أطل الدليل من عل: بدت المدينة مرمية في السهل الواطئ كمقبرة.. كنار مطفأة مستكينة، تزحر تحت رحمة الضباب المطبق على صدرها.. بدت الأرض مستوية وفي المنخفض المدينة. أ من قدامها أم من خلفها يطل الدليل؟ لا يدري، لأن المدينة متطوقة كأفعى غضارية.. متداخل بعضها في بعض أو متداخلة المرئيات. كأن ذيلها في فمها تعض عليه بالأنياب.. أو كأنها تتنفس من ذيلها، فبهت الدليل: مدينة نائمة بقدرة مولاها.. قيلولة ضباب في قاع الأرض. كامرأة مقرورة تغمغم تحت لحاف الضباب.. تتدثر وتستدفئ بتاريخها العريق، وفي شرايينها تسعى صفوف من الدراويش، وعلى نواصي النفس تترصد البوح وتنفث زفيرها في غدائر الشجر والظلال. يقول الدليل، تمهلي أيتها المسافة القصيرة فثمة مايقال.. ويحدق في شبح المدينة المتوارية عن النظر، إلا من شواخص تشبه المآذن والأبراج.. أشعة الشمس في عطلة، وتستريح الريح في حضن المساء، فمن ينتشل المدينة من بياتها الضبابي؟ يتراءى للدليل أن المدينة تنتزع أضرحة من بين الأيدي وتلقي بها في القلب والذاكرة.. وآن يغني فيها المحزونون في سهر السلوان والوجع تنطلق أصواتهم طيوراً جارحة تشق طريقها نحو الشرق عبر الرمال.. لو أن الشمس تجلو مكنون المدينة جلوة واحدة لانكشف ضميرها عن كل الخيبات المعتقة خلف العتبات والنوافذ الموصدة. يمعن الدليل في تأمل المدينة.. يرى أبناءها يخرجون عراة ملهوفين ليعدوا العدة لأسواق الشعر وقرى الضيفان وصلح القبائل.. والمدينة جثة ملقاة غير بعيد عن سراب الصحارى.. ترقب رحلة حبات الرمل.. ترقب فلول الغيم.. ترقب موكب جنازتها وفي هناءة ودعة تتجشأ وتسبِّح.. وتستمرئ قيلولتها.. تتعالى أصوات فيها تعد الناس بالانفتاح، والتدفق، والتنقيب، وتحسين الأغاني، وإنجاز برامج محو الأمية، ومصادرة مايسيء إلى الأخلاق العامة، ومعاقبة من يخرب أعشاش العصافير أو يتلف النباتات، أو يدخن السجائر في الحدائق العامة حيث يترفه الأطفال الفقراء.. تعد أن تمنحهم حرية شهيق ريح الصبا وتعلمهم الرماية والفصاحة وركوب الخيل كي لا يتفتحوا أطفالاً كأزهار الدِّفْلَى، أو جراداً له أنياب وأجنحة.. مدينة القنص والأدعية: طلقات في فرح الحزن، طلقات للأعراس والأعياد والشهداء والولادات والاغتيالات والتحذير والولائم.. وفي فضاء الله تتساقط أجنحة الحمائم مضرجة بدم البراءة، راسمة بخطها الجوي أقواس قزح من نشيج.,. ثم تُحنَّط وتصير أوسمة.. مذهولاً يرقب إنسانها معاودة المشاهد، وروايتها.. وفي أناة يمضي نحو سرير النوم دافعاً في طواعية وقبول عربة عمره نحو فناء لم يطلبه بعد...مهجوراً وعاجزاً يراقب -كالمدينة- رحلة السحب.. ويرجِّع رحلة الشتاء والصيف.. والرمال تمتطي صهوة الريح وترحل، وهو ملغى، يئن تحت إبط المدينة... محتشماً يتقبل توضعه في الرقعة.. ومكابراً يجرض بريقه وهو يتنهد بالشكر أنّ اللّه "ساترها".. شيئاً فشيئاً تتسرب من ذاكرته الموسيقى... والأغاني تغوص في النسيان... وشيئاً فشيئاً يتعَّود إيقاعات النصب والقلس والتهليل والتغبير.. يديم نظره.. يتهيأ له أن نوافذ المدينة تسند وجناتها على راحها وترنو: إن ثلجاً عذباً يتهاوى في اتئاد أسيان.. المدينة تتوضأ بالثلج.. وضباب كثيف يصادر صهيل الخيول، يصادر عصافير الأشعار الفارة من أقفاص الكتب. ويرى المدينة تتكور، ومقرورة تغفو وقد أجَّل صمت الضباب في حديقة وجهها تَفَتُّح برعمين... وترك في صدرها شهقة حب لم تسمع.. وها هي ذي تستحم آمنة في نعمة الضباب. تحلم بلعاب الشمس.. وتنتظر
أطل الدليل من عل: بدت المدينة مرمية في السهل الواطئ كمقبرة.. كنار مطفأة مستكينة، تزحر تحت رحمة الضباب المطبق على صدرها.. بدت الأرض مستوية وفي المنخفض المدينة. أ من قدامها أم من خلفها يطل الدليل؟ لا يدري، لأن المدينة متطوقة كأفعى غضارية.. متداخل بعضها في بعض أو متداخلة المرئيات. كأن ذيلها في فمها تعض عليه بالأنياب.. أو كأنها تتنفس من ذيلها، فبهت الدليل: مدينة نائمة بقدرة مولاها.. قيلولة ضباب في قاع الأرض. كامرأة مقرورة تغمغم تحت لحاف الضباب.. تتدثر وتستدفئ بتاريخها العريق، وفي شرايينها تسعى صفوف من الدراويش، وعلى نواصي النفس تترصد البوح وتنفث زفيرها في غدائر الشجر والظلال.
