حتى الضواري التي تبقى حية بعد المعارك تنصرف إلى الاهتمام بنفسها.. تلعق جراحها، وتحاول أن تستريح.. والعقلاء الحكماء من البشر يراجعون أنفسهم أيضاً بعد الحرب، يتفحصون ما حاربوا من أجله أو مادافعوا عنه، يستخلصون النتائج والمحصلات ويحسبون الأرباح والخسائر ليتعرفوا طبيعة المرحلة المقبلة ومتطلباتها.. ومن يستقرئ مجريات الحروب في تاريخ البشرية يعرف أن أموراً كبيرة جداً قد حدثت للشعوب وغيرت طبيعة حياتها وتاريخها، ازدهاراً، أو دماراً، أو استعماراً، أو دفعاً للثمن إلى أمد طويل. والمستقري العجلان هو من ينظر إلى الحروب الماضية بمنهج تاريخي سردي.. من يستعرض الأحداث إلى نهايتها ليقرر أن "كل شيء يبدو معقولاً عندما تنتصر الجيوش".. أما الحكيم فهو من يتأمل ماخلفته الحرب من حوله، وبدهي أن في مقدمة ماينبغي أن يكون جديراً بالتأمل: الإنسان، فهو القيمة العليا بكل المعايير الحضارية، "وربما" قامت الحرب أصلاً لأجله، أو للدفاع عنه، وعن أمته وحريته وقيمه، ولكنها بالتأكيد قامت به فكان وقوداً أو أداة لها.. والإنسان الذي قُدِّر له أن ينجو من ويلات الحرب إبّان اشتعالها يكون من الجنون والجهل أن نخسره بعد أن تضع الحرب أوزارها.. يكون من الخيانة أن نتركه ضحية نتائجها. كم من الأسر والنفوس تمزقها الكوارث بعد الحرب: الأسرى، مشوهو الحرب، ذوو العاهات المستديمة، الأيتام، الأرامل، من فقدوا أحبابهم وممتلكاتهم وأماكنهم.. كل أولئك الذين تخلى عنهم من كان لهم، أو أُخِذَ منهم، تخلفهم الحرب في ظروف يتمنون في ظلّها لو أنهم انتهوا قبل ذلك.. إن هؤلاء يستدعون فتح جبهة جديدة لا تقل خطراً عن الحرب ذاتها، بل هنا معركة البناء الحقيقية التي تمثّل امتحاناً صعباً لأصالة الشعوب وقدرتها على إثبات شخصيتها القومية والحضارية بالوقوف على قدميها مُدَلِّلَة على حيويتها وتماسكها.. والغافل من يظن أن الأمر يُحلّ ببعض قرارات التعويض المادي، كأن الإنسانية تشترى أو كأن الإنسان سلعة.. إن الحرب تدمر النفوس من الداخل كما تدمر البيوت والجسور والمؤسسات الاقتصادية، والإنسان ليس أحجاراً أو خليطاً من مواد البناء ليعاد ترميمه في سرعة ويسر.. الإنسان فوق ذلك كلّه، وأشد ما يحتاج إلى جهود وصبر وحكمة وتفرغ لتعيده سوياً معافى، مؤمناً أن وحش الحرب قد ابتعد، وأن الطمأنينة يمكن أن تمد ظلّها من حوله مرة أخرى.. بمثل هذا التصور ينتظر أن يخرج الإنسان المتحضر من الحرب إن فرضت عليه، وإن كان دخلها خطأ وعن سوء تقدير فالخطأ لا يصلح بخطأ آخر جديد، والخارج من الحرب ليدخل أخرى لا يبدو عمله مسوغاً أو مغفوراً، فالحروب ليست هواية أو هوساً فردياً، حتى عندما تكون مشروعة تبدو كأبغض الحلال، والمقدم عليها محتاج إلى التروي ومراجعة الأمور وتحكيم العقل، محتاج إلى التفكير بأن البشر من حوله ليسوا مطية الرعونة وليسوا مسخرين دائماً لأن يكونوا وسيلة طيعة للفناء أو الإفناء. إن العربي الذي مازال يقرع طبول الحرب في غير أماكنها يقلق حضارته ويعكر صفوها، ويجعلنا نشعر أننا نخوض حرباً ليست حربنا، ونطلق النار كمن يبصق بعكس اتجاه الريح.. فلنكن أكثر تحضراً، ولنعرف أن للحرب وقتاً، وللحب وقتاً، ولبناء مادمرته الحرب، في الإنسان والأرض كل الأوقات والالتفات
حتى الضواري التي تبقى حية بعد المعارك تنصرف إلى الاهتمام بنفسها.. تلعق جراحها، وتحاول أن تستريح.. والعقلاء الحكماء من البشر يراجعون أنفسهم أيضاً بعد الحرب، يتفحصون ما حاربوا من أجله أو مادافعوا عنه، يستخلصون النتائج والمحصلات ويحسبون الأرباح والخسائر ليتعرفوا طبيعة المرحلة المقبلة ومتطلباتها.. ومن يستقرئ مجريات الحروب في تاريخ البشرية يعرف أن أموراً كبيرة جداً قد حدثت للشعوب وغيرت طبيعة حياتها وتاريخها، ازدهاراً، أو دماراً، أو استعماراً، أو دفعاً للثمن إلى أمد طويل.
