني خاصة... لم تتركه يكمل وضعت راحة يدها على فمه قائلة:
-لاتتفوه بأية كلمة، كانت تعرف ماسيقوله. كان خائفاً من فرق السن بينهما، فهو يكبرها بخمسة عشر عاماً، وحين اكتشفا متعة اللقاء الأولي قال لها: الشباب هو الإلهام.
كانت منتشية بافتتانه، بشبابها وطراوتها وتألقها.
سافر إلى باريس في مهمة علمية، كانا يعرفان أن الاتصال مكلف، وعليهما أن يقتصدا منه، صبّت كل أشواقها في الرسائل، كتبت له في الأشهر الأولى قرابة مئة رسالة، ثم أخذت رسائلها تتباعد ليس لبرود مشاعرها بل لأنها ماعادت تعرف ماذا تكتب؟ فقد استنفدت طاقتها الإبداعية في الحب، كانت تحكي له تفاصيل يومها وكيف تتذكره في الدقائق والثواني، وكيف تُسلي نفسها بحساب كم مرة ستستحم ريثما يعود، وكم تهتاج أشواقها إليه وهي تجفف شعرها الذي يحب تنشقه، وكيف أنها أقسمت ألا تنزع العقد الفيروزي الذي أهداها إياه حتى يعود. كانت تقرأ برجه وتكتبه له ولم تبالِ بأنها غالباً ماكانت تزّور الكلمات لصالحهما، وكانت تقص له قصاصات من الجرائد والمجلات لكتّاب أو شعراء يحبهم، في البداية نجحت في كظم غيظها من ندرة رسائله لكنها أخذت تشكو بعد ستة أشهر من رحيله بأنها لم تتلقَ منه سوى أربع رسائل، وبأنها متألمة لإهماله لها، وبأن سلوكه يدفعها لتشكَّ بحبه. كان ينجح دوماً في إعادتها إلى حظيرة الأمان بكلماته القليلة المضمخة بالحب والشوق، ورجاءاته الكثيرة بأن تعذره لأن مشاغله تفوق تخيلها.
أحست أن روحها تكاد تنفق حين دخلت الشهر الأخير لانتظارها له، كانت قد أجّلت عمداً قص شعرها ونزع أشعار رجليها، ووضع الماسك المغذي على وجهها قبل مجيئه بأيام، وحين قامت بكل تلك العمليات المعجونة بالحب والانتظار، وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها بعينيه هو، اخترقها سهم الشهوة كشرارة برق شطرتها نصفين، ياه كم افتقدته، هل مرَّ عام حقاً ولم تره؟ لم تلمسه؟ تذكرت وصالهما الأخير كم كان متأججاً، كم كررا فعل الحب حتى أوشكا على الإغماء.. هاجت كل الذكريات دفعة واحدة قبل موعد وصوله بيومين كانت منهمكة في تحضير العديد من المفاجآت له، منها أنها طلبت من رسام مشهور أن يرسم صورته، كما غامرت وسحبت قرضاً من المصرف لتشتري المكتبة البيضاء التي أبدى إعجابه بها حين زارا معرض المفروشات يتفرجان على أثاث منزلهما الذي يطمحان إلى تأسيسه حين سيطلق زوجته اليونانية التي هجرها منذ ست سنوات، ويضمن مستقبل ولديه الذين يعيشان مع أمهما في أثينا.
انهارت معنوياتها العالية حين اتصل بها قبل يومين من موعد رجوعه، ليخبرها بأنه سيمدّد إقامته في باريس أربعة أشهر إضافية لضرورات البحث العلمي، أدهشها أنها تلّقت الخبر ببرود شديد ولم تعلّق بكلمة، وكان صوتها أكثر هدوءاً من المعتاد وأكثر رقة ولطفاً وهي تقول حسناً.
ليس هناك شعور أكثر لطفاً من اليأس، أكثر استسلاماً وخنوعاً منه، مرّت أيامها رتيبة، إنما بدا وجهها كأنه فقدَ القدرة على الابتسام إلى الأبد، لم تفتح أي حوار مع روحها ومع أشواقها، ولا معه أيضاً.. شيء في روحها كان متقداً، وانطفئ فجأة. لا، لم ينطفئ من تلقاء نفسه، إنما أطفأه الانتظار.