يقول الدليل، تمهلي أيتها المسافة القصيرة فثمة مايقال.. ويحدق في شبح المدينة المتوارية عن النظر، إلا من شواخص تشبه المآذن والأبراج..
أشعة الشمس في عطلة، وتستريح الريح في حضن المساء، فمن ينتشل المدينة من بياتها الضبابي؟ يتراءى للدليل أن المدينة تنتزع أضرحة من بين الأيدي وتلقي بها في القلب والذاكرة.. وآن يغني فيها المحزونون في سهر السلوان والوجع تنطلق أصواتهم طيوراً جارحة تشق طريقها نحو الشرق عبر الرمال.. لو أن الشمس تجلو مكنون المدينة جلوة واحدة لانكشف ضميرها عن كل الخيبات المعتقة خلف العتبات والنوافذ الموصدة.
يمعن الدليل في تأمل المدينة.. يرى أبناءها يخرجون عراة ملهوفين ليعدوا العدة لأسواق الشعر وقرى الضيفان وصلح القبائل.. والمدينة جثة ملقاة غير بعيد عن سراب الصحارى..
ترقب رحلة حبات الرمل.. ترقب فلول الغيم.. ترقب موكب جنازتها وفي هناءة ودعة تتجشأ وتسبِّح.. وتستمرئ قيلولتها.. تتعالى أصوات فيها تعد الناس بالانفتاح، والتدفق، والتنقيب، وتحسين الأغاني، وإنجاز برامج محو الأمية، ومصادرة مايسيء إلى الأخلاق العامة، ومعاقبة من يخرب أعشاش العصافير أو يتلف النباتات، أو يدخن السجائر في الحدائق العامة حيث يترفه الأطفال الفقراء.. تعد أن تمنحهم حرية شهيق ريح الصبا وتعلمهم الرماية والفصاحة وركوب الخيل كي لا يتفتحوا أطفالاً كأزهار الدِّفْلَى، أو جراداً له أنياب وأجنحة..
مدينة القنص والأدعية: طلقات في فرح الحزن، طلقات للأعراس والأعياد والشهداء والولادات والاغتيالات والتحذير والولائم.. وفي فضاء الله تتساقط أجنحة الحمائم مضرجة بدم البراءة، راسمة بخطها الجوي أقواس قزح من نشيج.,. ثم تُحنَّط وتصير أوسمة.. مذهولاً يرقب إنسانها معاودة المشاهد، وروايتها.. وفي أناة يمضي نحو سرير النوم دافعاً في طواعية وقبول عربة عمره نحو فناء لم يطلبه بعد...مهجوراً وعاجزاً يراقب -كالمدينة- رحلة السحب.. ويرجِّع رحلة الشتاء والصيف.. والرمال تمتطي صهوة الريح وترحل، وهو ملغى، يئن تحت إبط المدينة... محتشماً يتقبل توضعه في الرقعة.. ومكابراً يجرض بريقه وهو يتنهد بالشكر أنّ اللّه "ساترها".. شيئاً فشيئاً تتسرب من ذاكرته الموسيقى... والأغاني تغوص في النسيان... وشيئاً فشيئاً يتعَّود إيقاعات النصب والقلس والتهليل والتغبير.. يديم نظره.. يتهيأ له أن نوافذ المدينة تسند وجناتها على راحها وترنو:
إن ثلجاً عذباً يتهاوى في اتئاد أسيان.. المدينة تتوضأ بالثلج.. وضباب كثيف يصادر صهيل الخيول، يصادر عصافير الأشعار الفارة من أقفاص الكتب. ويرى المدينة تتكور، ومقرورة تغفو وقد أجَّل صمت الضباب في حديقة وجهها تَفَتُّح برعمين... وترك في صدرها شهقة حب لم تسمع.. وها هي ذي تستحم آمنة في نعمة الضباب. تحلم بلعاب الشمس.. وتنتظر