ســــبحَ في عينيها يأس هائل وهي تصغي إلى كلام الطبيب الذي تشربت ملامح وجهه المتحوّلة باتجاه اليأس، وتباطأت كلماته حتى تلاشت، وبدا وكأنه فقد القدرة على الكلام بعد أن أخبرها بالحقيقة كاملة، بأن نتائج الفحوصات التي أجراها للكتلة في ثديها الأيمن هي سرطان منتشر.
لم يخطر ببالها يوماً أنها ستدخل خانة المصابين بالسرطان، هؤلاء المنكوبين الذين يثيرون شفقتها، فتحسهم من جنس آخر، وتشعر أنها مقربة ومحبوبة من قبل الله أكثر منهم لأنها بصحة جيدة. لكن لم يبدُ عليها أي ارتكاس لكلام الطبيب، لكأنه لايعنيها. ربما من شدة الصدمة تتصلب المشاعر. كان ذهنها صفحة رمادية لتلقي الصور، تذكّرت عملية الإجهاض التي أجرتها منذ سنوات بعيدة، حين كانت حاملاً في الشهر الثالث، وقد حاول زوجها والطبيب أن يثنياها عن قتل الجنين، ترّجع صوت الطبيب في ذاكرتها: دعي تلك الكتلة الحية تنمو وتصير طفلاً. لكنها صرخت: أحس هذه الكتلة في رحمي سرطاناً يجب استئصاله.
يومها أحست أنها تمارس حريتها إلى أقصى حدود، وهل من حرية أكبر من أن تجهض المرأة نفسها؟ أحست بوحشية موقفها الآن، وهي تعي حقيقة أنها مصابة بالسرطان، اشتعل الألم في صدرها كنار تحرقها وتُبقي على الكتلة السرطانية فقط. اعترفت لنفسها بأن هذه الكتلة الحية كانت ستغدو طفلاً عمره خمسة عشر عاماً اليوم، فيما لو لم تجهض نفسها. سألت الطبيب بعينيها: أي ضلال نعيشه؟ أية مفاهيم خاطئة نلصقها بحياتنا وبمفهومنا عن الحرية؟
اعتقد الطبيب أنه بصمته يعطيها فسحة من الوقت لاستيعاب الصدمة، وحين استأنف كلامه، كان يعتقد أنها تمثلت جيداً كونها مصابة بالسرطان. قال بصوتٍ أكثر هدوءاً ولطفاً. لكنه أثار سخريتها العميقة: لاداعي لليأس، فالطب حقق إنجازات عظيمة تحديداً في علاج سرطان الثدي. الجراحة ثم الأشعة، وبعد جرعات من الأدوية، وبعدها يمكنك أن تمارسي حياتك بشكل طبيعي.
ضحكت من كلمته طبيعي، لم تعرف الجانب المضحك في الكلمة، لكن تكشّفت لها دفعة واحدة الأخطاء المدمّرة في حياتها، والتي كانت تدافع عنها بحماسة شرسة تحت عنوان طبيعي وعادي، وهكذا يجب أن يكون.. قذفت ذاكرتها بصور حياتها كأنها تريد أن تفرّغ مخزونها القديم استعداداً لتخزين صور جديدة، ستبدأ بتدشين مرحلة جديدة من حياتها بعد اكتشاف السرطان. سمتّها للحال المرحلة السرطانية.
تناثرت الصور العشوائية التي قذفتها ذاكرتها في حضنها، غمرت قماش تنورتها الرمادية، وجدت نفسها تصرخ مطالبة بالإجهاض والطلاق معاً حين اكتشفت علاقة زوجها مع مطلّقة تكبرها بعشر سنوات، دميمة وشبه أميّة، بينما هي الفاتنة التي تحضّر للدكتوراة في الفلسفة وتمارس هوايتها في الرسم على الزجاج مبدعة رسوماً رائعة، ولاتترك نشاطاً فنياً أو ثقافياً إلا وتسارع لحضوره، فكيف يخونها زوجها مع امرأة دونها بكثير! أمكنها الآن أن تفهم كلامه: أحتاج للحنان، للمشاركة، لإمرأة تُهديني جزءاً من وقتها. لا أحس أنني أعيش مع امرأة بل مع عالمة، تقضي وقتها كله مع كتبها ولوحاتها، تهتم بأصدقائها أكثر مني. يومها لم يسمح لها غرورها الغبي أن تفهم. أقامت الدنيا ولم تقعدها، أصرت على الطلاق، أجهضت نفسها منتفخة كبرياءً كالطاووس ولسان حالها يقول: هكذا تتصرف المرأة الحرة صاحبة الكرامة.
أغمضت عينيها إعياءً، وأخذت نفساً عميقاً ملأ صدرها، أحسته يدفع الكتلة السرطانية في صدرها إلى الخارج ويطردها. وحين فتحت عينيها انتشرت في الفضاء أمامها صورة أرعبتها كانت ذاكرتها قد قذفتها أيضاً، صورتها مع زوج أعز صديقة لها، عاريين فوق فراش الخيانة، الذي سمتّه وقتها مزود الحب الكبير. ابتسمت بمرارة من المفارقات، فهي التي طلّقت زوجها لأنه خانها، تخطف بعد أقل من عام زوج أعز صديقة لها، وتهدد استقرار أسرته تحت شعار الحب الكبير!