بدت لها الأيام الطويلة الباردة والحارة والفاترة، والرمادية، أشبه بسراب طويلٍ معذّب، وهي ذاهبة كل يوم إلى البريد تلصق الطوابع بصمغ الحب وتودع الظرف في شق علبة البريد بعد أن تضمخه بأشواقها. إنها تحتاج لاستراحة من عواطفها، من كل أنواع العواطف الجياشة المتوثبة، المهتاجة، الحنونة، الكئيبة، تحتاج للغياب والنسيان، وربما الضياع، لكنها لم تشكّ لحظة واحدة في أنها تحبه بجنون، وستتحمل بصبر الأمهات اللامحدود مرور الشهور الأربعة حتى تلقاه، لكن الإنسان من يفهمه؟ كيف حصل ماحصل؟ ألا يعني ماحصل أنها خانته؟ كيف ارتضت أن يقبّلها آخر ويداعبها وهي تحب رجلاً آخر، وبينهما وعد! ماذا يعني ذلك سوى الخيانة؟ هل تعترف له بأنها كانت جالسة في مقهى رصيف تكتب رسالة له، وتغالب دموعها ألماً من انتظار أربعة أشهر أخرى، حين دخل صديق تعرفه منذ سنوات، وتحس بإعجابه القديم بها، لاتُنكر أنها فرحت حين استأذنها بالجلوس معها، دفع حساب القهوة ودعاها لنزهة في سيارته، لم تمانع، بل لم تفكر أبداً هل تقبل أم ترفض، كان اليأس قد تركها في حالة استسلام كلي. طلب إليها أن تختار الكاسيت الذي تفضّله اختارت أن تسمع أم كلثوم، وما أن ضغطت زر المسجلة حتى انطلق الصوت الشامخ يقول: بعيد عنك حياتي عذاب.
ابتلعت دموعها وهي تتخيله في غربته، انعصر قلبها شوقاً، لم تنتبه ليد الرجل بجانبها دافئة ومتلهّفة تلتقط أطراف أصابعها وتعصرها وهو يقول: ياه، أم كلثوم تبوح بحالي، فعلاً بعيد عنك حياتي عذاب. لم تسحب يدها، تخيّلتْ أن الحبيب البعيد يُمسك يدها ويقول هذا الكلام هو البعيد البعيد، الذي اشتاق جلدها للمسة يده. سألها بصوتٍ لايخفى ولهه: هل نتغدى معاً. وباستسلام اليائس قالت: أجل.
لم يخطر ببالها أنها تخونه، كانت بحاجة لأي شيء كي تخفف أشواقها الطافحة للحبيب البعيد، قادها إلى مطعم ساحر مطلّ على البحر، قشّر لها الخيار، وقطّع الجزر، وملأ صحنها بقطع الشوندر ورقائق البطاطا المقلية، صبّ لها البيرة وشربا نخبها مراراً. سربلها بسعادته الغامرة بوجودها معه. كانت تتجاذب معه أطراف الحديث وهي مدركة كيف أن روحها هناك، مع الرجل الذي تعبده، والذي شواها انتظارها له.
في طريق العودة استأذنته أن تغمض عينيها، لأن ملاحقتها الدائمة لحركة الموج جعلها تُصاب بما يشبه الدوار، وحين أوقف سيارته عند مدخل مكتبه ورجاها أن يشربا القهوة لم تمانع، كانت تحس بتهور سلوكها ولاتقاومه. أفقدها الانتظار المديد عزم المقاومة، أكانت تبحث عن وسائل تخفيفية لحدة أشواقها للرجل الذي أضناها انتظارها له؟
كيف أخذها بين ذراعيه، وغمرها بقبلاته، وأشعلَ الحريق في جلدها بلمساته؟ أدهشها أن جلدها انتعش كأنه تربة مشققة تتلقى قطرات الغيث الأولى فتتهلل بهجة، لكنها تريد غيثه هو، قبلاته هو، أين هو؟ ياه كم طال الانتظار!
لملمت نفسها متحاشية أن تلتقي عيناها بعيني الغريب، سألها: ألا تقبلين بي زوجاً؟
قالت: لا
أدهشه جوابها، في عينيه سؤال لايمكنها تحاشيه: لماذا سمحتِ لي إذاً أن ألمسك؟ قالت برجاء: أرجوكَ، أنس ماحصل بيننا، اعتبره من اختلاطات البيرة.
قال منهزماً بصوتٍ أحسته من خشب يتشقق: لكنكِ، كنتِ سعيدة بين ذراعي وتجاوبتِ معي.
فكرت: إنه صادق ومحق، فهي فعلاً انتشت بقبلاته، عجباً، أتراها مصابة بانفصام في الشخصية، أم أن بذور فسق مخبأة في روحها؟ ودّت لو تقول له إنها تمنّت لو تكون بين ذراعي الآخر، لكن حدث التباس، شيء غامض مُلتبس، مُرتبك ليس خيانة، ولا يأساً، ولا حباً، لعله تعب، تعب مديد لانتظار رجل تاق جلدها حتى التشقق لعناقه، وتبخّرت روحها من حرارة اشتياقها له.
وحده صوت أم كلثوم قادر على أن يصالحها مع نفسها، أن يبرأها من الإدانات والمحاكمات. انسكبت دموعها وهي تردد مع الصوت الساحر:
بعيد عنك حياتي عذاب.