ثمة مثل عربي قديم يقول : جَدَحَ جُوَينٌ من سويق غيره"، يعنون به أن يجود المرء من مال غيره، أو مما لا يملكه، وتبدو وسائل الإعلام العربية حريصة على الأخذ بهذا المثل إبقاء على الأصالة وإحياء لمآثر الأجداد في السخاء، تفعل ذلك بغير تأنٍ أو تدقيق حين توزع الألقاب على الناس كما يوزع المترفون الحلوى -وغيرها- في الأعراس.. إن الصحف العربية، والمجلات - الفنية خاصة- ودور الإذاعة والتلفزة... لا تتردد في إطلاق الألقاب الكبيرة الخطيرة على هذا وذاك، أو خلعها على هذه وتلك وكأنها نوى الكرز في الفم تتسارع إلى لفظها لتتخلص منها... كيف يحدث ذاك؟ يجرب من قرأ أو حفظ بعض الشعر، أو من يلمس في نفسه الموهبة أن ينشر قصيدة، فإن تم له ذاك وشجعه الأصحاب فنشر أخرى صار بين الناس شاعراً.. وهكذا تكتب الصحف اسمه مقروناً بلقب الشاعر و"تُنْزِّل" خبراً أو أخباراً عن اشتراكه في أمسية شعرية... ثم يصبح هو والمتنبي وبابلو نيرودا في مرتبة واحدة..ويقف شاب حليق اللحية مصفف الشعر خلف المكبر الصوتي، ويقلب راحتيه وهو يصدر صوتاً مسموعاً، ويهيأ له مايناسب الحال من مكملات، ثم.. يصير في الغد مطرباً... وهكذا يقرن اسمه بلقب المطرب.. وتحتل نسخ صوره الجدران، ويخطط اسمه بالألوان على قماش مثقب ممتداً بين رصيفي شارع رئيسي... عالياً في الهواء الطلق.. وقد تقود الخطا واحدة ممن فشلن في الدراسة، أو في اختيار طريق الحياة إلى مسرح أو ملهى حيث تتحرك فاردة أصابعها، متمايلة في حركة رتيبة تدعى رقصا.. وهكذا يخلع عليها لقب الفنانة.. ثم تدخل التاريخ من بوابة الموسوعة العلمية الفنية، وتُجْرَى معها اللقاءات والحوارات ولا تبخل هي في الإفصاح عن عمرها الفني وتجربتها الفنية المديدة ونصائحها في مجالات الإخراج، والسينما الهادفة، و صلة المسرح الملتزم بالجماهير.. وقد يراعيها المحاور فينزهها عن الانتماء إلى مدرسة فنية بعينها، ثم يقرر أنها مدرسة قائمة بذاتها.. ثم تنهال عليها العقود والامتيازات.. إن السلطة التنفيذية تستطيع باسم القانون أن أن تقبض على من "ينتحل صفة" ضابط في الجيش أو شرطي، وتحاكمه.. وبعض الناس أو وسائل الإعلام توزع مثل هذه الصفات مجاناً.. ولا تستغرب أن تجدها يوماً ما تدافع عن طبيب مشعوذ يداوي الناس بغير مؤهل علميّ.. أو تُنَصِّب من قام برحلة صيدٍ قرب تدمر عالم آثار.. أو من لخّص وعرض كتاباً في صفحتين ناقداً قديراً.. ألا ترى معي أنّ في مثل هذه الظواهر تسرّعاً في الحكم، وتصرّفاً بعيداً عن العلمية والموضوعيّة، ومسلكاً يُزَيِّن للناس اختيار الطرق القصيرة وغير المشروعة للوصول؟ ألا ترى أنّ في ذلك انتقاصاً من قيمة الفكر وتقليلاً من مكانة الفنّ، وبالتالي استخفافاً بالثقافة والحضارة؟! أَمِنَ الإنصاف أن نساوي بين شاعرٍ له تجربةٌ تزيد على ربع قرنٍ ومجموعة من الدواوين، والجوائز وبين من نشرت له قصيدتان في لقب واحد؟ إنّ تشجيع الموهوبين ورعايتهم قضيّة قوميّة وعلميّة على قدرٍ كبيرٍ من الأهميّة، بل هي أمانةٌ في أعناق المعنيين بها، وعليهم أن يحسنوا فهمها وحملها.. ولكنّها قضيّة أخرى على أيّة حال.. وإذن، فلنقتصد في منح كلّ من حمل قلماً و"غليوناً" صفة العالم المفكّر، وكلّ من حلق نصف لحيته لقب الفنان الكبير أوالقدير.. ولنقتصد في سكب المياه بسخاء على الأشجار اليابسة