والمستقري العجلان هو من ينظر إلى الحروب الماضية بمنهج تاريخي سردي.. من يستعرض الأحداث إلى نهايتها ليقرر أن "كل شيء يبدو معقولاً عندما تنتصر الجيوش".. أما الحكيم فهو من يتأمل ماخلفته الحرب من حوله، وبدهي أن في مقدمة ماينبغي أن يكون جديراً بالتأمل: الإنسان، فهو القيمة العليا بكل المعايير الحضارية، "وربما" قامت الحرب أصلاً لأجله، أو للدفاع عنه، وعن أمته وحريته وقيمه، ولكنها بالتأكيد قامت به فكان وقوداً أو أداة لها.. والإنسان الذي قُدِّر له أن ينجو من ويلات الحرب إبّان اشتعالها يكون من الجنون والجهل أن نخسره بعد أن تضع الحرب أوزارها.. يكون من الخيانة أن نتركه ضحية نتائجها.
كم من الأسر والنفوس تمزقها الكوارث بعد الحرب: الأسرى، مشوهو الحرب، ذوو العاهات المستديمة، الأيتام، الأرامل، من فقدوا أحبابهم وممتلكاتهم وأماكنهم.. كل أولئك الذين تخلى عنهم من كان لهم، أو أُخِذَ منهم، تخلفهم الحرب في ظروف يتمنون في ظلّها لو أنهم انتهوا قبل ذلك.. إن هؤلاء يستدعون فتح جبهة جديدة لا تقل خطراً عن الحرب ذاتها، بل هنا معركة البناء الحقيقية التي تمثّل امتحاناً صعباً لأصالة الشعوب وقدرتها على إثبات شخصيتها القومية والحضارية بالوقوف على قدميها مُدَلِّلَة على حيويتها وتماسكها.. والغافل من يظن أن الأمر يُحلّ ببعض قرارات التعويض المادي، كأن الإنسانية تشترى أو كأن الإنسان سلعة.. إن الحرب تدمر النفوس من الداخل كما تدمر البيوت والجسور والمؤسسات الاقتصادية، والإنسان ليس أحجاراً أو خليطاً من مواد البناء ليعاد ترميمه في سرعة ويسر.. الإنسان فوق ذلك كلّه، وأشد ما يحتاج إلى جهود وصبر وحكمة وتفرغ لتعيده سوياً معافى، مؤمناً أن وحش الحرب قد ابتعد، وأن الطمأنينة يمكن أن تمد ظلّها من حوله مرة أخرى.. بمثل هذا التصور ينتظر أن يخرج الإنسان المتحضر من الحرب إن فرضت عليه، وإن كان دخلها خطأ وعن سوء تقدير فالخطأ لا يصلح بخطأ آخر جديد، والخارج من الحرب ليدخل أخرى لا يبدو عمله مسوغاً أو مغفوراً، فالحروب ليست هواية أو هوساً فردياً، حتى عندما تكون مشروعة تبدو كأبغض الحلال، والمقدم عليها محتاج إلى التروي ومراجعة الأمور وتحكيم العقل، محتاج إلى التفكير بأن البشر من حوله ليسوا مطية الرعونة وليسوا مسخرين دائماً لأن يكونوا وسيلة طيعة للفناء أو الإفناء.
إن العربي الذي مازال يقرع طبول الحرب في غير أماكنها يقلق حضارته ويعكر صفوها، ويجعلنا نشعر أننا نخوض حرباً ليست حربنا، ونطلق النار كمن يبصق بعكس اتجاه الريح.. فلنكن أكثر تحضراً، ولنعرف أن للحرب وقتاً، وللحب وقتاً، ولبناء مادمرته الحرب، في الإنسان والأرض كل الأوقات والالتفات