كان يشكو لها ضيقه وتعاسته وبأن زوجته مجرد أم، لاتوليه أي اهتمام، ولا تواكب طموحاته الثقافية والعلمية، سرت بينهما شرارة الانجذاب، واشتعل حبها يتغذى من أقوى عامل لتأجيج العواطف: التحدي، تحدّت الجميع بعلاقتها معه، وبعد عامين من العلاقة اللاشرعية تزوجا، لتتحطم أحلامها بعد أشهر قليلة من الزواج، مكتشفة أن هذا الحبيب الرائع أسير ندم لايطاق لتخليه عن أولاده وزوجته، مُدمراً بشعور الذنب، لم تقبل كرامتها أن تستمر في زواجها، طلقته ليعود إلى حظيرة زواجه الأول.
الغريب أنها استخلصت حكمة من زيجتها بأن كل الرجال خونة، لم يخطر ببالها -ولو برهة- أن تحاكم نفسها. كان يمكن أن تستمر في رعونة كبريائها لولا الكتلة السرطانية التي جعلتها تضعف أمام الحقيقة. أجل هذا ماتشعر به بالضبط: إنها ضعيفة تجاه الحقيقة. السرطان يضطرها إلى المواجهة النزيهة، تحس أن نهاية المسرحية اقتربت، وبأن الموت لم يعد فكرة مجردة بعيدة كأنها لن تتحقق في الواقع، إنها تشعر بأنها لو مدّت ذراعيها إلى أقصاهما فستلامس هلاماً أسود شفافاً هو الموت. "صار الموت بمتناولي" هذا ماقالته. لكن مهلاً إنها بحاجة لفهم ماعاشته، لإعادة تقييمه. لإنصاف من ظلمتهم، لتشذيب الأفكار الخاطئة في ذهنها، إنها تدرك بكل ذرة في كيانها حاجتها العميقة للحقيقة، ترى هل هي حاجة غريزية؟
إنها تحس بثورة خفية في جسدها، تستشعرها على نحو غامض، أشبه بنَملٍ خفيف لعله مسير الخلايا السرطانية، أو الأفكار الجديدة الكاشفة، إنها تشعر بتوالد أفكار كبيرة ثورية ورائعة، لم تتبلور بعد في كلمات، تتوالد في نفسها في بدء المرحلة السرطانية، تذكّرت أختها وصراعها الضاري معها، أختها التي قاطعتها عشر سنوات والتي صرخت في وجهها مراراً: أنتِ انتهازية وطماعة وحقيرة، ارتجفت من وقع الكلمة الأخيرة وهي تستعيدها في ذاكرتها.
كيف تتهم أختها بهذه الصفات الرهيبة، تلك المسكينة التي تبعت صوت قلبها فتزوجت من رجل أحبته وأهدته عمرها، أهملت دراستها وتفرّغت للعناية بأولادها الخمسة، لكن الرجل المسكين توفي بحادث سيارة، فحاولت الأخت المنكوبة إقناع أهلها أن تكون حصتها في الإرث أكبر من حصة أختها لتتمكن من إعالة أطفالها.
لم تترك صفة قبيحة إلا وألصقتها بأختها، لم تكتفِ بذلك، بل لجأت إلى القضاء لحصر الإرث بعد وفاة والديها. فكّرت بأولاد أختها الخمسة الذين غيبّهم حقدها وغرورها، من حياتها، أمكنها أن تفكر بهم الآن واحداً واحداً، وتعتذر منهم واحداً واحداً. وهي تدخل بتواضع مرحلتها السرطانية. دمعت عيناها وهي تتذكر لور، كانت في الثالثة من عمرها تشهد بعينيها الطفوليتين الشجار المدمّر بين الأختين -أمها وخالتها- تذكرت الآن كيف قفزت عن الأريكة، واختبأت خلف الباب وأخذت تبكي.
عجباً كيف لم يحرّك بها هذا المشهد أي إحساس؟ إلى هذا الحد كانت ممتلئة غروراً حاقداً حتى تغيّب كل الناس، حتى طفلة متألمة هي ابنة أختها!
تنبّهت للطبيب يربت على كتفها قائلاً: امرأة بمثل وعيك وثقافتك لا يجب أن تستسلم لليأس.
رفعت إليه عينيها، واجتهدت كي تلم حروفها الجديدة التي عادت بها من رحلة خاطفة عبر حياتها الماضية، لغة جديدة تلتصق حروفها بصمغ الحب الذي تفجّر حارقاً من روحها، قالت بصوتً جديد: أنا لاأبكي الآتي، مايؤلمني كون السرطان وحده اضطرني لإدراك ماأفسدته بكبريائي الحاقدة.
لم يبدُ على الطبيب أنه فهم، لكنه استغرب إشراق نور رائع من سواد العينين الغارقتين في الأسى والأمل معاً
.