ثمة مثل عربي قديم يقول : جَدَحَ جُوَينٌ من سويق غيره"، يعنون به أن يجود المرء من مال غيره، أو مما لا يملكه، وتبدو وسائل الإعلام العربية حريصة على الأخذ بهذا المثل إبقاء على الأصالة وإحياء لمآثر الأجداد في السخاء، تفعل ذلك بغير تأنٍ أو تدقيق حين توزع الألقاب على الناس كما يوزع المترفون الحلوى -وغيرها- في الأعراس.. إن الصحف العربية، والمجلات - الفنية خاصة- ودور الإذاعة والتلفزة... لا تتردد في إطلاق الألقاب الكبيرة الخطيرة على هذا وذاك، أو خلعها على هذه وتلك وكأنها نوى الكرز في الفم تتسارع إلى لفظها لتتخلص منها... كيف يحدث ذاك؟
يجرب من قرأ أو حفظ بعض الشعر، أو من يلمس في نفسه الموهبة أن ينشر قصيدة، فإن تم له ذاك وشجعه الأصحاب فنشر أخرى صار بين الناس شاعراً.. وهكذا تكتب الصحف اسمه مقروناً بلقب الشاعر و"تُنْزِّل" خبراً أو أخباراً عن اشتراكه في أمسية شعرية... ثم يصبح هو والمتنبي وبابلو نيرودا في مرتبة واحدة..ويقف شاب حليق اللحية مصفف الشعر خلف المكبر الصوتي، ويقلب راحتيه وهو يصدر صوتاً مسموعاً، ويهيأ له مايناسب الحال من مكملات، ثم.. يصير في الغد مطرباً...
وهكذا يقرن اسمه بلقب المطرب.. وتحتل نسخ صوره الجدران، ويخطط اسمه بالألوان على قماش مثقب ممتداً بين رصيفي شارع رئيسي... عالياً في الهواء الطلق.. وقد تقود الخطا واحدة ممن فشلن في الدراسة، أو في اختيار طريق الحياة إلى مسرح أو ملهى حيث تتحرك فاردة أصابعها، متمايلة في حركة رتيبة تدعى رقصا..
وهكذا يخلع عليها لقب الفنانة.. ثم تدخل التاريخ من بوابة الموسوعة العلمية الفنية، وتُجْرَى معها اللقاءات والحوارات ولا تبخل هي في الإفصاح عن عمرها الفني وتجربتها الفنية المديدة ونصائحها في مجالات الإخراج، والسينما الهادفة، و صلة المسرح الملتزم بالجماهير.. وقد يراعيها المحاور فينزهها عن الانتماء إلى مدرسة فنية بعينها، ثم يقرر أنها مدرسة قائمة بذاتها.. ثم تنهال عليها العقود والامتيازات..
إن السلطة التنفيذية تستطيع باسم القانون أن أن تقبض على من "ينتحل صفة" ضابط في الجيش أو شرطي، وتحاكمه.. وبعض الناس أو وسائل الإعلام توزع مثل هذه الصفات مجاناً.. ولا تستغرب أن تجدها يوماً ما تدافع عن طبيب مشعوذ يداوي الناس بغير مؤهل علميّ.. أو تُنَصِّب من قام برحلة صيدٍ قرب تدمر عالم آثار.. أو من لخّص وعرض كتاباً في صفحتين ناقداً قديراً..
ألا ترى معي أنّ في مثل هذه الظواهر تسرّعاً في الحكم، وتصرّفاً بعيداً عن العلمية والموضوعيّة، ومسلكاً يُزَيِّن للناس اختيار الطرق القصيرة وغير المشروعة للوصول؟ ألا ترى أنّ في ذلك انتقاصاً من قيمة الفكر وتقليلاً من مكانة الفنّ، وبالتالي استخفافاً بالثقافة والحضارة؟!
أَمِنَ الإنصاف أن نساوي بين شاعرٍ له تجربةٌ تزيد على ربع قرنٍ ومجموعة من الدواوين، والجوائز وبين من نشرت له قصيدتان في لقب واحد؟ إنّ تشجيع الموهوبين ورعايتهم قضيّة قوميّة وعلميّة على قدرٍ كبيرٍ من الأهميّة، بل هي أمانةٌ في أعناق المعنيين بها، وعليهم أن يحسنوا فهمها وحملها.. ولكنّها قضيّة أخرى على أيّة حال.. وإذن، فلنقتصد في منح كلّ من حمل قلماً و"غليوناً" صفة العالم المفكّر، وكلّ من حلق نصف لحيته لقب الفنان الكبير أوالقدير.. ولنقتصد في سكب المياه بسخاء على الأشجار اليابسة